فن الإنصات
إبراهيم بن صالح الحميضي
إن من محاسن الآداب وفضائل الأخلاق وجميل الصفات حسن الإنصات والاستماع؛ فهو خصلة رفيعة ومهارة عالية قل من يحسنها.
- التصنيفات: تزكية النفس - الآداب والأخلاق -
إن من محاسن الآداب وفضائل الأخلاق وجميل الصفات حسن الإنصات والاستماع؛ فهو خصلة رفيعة ومهارة عالية قل من يحسنها.
يحرص كثير من الناس على تعلم فن الإلقاء ومهارة التحدث أمام الناس، بينما لا نجد أحداً يتعلم فن ومهارة الإنصات مع إن المستمع الجيد خير من المتحدث الجيد في أغلب الأحوال.
لقد تضافرت النصوص من الكتاب والسنة وأقوال السلف في وجوب حفظ اللسان وعدم إطلاق العنان له فيما لا خير فيه من الكلام، ولقد كان صلى الله عليه وسلم خير منصت، يستمع للرجل والمرأة والصغير والكبير والمسلم والكافر.
ولا غروَ في ذلك فقد أحسن الناس خلقاً وأشدهم تواضعاً، استمع لزوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تقصُ عليه حديث أم زرع الطويل فأقيل عليها ولم يقاطعها أو يزد ري حديثها، حتى إذا فرغت رفع قدرها وأسعد قلبها بقوله : «كنت لك كأبي زرع لأم زرع».
وحينما جاءه عتبه بن ربيعه رسولاً من قريش يعرض عليه أموراً يريد أن يصده بها عن دعوته أنصت له وأقبل عليه حتى إذا انتهى من كلامه قال له صلى الله عليه وسلم: «أفرغت يا أبا الوليد» ؟ قال:نعم، قال :((فاسمع مني)) الحديث.
كما وردت آثار كثيرة عن السلف في الحث على هذا الأدب الحسن وتربية الناس عليه.
قال الحسن بن علي رضي الله عنه مؤدباً ابنه: يا بني إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ولا تقطع على أحد حديثاً وإن طال حتى يمسك.
وقال الحسن البصري -رحمه الله - «إذا جالست الجهال فأنصت لهم وإذا جالست العلماء فأنصت لهم ؛ فإن في إنصاتك للجهال زيادة في الحلم، وإن في إنصاتك للعلماء زيادة في العلم».
والناس يحبون من يسمع لهم، ويقدر آراءهم ويشعرهم بأهميتهم، والمستمع الجيد يكسب المزيد من المعلومات، ويفهم النفسيات، ويعرف الحاجات، ويَسْلَم من كثير من الآفات والفلتات، وينجح في بناء الصداقات والعلاقات، ويسمو في أعين الأفراد والجماعات، والإنصات والاستماع فن ومهارة له قواعد وأصول وآداب، كما قال الشاعر:
إن بعض القول فنٌّ *** فاجعل الإصغاءَ فناً
فمن آدابه وقواعده: أن تُقبل على المتحدث بوجهك وتتواصل معه بعينك، وتشعره بأنك مستوعب لما يقول بالكلام تارة وبالحركة تارة، كأن تقول: نعم، صحيح، جيد، وتهز رأسك علامةً على قبول كلامه وفهمه، ومن آداب الاستماع: عدم المقاطعة إلا عند الضرورة، وعدم إشعار المتحدث بأنك تعرف ما يقول، فعن معاذ بن سعيد قال: كنا عند عطاء بن أبي رباح فتحدث رجل بحديث فاعترض له آخر في حديثه، فقال عطاء: " سبحان الله ما هذه الأخلاق؟ ما هذه الأخلاق؟ إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم منه به، فأريه أني لا أُحسن منه شيئاً ".
ومن آداب الاستماع: عدم الانشغال عن المتحدث بالبدن أو الفكر، أو الاستماع بنية الرد.
إن الناظر في كثير من مجالسنا يجد خللاً كبيراً في التزام هذا الأدب الرفيع، فالناس فيها ما بين متحدث، ومستعد للحديث، ومزوِّر للرد، ومجادل ومقاطع وثرثار يتكلم فيما يعرف ومالا يعرف، ولا تكاد تُطرح مسألة في أي موضوع كان إلا انبرى لها محللا، ومنظراً، أو ناقداً، دون تقدير لمن هو أكبر منه سناً وأرفع قدرا وأغزر علماً!
ولقد فطن الغربيون لهذا الأدب وعدوه عاملاً مهماً من عوامل النجاح وركناً أصيلاً من أركان التواصل الفعَّال، وألفوا فيه المؤلفات وعقدوا له الدورات، ونحن المسلمين أحق بإتقانه منهم لأننا نعتبره ديناً قبل أن نعده مهارة من مهارات النجاح في الحياة، فهلاَّ رَبيْنا أنفسنا على حسن الإنصات لجميع الناس صغاراً وكباراً؟
فاصلة.......
قال أبو تمّام:
من لي بإنسان إذا خاصمته
وجهلت كان الحلم ردَّ جوابهِ
وتراه يصغي للحديث بسمعه
وبقلبه ولعله أدرى بهِ