عمرة الحديبية - 2
أبو الهيثم محمد درويش
وأبلغهم ما قاله له الرسول صلى الله عليه وسلم بالتفصيل , ثم بدأ رسل قريش يستمعون ويتحاورون مع النبي صلى الله عليه وسلم, وينقلون الصورة لقريش.
- التصنيفات: السيرة النبوية -
عمرة الحديبية - 2
ولما اقترب المسلمون من مكة أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالدخول من طريق غير طريق فرسان مكة حتى يتفادى القتال وحتى تعلم قريش أنه إنما أتى للعمرة, ثم توقفت راحلته فجأة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد حبسها ما حبس الفيل عن مكة, وأنه سيقبل بأي اتفاق تعظم فيه الكعبة , وبالفعل توسط بديل بن ورقاء الخزاعي بين الفريقين ونقل لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء للعمرة, وأبلغهم ما قاله له الرسول صلى الله عليه وسلم بالتفصيل , ثم بدأ رسل قريش يستمعون ويتحاورون مع النبي صلى الله عليه وسلم, وينقلون الصورة لقريش.
قال المباركفوري في الرحيق المختوم:
تبديل الطريق ومحاولة اجتناب اللقاء الدامي
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقاً وَعْرًا بين شعاب، وسلك بهم ذات اليمين بين ظهري الحَمْض في طريق تخرجه على ثنية المُرَار مهبط الحديبية من أسفل مكة، وترك الطريق الرئيسي الذي يفضي إلى الحرم ماراً بالتنعيم، تركه إلى اليسار، فلما رأي خالد قَتَرَة الجيش الإسلامي قد خالفوا عن طريقه انطلق يركض نذيراً لقريش.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بثنية المرار بركت راحلته، فقال الناس: حَلْ حَلْ، فألَحَّتْ ، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل)، ثم قال: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، ثم زجرها فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصي الحديبية، على ثَمَد قليل الماء، إنما يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبث أن نزحوه. فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا.
بُدَيْل يتوسط بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش
ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بديل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وكانت خزاعة عَيْبَة نُصْح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تُهَامَة، فقال: إني تركت كعب ابن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العُوذ المطَافِيل ، وهم مقاتلوك وصادَوك عن البيت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم، ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا ، وإن هم أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره).
قال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتي قريشاً، فقال: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولا، فإن شئتم عرضته عليكم.
فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال: سمعته يقول كذا وكذا، فبعثت قريش مِكْرَز بن حفص، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا رجل غادر، فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه، فرجع إلى قريش وأخبرهم.
رسل قريش
ثم قال رجل من كنانة ـ اسمه الحُلَيْس بن علقمة: دعوني آته. فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها)، فبعثوها له، واستقبله القوم يلبون، فلما رأي ذلك. قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه، فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أري أن يصدوا، وجري بينه وبين قريش كلام أحفظه.
فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رُشْد فاقبلوها، ودعوني آته، فأتاه، فجعل يكلمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل. فقال له عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخري فوالله إني لا أري وجوها، وإني أري أوباشا من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، قال له أبو بكر: امصص بَظْر اللات، أنحن نفر عنه؟ قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت عندي لم أجْزِكَ بها لأجبتك. وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف وعليه المِغْفَرُ، فكلما أهوي عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، وقال: من ذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أي عُذَر، أو لستُ أسعي في غَدْرَتِك؟ وكان المغيرة صَحِبَ قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبلُ، وأما المال فلست منـه فـي شيء) (وكان المغيرة ابن أخي عروة).
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له، فرجع إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على قيصر وكسري والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تَنَخَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيماً له، وقد عرض عليكم خطة رُشْدٍ فاقبلوها.