رسالة وداع وأمل
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
الرسالة العاشرة:
رسالة وداع وأمل
- التصنيفات: قضايا المرأة المسلمة -
الرسالة العاشرة:
رسالة وداع وأمل
بُنيَّتي: ما أصعبَ الفِراقَ! لكن هذه طبيعة هذه الحياة الدنيا، فلا بُدَّ بعد كل اجتماع من فِراقٍ، ولولا أن النفوس تؤمن بلقاءٍ ثانٍ لتَفَطَّرَتِ الأكبادُ من لوعة الفِراق، وأنا أُودِّعُكِ يا بُنيَّتي أُوصيكِ أن تتنبَّهي لمكْرِ قومٍ يَظهرون بمظهر الناصح للمرأة، وهم في الحقيقة ألدُّ أعدائها، فهم لا يفترون ولا يَتْعبون، ولا يكلُّون ولا يملُّون من الحديث عن المرأة وحقوقِها وحُريَّتِها، بأقوال وعبارات مزخرفة الظاهر، جميلة الحواشي والأركان، لَمَّاعة برَّاقة، تكاد تأخُذُ بالألباب، ولكنهم حشوها بالسمِّ الناقع، قد طمَس الله على قلوبهم؛ فلا يشعُرون بما يقومون به من تدمير لمجتمعهم، وإفسادٍ لغيرهم، وهم يُظهِرون هذا المكْرَ في صورة النُّصْح، فعياذًا بالله من عدوٍّ في صورة ناصح.
بُنيَّتي: أيَّتُها الدُّرَّةُ المصونةُ، والجوهرةُ المكنونةُ، أنتِ مَلِكةٌ في دين الإسلام، قالت ذلك عجوزٌ غيرُ مسلمة، بعد أن عانَتْ مِنْ زيف وكذب الحضارة التي عاشتْها، فقد ذكر أحدُ المشايخ في كتاب له بعنوان "إنها مَلِكة" قصةَ طبيبٍ كان يدرس في بريطانيا، قال هذا الطبيب: كانت جارتُنا عجوزًا يزيد عمرُها على السبعين عامًا، كانت تستثير شفقةَ كُلِّ مَنْ رآها، قد احدودَبَ ظَهْرُها، ورقَّ عَظْمُها، ويبِس جِلْدُها، ومع ذلك فهي وحيدةٌ بين جُدْران أربعة، تدخل وتخرُج وليس معها مَنْ يُساعدُها من ولد ولا زوج، تطبخ طعامَها، وتغسل لباسَها، منزلها كأنه مقبرةٌ، ليس فيه أحد غيرها، ولا يقرَع بابَها أحدٌ، دَعَتْها زوجتي لزيارتنا ذاتَ يومٍ، فأخبرَتْها زوجتي بأن الإسلام يجعل الرجل مسؤولًا عن زوجته، يعمل من أجلها، يبتاع طعامَها ولباسَها، يُعالجُها إذا مرِضَتْ، ويُساعِدُها إذا اشتكَتْ، وهي تجلس في بيتها، تجِبُ عليه نَفَقتُها ورعايتُها، وحماية عِرْضِها ونفسِها، فإذا رُزِقَتْ أولادًا وَجَبَ عليهم هم أيضًا بِرُّها، فإن لم تكن المرأة ذات زوج وَجَبَ على أبيها أو أخيها أو وليِّها أن يرعاها ويَصُونَها، كانت هذه العجوز تستمع إلى زوجتي بكُلِّ دهشةٍ وإعجابٍ؛ بل كانت تُدافِعُ عَبَراتِها وهي تتذكَّرُ أولادَها وأحفادَها الذين لم تَرَهُمْ منذ سنواتٍ، ولا يزورُها أحدٌ منهم، بل لا تعرِف أين هم، وقد تموت وتُدفَن وهو لا يعلمون؛ لأنها لا قيمةَ لها عندهم، أنهَتْ زوجتي حديثَها، فبقيت العجوزُ واجمةً قليلًا، ثم قالت: "في الحقيقة، إن المرأة في بلادكم مَلِكةٌ...مَلِكة".
نعم بُنيَّتي أنتِ مَلِكة، تتمنَّى كثيرٌ من النساء أن يعِشْنَ حياتَكِ، فقد ألقى أحدُ مشايخ بلاد الشام محاضرةً في دولةٍ غير مسلمة عن حقوق المرأة في الإسلام، فقامَتِ امرأةٌ من تلك البلاد، وقالت: خُذُوني لأعيش عندكم فترةً ثم اقتلُوني!
وأنتِ يا بُنيَّتي ستبقين مَلِكةً، ما دُمْتِ متمسِّكةً بتعاليم دينِكِ، فإن أنتِ تهاونْتِ فيها فضلًا عن أن تتركيها، فقد أعملتِ معاولَ الهَدْمِ في عَرْشِكِ، أُعيذُكِ بالله من ذلك.
بُنيَّتي: إني آمُل وأرجو وأسال الله ألَّا يُخيِّبَ رجائي فيكِ، وأن يكون التزامُكِ بطاعة الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام؛ من قرارٍ في البيت، وارتداء لحِجاب الوَجْه، وسَتْرٍ للبدن، واجتنابٍ لمخالطة الرجال الأجانب والخلوة بهم، بِناءً على قناعة تامَّة مِنْكِ أن هذه تعاليم الإسلام وأحكامه، يجب العمل بها؛ رجاء ثواب الله، وخوفًا من عذابه، وليست تقاليد وعادات مجتمعٍ قد تزول في يوم من الأيام، سُئِلَتْ فتاةٌ ترتدي الحجاب في عزِّ الصيف القائظ: ما الذي يجعلُكِ تَصبِرين على حجاب الوجه في هذا الحرِّ الشديد؟ فأجابت: ﴿ { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا } ﴾ [التوبة: 81].
بُنيَّتي: إن سُنَن الله لا تُحابي أحدًا، فمن أشعل نارًا اكتوى بها، فالسُّفُور يقود إلى الفُجُور، والاختلاط يُؤدِّي إلى انتهاك الأعراض، وإطلاق البَصَر فيما حرَّمَ اللهُ يُذهِبُ بحلاوة الإيمان ونور القلب، ومساواةُ المرأة بالرجل جعلَها ألعوبةً في أيدي السفهاء ومرضى القلوب، وما يُسمَّى بحرية المرأة هو في الحقيقة حريةُ وصول الرجل إليها؛ ليعلبَ ويلهوَ بها، وعملُها خارج بيتها جعلها تُساوِمُ على شَرَفِها وعِرْضِها، وواقع المرأة في كثير من البلدان شاهدٌ لذلك.
زار أحد مشايخ بلاد الشام بعض البلاد الأوروبية، فقال: زرْتُ أوروبا أربع مرات، فما تألَّمْتُ فيها لشيء كما تألَّمْتُ لشقاء المرأة الغربية وابتذالها في سبيل لقمة العيش، أو رغبتها في أن تكون مثل الرجل تمامًا، وقد استطاع الرجل أن يستغلَّ ضَعْفَ المرأة في هذه الناحية، فسخَّرَها إلى أقصى الحدود في سبيل منافعه المادية، وشهواته الجنسية.
بُنيَّتي: الصحابية بريرة كان لها زوج يُسمَّى مُغيثًا رضي الله عنهما، وكان يحبُّها حبًّا شديدًا، وهي تُبغِضُه بُغْضًا شديدًا، فكان يلحق بها في الأسواق يبكي، وهي تردُّه، حتى استشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم، فشفع له إلى بريرة، فقالت: يا رسول الله، إن كنت تأمرني فسَمْعًا وطاعةً، وإن كنت تُشيرُ عليَّ فلا حاجةَ لي فيه، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((إنما أنا شافِعٌ))، فأبَتْ أن ترجع إليه، فلو أمرَها الرسول صلى الله عليه وسلم، فسترجع لزوجِها مع أنها تُبغِضُه؛ سمعًا وطاعةً لرسول
الله عليه الصلاة والسلام، فكيف لا تُطيعُ الفتاةُ المسلمةُ أوامرَ الله جل جلاله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، مع أن في امتثال تلك الأوامر الفلاحَ والسعادةَ لها في الدنيا والآخرة.
بُنيَّتي: بيتُكِ ليس سجنًا وضعَكِ فيه الرجلُ كما يُصوِّر ذلك البعض، بل هو عُشُّكِ الآمن، ففيه تحفظين نفسَكِ من أبواب الشيطان ومنافذه، وفيه تجدين سعادتَكِ وسرورَكِ، وهو المكان الذي يُوفِّر لك أسباب الراحة الذهنية والجسدية والنفسية، وهو المملكة التي تُربِّينَ فيها أجيالَ الأُمَّة، فقرِّي فيه تَسعَدي وتَغنَمي.
بُنيَّتي: إذا عرَفْتِ مقدار محبَّة وشفقة وحنان والدِكِ عليكِ، فاقبَلي منه ما كتَبه لكِ في هذه الرسالة والرسائل السابقة، فهو بالإضافة لمحبَّتِه لَكِ، له تجاربُ في الحياة، عرَف حُلْوَها ومُرَّها، وطيِّبَها وخبيثَها، وصالحَها وفاسِدَها، فكلامُهُ صادرٌ لكِ عن محبَّة وشفقة، ومن تجربة كذلك.
بُنيَّتي: أسأل الله الكريم أن تكون هذه الكلمات قد وصلت إلى قلبِكِ قبل أن تصِلَ إلى أُذُنيكِ، وأن ينفعَكِ بها، وأن يرزُقَكِ العلمَ النافعَ، والعمل الصالح، والزوج الطيب، والأبناء البَرَرة، وأن يُبارِكَ فيكِ وفي ذُرِّيَّتِكِ، وأن يُديمَ عليكِ السعادةَ في دُنْياكِ، وأن يجعلَها موصولة بالسعادة في حياة البرزخ، وحياة الآخرة، كما أسأله أن يجعل هذا العمل القليل مُباركًا نافِعًا، خالصًا لوجهه الكريم، إنه جوَاد كريم، سميع مجيب، وأستغفر الله من كل زَلَلٍ وخطيئة.
والدك المُحب المُشفق