صناديق الاستثمار في عشر ذي الحجة
قد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم لكل عامل أن يعمل ما يرغب فيه ويحبه ويتوافق مع قلبه بغضِّ النظر عن فعل الناس
أخبرنا الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا وهو يدعوهم إلى عبادة الله تعالى، وما كَلَّ ولا مَلّ ولا سَئِم، وكانت أعمار بني آدم طويلةً في تلك الأزمنة، وبذلها الصالحون منهم في طاعة الله تعالى، ولما ذُكر عندهم أن أعمار أمة خاتم الأنبياء ما بين الستين إلى السبعين قالت امرأة: لو أدركت ذلك الزمن لقضيت العمر في سجدة واحدة!.
ولكن الله تعالى بفضله وبمنه وكرمه عوَّض نقص أعمار هذه الأمة بأن جعل لهم مواسم الخيرات محطات يتزودون بها، وفرصًا يغتنمونها في إصلاح قلوبهم وأعمالهم، وهي بمثابة دورة تربوية يُرَبُّون فيها أنفسهم، ومن تلك المواسم عشر ذي الحجة إذ فُضِّلت على سائر أيام السنة للحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه"، قالوا "ولا الجهاد في سبيل الله، قال ولا الجه اد إلا رجلٌ خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» " أخرجه البخاري، والترمذي وفيه: "من هذه الأيام العشر".
فقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم لكل عامل أن يعمل ما يرغب فيه ويحبه ويتوافق مع قلبه بغضِّ النظر عن فعل الناس، وكما قال مالك رحمه الله في رسالته لعبيد الله العمري: "إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق... إلى أن قال: وأنا قد فُتح لي في العلم وأرجو أن لا أكون ما أنا فيه بأدنى مما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير".
وليبدأ أولا بتطهير قلبه من فواحش الباطن كالحسد والكبر وسوء الظن والحقد، فإذا طَهُر القلب من هذه القبائح أصبح كالأرض الطيبة ينفع فيه أي عمل صالح مهما كان يسيرًا. فينبغي للمشفق على نفسه أن يستثمر لنفسه في هذه الأيام المباركة ويتخصص في مشروع أو أكثر فيستكثر منه، ولا سيّما ما يجد له توافقًا مع قلبه وأثرًا عليه، ويرى نفسه تنشط له أكثر من غيره. ومن هذه الأعمال:
1. بر الوالدين، فقد يقول قائل: سأستثمر هذه العشر في بر والدتي أو والدِي، وسأجلس بجانبهما مؤنسًا وخادمًا
2. .ويقول آخر: سأغتنم هذه العشر فرصةً لصلة أرحامي وأقاربي.
3. وآخر يقول: سأتخذ هذه العشر مَوْسما لزيارة المرضى في المستشفيات داعيًا لهم وراقيًا ومصبِّرًا.
4. وقد يقول آخر:" أما أنا فأَلزم الذكر وأعالج قلبي على موافقة لساني، وأُكثِر من الأذكار والاستغفار مرقِّقًا لقلبي، مستشعرًا فضل الله عليّ.
5. وقد يرى آخر أن من المهم استغلالَ هذه العشر في الدعاء والتضرع إلى الله تعالى في أوقات الإجابة، ويدعو للمسلمين وولاتهم بالصلاح والهداية والتوفيق، ويقول: سأبكي بين يدي الله تعالى طوال هذه العشر بأن يصلح الله أحوال الأمة ويكشف عنها الغمة، وأن يُولِّيَ عليها خيارها، وأن يكفيها شرَّ شرارِها.
6. وقد يرى آخر أنه بحاجة إلى تطهير القلب وتصحيحه وتنقيته من الغلّ والحسد والبغضاء والحقد وسوء الظن والكبر ورؤية الفضل على غيره، ويقول سأتخذ من هذه العشر فرصةً لغسل قلبي وتنقيته من هذه الآفات.
7. وقد يرى آخر أن هذه العشر فرصتُه في مجاهدة نفسه على العفو والمسامحة والتجاوُز عن الآخرين.
8. وقد يتطلع آخر إلى معالجة لسانه عن الغيبة وسمعِه عن الاستماع إليها، ويقول لن يسجَّل علي في هذه العشر غيبةٌ لمسلم أو سماعها.
9. ويرى آخر أن هذه العشر فرصتُه في الصيام، ويجد فيه من اللذة ما لا يجده في سائر العبادات.
10. وقد تجد من يَرغَب في الصدقة، ويرى أنّ أثرها على نفسه وقلبه أكثرُ من غيرها من الصالحات.
11. وهناك من ينشط في السعي في إصلاح ذات البَيْن ويقول سأبدأ في هذه العشر في إصلاح ما بين أقاربي وأحبابي وزملائي، وأرمِّم تلك الشروخ التي وقعت بينهم؛ فإني أجدني أنشط لهذا أكثرَ من غيره.
12. وسنرى من يعاهد الله على بذل النصيحة للجميع ولا يمر عليه يومٌ أو ليلة في هذه العشر إلا وقد بذل فيها شيئا من النصح.
13. وقد نسمع من يقول أنا في أمر الدعوة إلى الله تعالى وترغيب الناس في الخير أكثرُ استفادةً من غيرها من المشروعات؛ فسأتخذ من هذه العشر مَوْسمًا لدعوة الشباب مثلا أو دعوة القرى أو غير ذلك من شرائح المجتمع.
14. ولن نعدم في هذه العشر من يَرغب وينشط لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيأخذ على نفسه أن لا يمر عليه وقت إلا وقد أمر بمعروف أو نهى عن منكر بالحكمة والموعظة الحسنة.
15. وقد يجد بعض أهل العلم من اللذة والسرور والفرح في تعليم الناس ما لا يجده في غيره من العبادات، فيتخذ من هذه العشر مَوْسمًا للتعليم في جميع أوقات الصلوات.
16. ولا شك أن هناك عددًا سينشطون لإقراء القرآن وتعليمه لمن لا يعلمه أضعافَ ما ينشطون لغيره، فيتخذون من هذه العشر مَوْسمًا لتعليم الكبار والصغار كتاب الله تعالى.
17. وقد تجد من يقول أنا إنما أجد قلبي وصلاح نفسي بملازمة المسجد للعبادة، فستكون هذه العشر فرصتي التي أنتهزها للبقاء في المسجد تالِيًا وذاكرًا ومصلِّيًا وداعيًا.
18. وقد يجد بعض الناس من اللذة والفرح والسرور في السعي على الفقراء والمساكين والأرامل أكثرَ مما يجده في غيرها من الأعمال، فيشغَل بالَه بهم في هذه العشر المباركة.
19. وآخر حوَّلَ هذه العشر إلى مَوْسم للوعظ والإرشاد وتذكير الناس وترقيق قلوبهم في المساجد والمناسبات، ويجد أثر ذلك على نفسه وقلبه ظاهرًا.
وقد ينشط آخرون لأعمالٍ غير هذه وهي كثيرةٌ، ولله الحمد والمنة أن نوَّع لنا العبادات حتى يأخُذ كل مسلم ما يناسبه وينشط له ويجد قلبه ونفسه فيه، وهكذا ينبغي لكل محب لنفسه أن يسارع في استثمار هذه العشر ما دام في أولها؛ فيوشك أن يقال له قد انقضت ولم يشعر وقد فرَّط وما نفع نفسه بشيء.
أسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يُعيننا على ذكره وشكره، وأن يبصِّرنا بالحق ويثبتنا عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
يحيى بن إبراهيم اليحيى
أستاذ السيرة والتاريخ في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سابقا. وهو المشرف العام على مستودع المدينة المنورة الخيري
- التصنيف: