الإمام الطبري - (7) خلق الإمام الطبري وذكاؤه وحفظه
إن الصفات الخَلْقِيَّة في الواقع لا يتوجه بها أو منها إلى مدح المخلوق والثناء عليه بها، إلا إظهارًا لمدح خالقه وموجده، الذي خلقه على هذه الصورة، وأبدعه عليها، وهو وغيره من صنع الله الذي أتقن كل شيء.
إن الصفات الخَلْقِيَّة في الواقع لا يتوجه بها أو منها إلى مدح المخلوق والثناء عليه بها، إلا إظهارًا لمدح خالقه وموجده، الذي خلقه على هذه الصورة، وأبدعه عليها، وهو وغيره من صنع الله الذي أتقن كل شيء.
ويذكر - بالمناسبة - أن الإمام عبدالعزيز بن يحيى الكناني (240) صاحب (الحيدة والاعتذار) في مناظرة المرِّيسي، والمعتزلة بحضرة المأمون، وكان دميمَ الخَلْقِ والصورة، فلما حضر مجلس المأمون لعقد المناظرة أول مرة، سَخِرَ مِن خَلْقِه جلساؤُه من أهل الاعتزال، وهو ساكت، ثم باسطه المأمون وطلب منه مناظرة خصومه، فقال قبل البَدْء بمقصود حضوره، لما قال فيه واصفه: يا أمير المؤمنين، يكفيك من كلام هذا قُبْحُ وجهه، لا والله ما رأيت خلَقَ اللهُ قطُّ أقبحَ منه وجهًا!
ثم ذكر أن المأمون نظر إلى جَصٍّ قد انتفخ في إيوانه، فقال لأحد جلسائه: أما ترى هذا الذي انتفخ من هذا النقش، وإنه سيقع فبادر إليه، فقال له صاحبه: قطَعَ الله يدَ صانعه؛ فإنه قد استحق العقوبة على عمله هذا.
فقال الكناني: يا أمير المؤمنين، قد سمعت بعضَ من هنا يقول لك: يكفيك من كلامه قُبْحُ وجهه، فما يضرني قبحُ وجهي مع ما رزقني الله عز وجل من فهمِ كتابه، والعلم بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم! فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه، ثم قلت: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءَك، فقد رأيتك تنظر هذا النقش وانتفاخ الجص وتذكره، وسمعت فلانًا يعيب ذلك، ويدعو على صانعه، ولا يعيب الجص ولا يدعو عليه؟!
فقال المأمون: العيب لا يقع على الشيء المصنوع، وإنما يقع على الصانع! قلت: صدقتَ يا أمير المؤمنين، ولكن هذا يعيب ربي لمَ خلقني قبيحًا، فازداد تبسم المأمون حتى ظهرت ثناياه [1].
ولم أقصد من هذه العبرة سوى التأكيد على أنه لا عَلاقة بين فضل العالم أو نقصه وصفته الخلقية، وما تعرضت لوصف - ما ذكره المترجمون على قلته - من خلق ابن جرير إلا ليتصور في الذهن لا لمدحه به.
فمن ذلك أنهم وصفوه بأنه طويلُ القَامة، نحيفُ البدن، لونه أسمر، كان واسع العينين كبيرَهما، كثير اللحية، إلا أن السواد عليها هو الغالب، ومات ولم يمتلئ رأسه شيبًا، وقد كُفَّ بصره في آخر حياته، بل قبل موته بمدة، وبعد موت شيخه داود الظاهري سنة (270هـ).
وكان ابن جرير له ذوق في أكله وطعامه، فكان لا يحب التمر ولا العسل[2]، كما كان طبيبًا يطبِّب نفسه لا غيره، فيجعل لنفسه الأدوية المتنوعة.
فقد اتفق أنه مَرِض مرةً فأرسل إليه الوزير علي بن عيسى طبيبًا، فسأله عن حاله، فعرَّفه ابن جرير بما يشكو منه وأخبره بما تعاطاه من الأدوية والطعام، وما يعتزم عليه مستقبلاً، فقال له الطبيب: ليس عندي شيء فوق ما وصفتَه لنفسك! والله لو كنت في ملَّتنا لعُدِدتَ من الحواريين - لعله يقصد ملة الأطباء، أو هو نصراني -، ثم عاد الطبيب إلى الوزير فقصَّ عليه أمر الطبري، فأعجبه.
وكان أبو جعفر مريضًا بذات الجنب، فكان يعتاده ويتردد عليه وجعه.
ومما ظهر على ابن جرير ذكاؤه المفرط، وهو نعمة من الله على عبده، وفَّقه الله إلى استغلالها في نفعه الدنيوي والأخروي؛ بتسخيرها في خدمة دينه بالعلم والتعليم.
والذكاء لا شك أنه من أهم مقوِّمات وأسباب التحصيل التام للعلم، كما قال الشافعي - رحمه الله -:
أخي لن تنال العلمَ إلا بستةٍ
سأُنْبيك عن تفصيلها ببيانِ
ذكاءٌ وحرصٌ واجتهادٌ وبُلغةٌ
وصحبةُ أستاذٍ وطولُ زمانِ
وابن جرير - رحمه الله - وفِّق لهذه الأسباب الستة كلها.
ويربط كثير من الباحثين بين الذكاء والحفظ على أن الحفظ لازمٌ للذكاء، وهذا صحيح في الجملة، لكنه لا يلزم من الذكاء الحفظ، ولا من الحفظ الذكاء؛ إذ يوجد حفَّاظ لكنهم بضد ذلك في الذكاء، وربما يكون ذكيًّا لكنه في الحفظ بليد.
لكنه في الغالب الأعم أن الذكي إذا وَظَّف ذكاءه في حفظه وما ينفعه، فإنه ينتفع به.
والإمام ابن جرير ممن تكاملت عنده هاتان الصفتان، ومثله ممن بعده شيخ الإسلام ابن تيمية.
ومن شواهد هذا أنه - رحمه الله -: حفظ القرآن وعمره سبع سنين، وأمَّ الناس وعمره ثمان، وكتب الحديث وعمره تسع، وهذا في العرف العام يعد طفلاً صغيرًا، وهو في زمننا هذا لا يخرج من بيته.
ومن قوة حفظه أيضًا قصته وأقرانه مع شيخهم الحافظ أبي كريب الهمداني الكوفي حيث اختبرهم في حفظ ما ألقاه عليهم، ولم يجد فيهم من يحفظه إلا الحافظ ابن جرير؛ فكان أن قرَّبه وأدخله داره من بينهم، وكان عمره آنذاك في حدود العشرين سنة.
كذا لما دخل ابن جرير مصر ولقي الشيخ أبا الحسن عليَّ بن سراج المصري، لم يجد ابن سراج في مصر من يحفظ شعر الطرماح بن حكيم (135هـ) سواه، فأملاه الطبري عليه وفسَّر غريبَه.
وهو - رحمه الله - لم يدخل مصر ويلقى ابن السراج إلا بعد سنة 256هـ، وكان عمره حينئذٍ ثنتين وثلاثين سنة.
وذكر عن نفسه أنه طلب من صديقه العَروضَ للخليل بن أحمد الفراهيدي -الإمام المشهور بالعربية وفنونها - قال: فجاء به، فنظرت فيه ليلتي، فأمسيت غيرَ عروضيٍّ وأصبحت عَروضيًّا! وذلك لما دخل مصر ومساءلة العلماء كلٌّ في فنه الذي يجيده، فكان يجيبهم كلهم، حتى جاءه رجل فسأله عن العروض، فواعده غدًا ثم أتقنه في ليلة.
وفي هذا يقول تلميذه عبدالعزيز بن محمد الطبري - في كتابه الذي جمع فيه أخبار شيخه، ونقل منه ياقوت في معجمه -: كان أبو جعفر من الفضل والعلم والذكاء والحفظ على ما لا يجهله أحد عرفه؛ لأنه جمع من علوم الإسلام ما لا نعلمه اجتمع لأحد من هذه الأمة، ولا ظهر من كتب المصنفين، وانتشر من كتب المؤلفين ما انتشر له.
ومن شواهد فطنته وذكائه - مع ما تقدم - ما روي بالإسناد أن رجلاً تزوج جارية، فأحبها وأبغضته حتى ضجرت منه[3]! فقال لها: لا تخاطبيني بشيء إلا قلت لك مثله، فكم أحتملُك؟
فقالت المرأة في الحال: أنت طالق ثلاثًا. قال: فأبلستُ! فدُلِلْتُ على محمد بن جرير، فقال لي: أقم معها بعد أن تقول لها: أنت طالق ثلاثًا إن طلقتُك، فاستحسن هذا الجواب.
والمقصود من هذا توضيح نماذج من نباهة ابن جرير، وأمثالها مبثوثة في مطولات تراجمه.
[1] هذا الخبر مطولًا في مقدمة الحيدة والاعتذار للكناني (ص/ 27 - 31).
[2] هذان وإن كان ابن جرير لا يحبهما إلا أن فضلهما على الطعام معلوم في الشرع والحس والتجربة، ففي صحيح مسلم من حديث عائشة مرفوعًا: ((بيت لا تمرَ فيه: جِياعٌ أهله)) مرتين، وفي الصحيحين قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن يكن الشفاء ففي ثلاث: لعقةِ عسل، وشرطة حجَّام، وكيَّة نار))، ولكن النفس ربما تكره محبوبًا؛ لأنها تعافُه خَلْقًا أو طعمًا، وربما ضرَّها ولم ينفعها.
[3] ذكر الشيخ صالح العثمان القاضي في فوائده ص51، أنه أحبها حبًّا شديدًا، وأبغضته بغضًا شديدًا، وكانت تواجهه بالشتم والدعاء.
ونقل في الجواب عن الحال قولاً لابن القيم من بدائعه؛ وصفه بأنه أحسن من الوجوه المذكورة، وهو جارٍ على أصول المذهب، وهو تخصيص اللفظ العام بالنية؛ أي: نية المطلق. وراجعه فيه.
- التصنيف: