مسألة موافقة العيد يوم الجمعة وعمل كل أهل بلد بحسب الفتوى لديهم
الصحيح أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة، لكن على الإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودَها ومن لم يشهد العيد.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على سيِّدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فهذه المسألة وهي موافقة العيد ليوم الجمعة، وهل تُصلَّى الجمعة أو لا تُصلَّى. هذه مسألة اختلف فيها السادة العلماء بناءً على ما بلغهم من النصوص النبوية والآثار عن الصحابة، وكذلك بحسب فهم العلماء لدلالتها.
ومدار البحث في المسألة على:
1- ما ثبت في صحيح البخاري من طريق الزهري قال: حدثني أبو عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدتُ العيد مع عثمان بن عفان رضي الله عنه فكان ذلك يوم الجمعة، فصلَّى قبل الخطبة، ثم خطب فقال: يا أيها الناس إنَّ هذا يومٌ قد اجتمع لكم فيه عيدان، فمن أحبَّ أن ينتظر الجمعة من أهل العوالي فلينتظر، ومن أحب أن يرجع فقد أذنتُ له ".
قال النووي: العالية بالعين المهملة هي قرية بالمدينة من جهة الشرق. وقال ابن حجر: العوالي: جمع العالية وهي قرى معروفة بالمدينة.
2- ما ثبت في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية. قال: وإذا اجتمع العيدُ والجمعة في يومٍ واحدٍ يقرأ بهما أيضاً في الصلاتين.
3- وكذلك ما رواه إِياس بن أبي رملة الشامي رحمه الله قال: "شهدتُ معاويةَ بنَ أبي سفيان رضي الله عنهما وهو يسأل زيدَ بنَ أرقم رضي الله عنه، قال: شهدتَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يومٍ واحد؟ قال: نعم، قال: فكيف صنع؟ قال: صلَّى العيد، ثم رخَّص في الجمعة، ثم قال: {مَن شاء أن يُصلِّيَ فليُصلِّ} أخرجه أحمد والدارمي وأبو داود وابن ماجة والنسائي وابن خزيمة وغيرهم. وفي رواية النسائي: قال: نعم، صلَّى العيد من أول النهار ورخَّص في الجمعة. دون قوله: "من شاء أن يُجَمِّع فليُجمِّع".
والإسناد مُضعَّف؛ لأن فيه إياس بن أبي رملة الشامي، وهو مجهول. قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب": ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن المنذر: إياس مجهول. قال ابن القطان هو كما قال. ا.هـ. والحديث صححه علي ابنُ المديني فيما حكاه عنه الحافظ ابن حجر في "التلخيص"، والعلامة النووي جود إسناده في "المجموع". فلعله منهما بناءً على شواهده.
4- وكذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: " قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإِنَّا مُجَمِّعون " أَخرجه أبو داود والبيهقي والحاكم، وفي سنده كلام من أجل بقية بن الوليد الكلاعي، قال في "التقريب": صدوق كثير التدليس عن الضعفاء. انتهى. لكن الحديث يحسِّنه بعض العلماء بشواهده.
5- وكذلك ما رواه عطاء بن أبي رباح رحمه الله قال: صلَّى بنا ابن الزبير رضي الله عنهما في يوم عيد في يوم جمعة أول النهار، ثم رحنا إلى الجمعة فلم يخرج إلينا، فصلينا وُحْدَاناً، وكان ابن عباس بالطائف، فلما قدم ذكرنا ذلك له فقال: أصاب السُّنة. رواه أبو داود والنسائي وصححه النووي، وقوله: وُحْداناً: جمع واحد، والمراد: صلينا منفردين واحداً واحداً.
وبناء على هذه النصوص وغيرها مما هو في معناها تعددت مذاهب العلماء، فمذهب الأئمة الحنفية والمالكية أنه إذا اجتمع يوم العيد ويوم الجمعة فإن إحدى الصلاتين لا تجزئ عن الأخرى.
وهذا هو مذهب الشافعي كذلك؛ غير أنه يرخص لأهل القرى الذين بلغهم النداء وشهدوا صلاة العيد ألا يشهدوا صلاة الجمعة.
وأما الحنابلة فقال العلامة ابن قدامه رحمه الله: " مذهب الإمام أحمد: أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة، إلا الإمام لا تسقط عنه، إلا ألا يجتمع معه من يصلي به الجمعة، وقيل في وجوبها على الإمام روايتان، وروي عنه أيضاً: أنه إذا صُلِّيت الجمعةُ في وقت العيد أجزأت صلاةُ الجمعة عن صلاة العيد. وذلك مبني على رأيه في جواز تقديم الجمعة قبل الزوال" انتهى.
والعلماء متفقون على أن الإعفاء من شهود الجمعة لا يسقط فرض صلاة الظهر، وفي هذا يقول الإمام يوسف ابن عبد البر النمري القرطبي المالكي رحمه الله في "التمهيد": أما القول إن الجمعة تسقط بالعيد ولا تُصلَّى ظهراً ولا جمعة فقول بيِّن الفساد وظاهر الخطأ، متروكٌ مهجورٌ لا يُعرَّج عليه. انتهى.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه المسألة فأجاب:
الحمد لله، إذا اجتمع الجمعة والعيد في يوم واحد فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه تجب الجمعة على من شهد العيد. كما تجب سائر الجُمَع، للعمومات الدالة على وجوب الجمعة.
والثاني: تسقط عن أهل البَرِّ مثل أهل العوالي والسواد [ أهل السواد: هم أهل القرى والمراد بهم هنا: الذين يبلغهم النداء ويلزمهم حضور الجمعة في البلد ] لأن عثمان بن عفان أرخص لهم في ترك الجمعة لما صلَّى بهم العيد.
والقول الثالث: وهو الصحيح أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة، لكن على الإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودَها ومن لم يشهد العيد.
وهذا هو المأثور عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كعمر وعثمان وابن مسعود وابن عباس وابن الزبير وغيرهم، ولا يُعرف عن الصحابة في ذلك خلاف.
وأصحاب القولين المتقدِّمَين لم يَبلُغهم ما في ذلك من السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا اجتمع في يومه عيدان صلَّى العيد ثم رخص في الجمعة، وفي لفظٍ: أنه قال: "أيها الناس إنكم قد أصبتم خيراً، فمن شاء أن يشهد الجمعة فليشهد، فإنا مُجَمِّعون".
وأيضاً: فإنه إذا شهد العيد حصل مقصود الاجتماع، ثم إنه يُصلِّي الظهر إذا لم يشهد الجمعة، فتكون الظهر في وقتها، والعيد يُحصِّل مقصود الجمعة.
وفي إيجابها على الناس تضييق عليهم وتكدير لمقصود عيدهم وما سُنَّ لهم من السرور فيه والانبساط؛ فإذا حُبِسُوا عن ذلك عاد العيد على مقصوده بالإبطال، ولأن يوم الجمعة عيد ويوم الفطر والنحر عيد، ومن شأن الشارع إذا اجتمع عبادتان من جنس واحد أدخل إحداهما في الأخرى، كما يدخل الوضوء في الغسل وأحد الغسلين في الآخر، والله أعلم. انتهى كلامه رحمه الله.
وقد أفتت لجنة الإفتاء بالمملكة العربية السعودية برئاسة سماحة شيخنا العلامة عبدالعزيز ابن باز رحمه الله في هذه المسألة بما نصُّه:
من صلَّى العيد يوم الجمعة رُخِّص له في ترك الحضور لصلاة الجمعة ذلك اليوم إلا الإمام، فيجب عليه إقامتُها بمن يحضر لصلاتها ممن قد صلَّى العيد وبمن لم يكن صلَّى العيد، فإن لم يحضر إليه أحدٌ سقط وجوبها عنه وصلى ظهرًا، واستدلوا بما رواه أبو داود في سننه عن إياس بن أبي رملة الشامي قال: « شهدت معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم قال: أشهدتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يوم؟ قال: نعم، قال: فكيف صنع؟ قال: صلَّى العيد، ثم رخَّص في الجمعة، فقال: من شاء أن يُصلِّي فليصلِّ »، وبما رواه أبو داود في سننه أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مُجَمِّعون »، فدل ذلك على الترخص في الجمعة لمن صلَّى العيد في ذلك اليوم، وعُلِم عدم الرخصة للإمام؛ لقوله في الحديث: « وإنا مجمعون »، ولما رواه مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة والعيد بسبح والغاشية، وربما اجتمعا في يوم فقرأ بهما فيهما »، ومن لم يحضر الجمعة ممن شهد صلاة العيد وجب عليه أن يصلي الظهر عملاً بعموم الأدلة الدالة على وجوب صلاة الظهر على من لم يُصَلِّ الجمعة. انتهى.
وبعد: فإن هذا الخلاف يسع المسلمين، ولا تثريب على من اتبع مذهب أحدٍ من الأئمة الأربعة رحمهم الله، ما دام حريصاً على اتباع السنة والعمل بها، وحينئذ فلا يجوز أن يكون تشديدٌ من أحدٍ على أحدٍ أخَذ بأحد الأقوال المعتمدة في هذه المسألة. ومن الحسن لأهل كل بلاد أن يأخذوا بالفتوى من مرجعها من أهل العلم في بلدهم.
أسأل الله أن يتقبل من الجميع، وأن يجمع أُمّة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام على الحق والهدى، وأن يرفع عنهم كل ضرٍّ وبلوى، وأن يصلح أحوالهم في كل مكان. وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد.
- التصنيف:
- المصدر: