الرجل والمرأة في الإيمان سواء
لم يفرِّق الإسلام بين المرأة والرَّجل في مقتضيات الإيمان وواجباته وأركانه وضروراته، وكذلك في ملامحه وأوصافه، وما يترتَّب عليه من أحكامٍ في الدُّنيا والآخرة، وكذلك لم يفرِّق الإسلام بينهما في الخطاب الموَّجه إلى كلٍّ منهما من قِبَل الله تعالى سواء في قرآنه العظيم أو على لسان نبيِّه الكريم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده:
الإيمان بالله أصل الدِّين، وركنه الرَّكين، وأوَّل ما يُطالب به العبد؛ لذا لم يفرِّق الإسلام بين المرأة والرَّجل في مقتضيات الإيمان وواجباته وأركانه وضروراته، وكذلك في ملامحه وأوصافه، وما يترتَّب عليه من أحكامٍ في الدُّنيا والآخرة، وكذلك لم يفرِّق الإسلام بينهما في الخطاب الموَّجه إلى كلٍّ منهما من قِبَل الله تعالى سواء في قرآنه العظيم أو على لسان نبيِّه الكريم في سُنَّته الثَّابتة عنه صلّى الله عليه وسلّم، فإيمان المرأة هو عينُ إيمانِ الرَّجل، بلا أدنى فارق بينهما، وهذا من المساواة العادلة بين المرأة والرَّجل في قضيَّة الإيمان بالله تعالى.
وهذه المساواة بينهما في الإيمان تتَّخذ أشكالاً ومظاهرَ متعدِّدة، نتناولها فيما يلي:
مظاهر المساواة في الإيمان:
تَعدَّدت الآيات القرآنيَّة التي تُبرز لنا مظاهر المساواة بين المرأة والرَّجل في مسألة الإيمان بالله تعالى، وهذه الآيات اتَّخذت محاورَ متعدِّدة، وتناولت قضايا متنوِّعة، كلُّها تدعم وتؤكِّد المساواة التَّامَّة بين المرأة والرَّجل في الإيمان بالله ومقتضياته، ومنها:
أولاً: المساواة في الصِّفات الإيمانيَّة:
بيَّن القرآن العظيم تماثلاً تامّاً، وتساوياً بين الرَّجل والمرأة عند التزامهما بطاعة الله، والقيام بمقتضى التَّكاليف الإيمانيَّة، فهما سواء في الصِّفات الإيمانيَّة، وفي ذلك يقول تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الأحزاب: 35].
ومن أسباب نزول هذه الآية الكريمة: ما جاء عَنْ أُمِّ عُمَارَةَ الأَنْصارِيَّةِ - رضي الله عنها: أَنَّها أَتَتِ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَتْ: مَا أَرَى كُلَّ شَيْءٍ إلاَّ لِلرِّجَالِ، وَمَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية [الأحزاب: 35] [1].
فاستوى الرِّجال والنِّساء في هذه «الصِّفات الجميلة، والمناقب الجليلة، التي هي ما بين اعتقاداتٍ، وأعمال قلوبٍ، وأعمال جوارح، وأقوال لسان، ونفعٍ متعدٍّ وقاصر، وما بين أفعال الخير، وترك الشَّر، الذي مَنْ قام بهنَّ، فقد قام بالدِّين كلِّه ظاهرِه وباطنِه، بالإسلام والإيمان والإحسان»[2].
قال ابن عاشور - رحمه الله: «فالمقصود من أصحاب هذه الأوصاف المذكورة النِّساءُ، وأمَّا ذكْرُ الرِّجال فللإشارة إلى أنَّ الصِّنفين في هذه الشَّرائع سواء؛ ليعلموا أنَّ الشَّريعة لا تختصُّ بالرِّجال، لا كما كان معظم شريعة التَّوراة خاصًّا بالرِّجال إلاَّ الأحكام التي لا تُتَصوَّر في غير النِّساء، فشريعة الإسلام بعكس ذلك الأصل في شرائعها أن تعمَّ الرِّجال والنِّساء إلاَّ ما نُصَّ على تخصيصه بأحد الصِّنفين، ولعلَّ بهذه الآية وأمثالها تَقَرَّر أصلُ التَّسوية، فأغنى عن التَّنبيه عليه في معظم أقوال القرآن والسُّنَّة، ولعلَّ هذا هو وجه تعداد الصِّفات المذكورة في هذه الآية؛ لئلاَّ يُتوهَّم التَّسوية في خصوص صفةٍ واحدة.
وسُلِكَ مَسْلَكُ الإطناب في تعداد الأوصاف؛ لأنَّ المقام لزيادة البيان لاختلاف أفهام النَّاس في ذلك» [3].
وبناءً على ما سبق، فقد تقرَّر أنَّ صيغ الخطاب الشَّرعي الموجَّه إلى النَّاس جميعاً في المطالبة بالإيمان بالله، وفي بيان أركانه وواجباته، وتوضيح خصائص المؤمنين وأوصافهم، تعمُّ النِّساء والرِّجال معاً، فلا تختصُّ بجنسٍ دون جنس، ويُستفاد هذا من قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
فالمقصود بقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ}: الرِّجال والنِّساء معاً، حيث اشتركوا جميعاً في أركان الإيمان وواجباته وما يترتَّب عليه من صفاتٍ خاصَّة بهم.
ثانياً: المساواة فيما يترتَّب على الإيذاء الواقع بهما:
الإيذاء الواقع على المؤمنين - بسبب إيمانهم - مساوياً للإيذاء الواقع على المؤمنات - بسبب إيمانهنَّ - سواء في أصل الجزاء من الله تعالى لهما، أو في التَّنيكل بمَنْ أوقع عليهما الإيذاء، وقد توعَّد الله تعالى مَنْ آذى المؤمنين والمؤمنات بالأفعال أو الأقوال القبيحة؛ كالبهتان والتَّكذيب الفاحش ونحو ذلك بالعذاب العظيم، فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]. قيل: نزلت فيمَنْ تكلَّم في عائشة - رضي الله عنها، وصفوان بن المعطِّل - رضي الله عنه - بالإفك [4].
قال ابن عاشور - رحمه الله: «وعَطْفُ {وَالْمُؤْمِنَات} على {الْمُؤْمِنِين} للتَّصريح بمساواة الحُكْم، وإنْ كان ذلك معلوماً من الشَّريعة، لوَزْع المؤذين المؤمنات؛ لأنَّهنَّ جانبٌ ضعيف، بخلاف الرِّجال فقد يزعهم عنهم اتِّقاء غضبهم وثأرهم لأنفسهم»[5].
وقال ابن كثير - رحمه الله: «قولُه: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا }؛ أي: ينسبون إليهم ما هم بُرآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه، {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} وهذا هو البَهْت البَيِّن أن يُحكى أو يُنقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه، على سبيل العيب والتَّنقُّص لهم، ومن أكثر مَنْ يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله، ثم الرَّافضة الذين ينتقَّصون الصَّحابة ويعيبونهم بما قد بَرَّأهم الله منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم؛ فإنَّ الله عزّ وجل قد أخبر أنَّه قد رَضِيَ عن المهاجرين والأنصار ومدحهم، وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبُّونهم ويتنقَّصونهم، ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبداً، فهم في الحقيقة مَنْكوسو القلوب، يذمُّون الممدوحين ويمدحون المذمومين» [6].
ثالثاً: المساواة في الافتتان والتَّعذيب:
المؤمنة تُفتن في دينها كما يُفتن المؤمن، وقد توعَّد الله تعالى كُلَّ مَنْ آذى المؤمنين والمؤمنات - ليفتنَهم عن دينهم ويردَّهم عنه بأيِّ أنواعِ الفتنة والتَّعذيب - توعَّده بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } [البروج: 10].
قال ابن عاشور - رحمه الله: «وعَطْف {الْمُؤْمِنَاتِ} ؛ للتَّنويه بشأنهنَّ؛ لئلاَّ يُظَنَّ أنَّ هذه المزيَّة خاصَّة بالرِّجال، ولزيادة تفظيع فِعْلِ الفاتنين بأنَّهم اعتدَوا على النِّساء، والشَّأن ألاَّ يُتَعرَّضَ لهنَّ بالغِلْظة»[7].
«وقد عُدَّ من الذين فتنوا المؤمنين: أبو جهلٍ رأسُ الفتنة ومِسْعَرها، وأُميَّة بن خلفٍ، وصفوانُ بن أُميَّة، والأسودُ بن عبد يغوث، والوليدُ بن المغيرة، وأَمُّ أنْمار، ورجل من بني تَيْم.
والمفتونون: عُدَّ منهم: بلالُ بن رباح كان عبداً لأُميَّة بن خلف فكان يُعذِّبه، وأبو فُكَيهة كان عبداً لصفوان بن أُميَّة، وخَبَّابُ بن الأرتِّ كان عبداً لأمِّ أنمار، وعَمَّار بن ياسر، وأبوه ياسِر، وأخوه عبد الله كانوا عبيداً لأبي حُذيفة بن المغيرة فوكَلَ بهم أبا جهل، وعامرُ بن فُهيرة كان عبداً لرجلٍ من بني تَيْم.
والمؤمنات المفتونات منهنَّ: حَمَامَةُ أمُّ بلال أمَةُ أُميَّة بن خلف، وزِنِّيرَة، وأمُّ عنَيْس كانت أَمَةً للأسود بن عبد يغوث، والنَّهدية، وابنتها كانتا للوليد بن المغيرة، ولطيفةُ، ولبينةُ بنت فُهيرة كانت لعُمر بن الخطَّاب قبل أن يُسْلِم كان عمر يَضربها، وسُميَّة أمُّ عمَّار بن ياسر كانت لعمِّ أبي جهلٍ»[8].
رابعاً: المساواة في استغفار النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم:
أَمَرَ الله تعالى نبيَّه الكريم صلّى الله عليه وسلّم أن يستغفر في دعائه للمؤمنين والمؤمنات؛ بسبب إيمانهم فقال تعالى: ﴿ {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [9] وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} ﴾ [محمد: 19].
قال ابن عاشور - رحمه الله: «وذِكْرُ {الْمُؤْمِنَات} بعد {الْمُؤْمِنِين} اهتمام بهنَّ في هذا المقام، وإلاَّ فإنَّ الغالب اكتفاء القرآن بذكر المؤمنين، وشموله للمؤمنات على طريقة التَّغليب، للعلم بعموم تكاليف الشَّريعة للرِّجال والنِّساء، إلاَّ ما استثني من التَّكاليف»[10].
وجاء عن عُبَادَةَ بنِ الصَّامت - رضي الله عنه؛ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ، كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ حَسَنَةً» [11].
خامساً: المساواة في البلاء:
عن أبي هُريرَة - رضي الله عنه؛ قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «مَا يَزَالُ البَلاَءُ بِالمُؤْمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ؛ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللهَ؛ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» [12].
فالنَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بيَّن مساواة المؤمنين والمؤمنات في أصل البلاء، وأنَّه مستمرٌّ معهم في الأنفس والأموال والأولاد حتى يُلاقوا ربَّهم وليس عليهم سيِّئات؛ «لأنَّها زالت بسبب البلاء»[13].
[1] رواه الحاكم في «المستدرك» (2/ 451)، (ح3560) من حديث أم سلمة - رضي الله عنها - وقال: «صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي؛ والترمذي (5/ 354)، (ح3211) وقال: «حسنٌ غريب؛ وإنَّما نعرفُ هذا الحديث من هذا الوجه»؛ والنسائي في «الكبرى»، من حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها (6/ 431)، (ح11404)؛ والطبراني في «الكبير» (25/ 32)، (ح53). وقال الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (3/ 307)، (ح3211): «صحيح الإسناد».
[2] تفسير السعدي (4/ 153).
[3] التحرير والتنوير (21/ 251).
[4] انظر: زاد المسير (6/ 421).
[5] المصدر السابق (21/ 327).
[6] تفسير القرآن العظيم (6/ 502).
[7] التحرير والتنوير (30/ 220).
[8] المصدر نفسه (30/ 219-220).
[9] أجمع العلماء: على أنَّ الأنبياء معصومون بعد النُّبوَّة من صغائر الذُّنوب وكبائرها، والمراد بقوله تعالى: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ كما قال أبو السُّعود - رحمه الله: «هو الذي ربَّما يصدر عنه عليه الصَّلاة والسلام من ترك الأولى، عبَّر عنه بالذَّنب؛ نظراً إلى منصبه الجليل، وإرشاداً له عليه الصَّلاة والسَّلام إلى التَّواضع، وهضم النَّفس، واستقصار العمل». وقال النَّسفي - رحمه الله: «ذَنْبُ الأنبياءِ ترك الأفضل، دون مباشرة القبيح، وذنوبُنا مباشرة القبائح من الصَّغائر والكبائر». انظر: إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم (8/ 97)؛ تفسير النسفي (4/ 148).
[10] التحرير والتنوير (26/ 88).
[11] رواه الطبراني في «مسند الشاميين» (3/ 234)، (ح2155)، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 210): «إسناده جيد». وحسَّنه الألباني في «صحيح الجامع» (2/ 1042)، (ح6026).
[12] رواه الترمذي، واللفظ له (4/ 602)، (ح2399) وقال: «حسن صحيح»، والحاكم في «المستدرك» (4/ 350)، (ح7879) وقال: «صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي. وقال الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (2/ 565)، (ح2399): «حسن صحيح».
[13] تحفة الأحوذي (7/ 68).
- التصنيف: