صيام عاشوراء بين المسلمين واليهود
أيمن الشعبان
إنَّ معجزة نجاة موسى ومن معه مِنْ بني إسرائيل، وغرق فرعون وجنوده؛ لآية عظيمة وحدث تاريخي مُهم، ويوم فاصل ونقطة فارقة في حياة البشرية....
- التصنيفات: مناسبات دورية - ملفات شهر محرم -
الحمدُ للهِ والصَّلاة والسَّلام على رسولِ الله، وعلى آلهِ وصحبهِ ومن تَبعهم إلى يوم الدِّين، وبعد:
مما لا شَكَّ فيه أَنَّ نَشأة بني إسرائيل مضيئة وأُصولهم حَميدة، في بدايتها لمّا كانوا متبعين لأنبيائهم مستجيبين لأوامر ربهم، إلا أَنَّ فروعهم خبيثة فاسدة وتاريخهم مظلم، وآثارهم وخيمة وتحريفاتهم جلية ظاهرة، وجنايتهم على الأمم جمعاء واضحة.
بعد أن عاش بنو إسرائيل حياة ذلّ واضطهاد وتنكيل في مصر تحت قهر فرعون وجنوده؛ أوحى الله سبحانه إلى موسى {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [1]، فأمره الله بالهجرة مع بني إسرائيل، فنجاهم الله وأغرق عدوهم، ووافق ذلك يوم عاشوراء فصام موسى ذلك اليوم شكرا لله عز وجل.[2]
إنَّ معجزة نجاة موسى ومن معه مِنْ بني إسرائيل، وغرق فرعون وجنوده؛ لآية عظيمة وحدث تاريخي مُهم، ويوم فاصل ونقطة فارقة في حياة البشرية، قال تعالى: {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [3]، أَيْ: فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ لِعِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لَدَلَالَةٌ وَحُجَّةٌ قَاطِعَةٌ وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ.[4]
الصوم عبادة عظيمة فرضها الله سبحانه وتعالى على الأمم السابقة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [5]، وَالْمرَاد بالذين مِنْ قَبْلِكُمْ من كَانَ قبل الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّرَائِعِ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ أَعْنِي الْيَهُودَ لأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُهُمُ الْمُخَاطَبُونَ ويعرفون ظَاهر شؤونهم وَكَانُوا عَلَى اخْتِلاطٍ بِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ.[6]
يذكر أن تشريع الصيام بدأ منذ عهد نوح عليه السلام، وقيل قبل ذلك أي منذ آدم عليه السلام، قال القرطبي رحمه الله: قَالَ أَهْلُ التَّارِيخِ: أَوَّلُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا خَرَجَ مِنَ السَّفِينَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ رحمه الله: كَتَبَ اللَّهُ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُوحٍ أُمَمٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.[7]
الصوم ما شُرِعَ إلا لتزكية النفس وتعويدها الصبر والثبات على المكاره، وكبح جماحها لمقاومة الشهوات والمغريات، حتى تسمو وتتحلى بالفضائل وتتخلص من الرذائل، قربة إلى الله ولتحصيل مرضاتهن لذلك اختصه الله به كما في الحديث القدسي:(يقول الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به).[8]
قال ابن القيم رحمه الله: المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين.[9]
آية سورة البقرة في الصيام تؤكد أصل فرضية وجود الصيام لدى جميع الأمم، لكن هل التشبيه والاشتراك يرجع لمجرد فرضه أم يشمل الزمان والوقت والقدر والكيفية؟
هذه من المسائل المختلف فيها بين العلماء، قال ابن العربي رحمه الله: وَجْهُ التَّشْبِيهِ فِيهِ مُحْتَمِلٌ لِثَلاثَةِ أَوْجُهٍ الزَّمَانُ، وَالْقَدْرُ، وَالْوَصْفُ، وَمُحْتَمِلٌ لِجَمِيعِهَا، وَمُحْتَمِلٌ لاثْنَيْنِ مِنْهَا، ثم فصل بذكر الأقوال ورجح التشبيه في الفرضية خاصة وما تبقى محتمل.[10]
جاء في فتاوى دار الإفتاء المصرية ما نصه: ومن مراجعة كتب التاريخ وأسفار العهد القديم والجديد رأينا أن قدماء اليهود كانوا لا يكتفون في صيامهم بالامتناع عن الطعام والشراب من المساء إلى المساء، بل كانوا يمضون الصيام مضطجعين على الحصا والتراب في حزن عميق.
وفى سفر الخروج أن موسى -عليه السلام- كان هناك عند الرب أربعين نهارًا وأربعين ليلة لم يأكل خبزًا ولم يشرب ماء، وفى إنجيل (متى) أن المسيح صام أربعين يومًا في البرية.
وجاء في كلام النبي حزقيال أن صيامه كان عن اللحوم وما ينتج عن الحيوان، وكان النبي دانيال يمتنع عن اللحوم وعن الأطعمة الشهية مدة ثلاثة أسابيع، وجاء في الترجمة السبعينية أن داود قال: ركبتاي ضعفتا من الصوم، ولحمى تغير من أكل الزيت أ.هـ.[11]
العبادات والطقوس لدى اليهود، تتغير وتتطور بحسب العقائد والظروف والأحوال، ولتوضيح حقيقة الصيام وفلسفته وجذوره التاريخية ومناسبته لدى اليهود؛ لابد أولاً الوقوف على تقويم أشهر العام المعتمد لديهم قديما وحديثا، ومقارنتها مع الشهور الفعلية الشرعية التي ذكرها الله في كتابه ثم المقارنة.
قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [12]، قال القرطبي رحمه الله: وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَضَعَ هَذِهِ الشُّهُورَ وَسَمَّاهَا بِأَسْمَائِهَا عَلَى ما رتبها عليه يوم خلق السموات وَالأَرْضَ، وَأَنْزَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً}. وَحُكْمُهَا باقٍ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ لَمْ يُزِلْهَا عَنْ تَرْتِيبِهَا تَغْيِيرُ الْمُشْرِكِينَ لأَسْمَائِهَا، وَتَقْدِيمُ الْمُقَدَّمِ فِي الاسْمِ مِنْهَا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ اتِّبَاعُ أَمْرِ اللَّهِ فِيهَا وَرَفْضُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَأْخِيرِ أَسْمَاءِ الشُّهُورِ وَتَقْدِيمِهَا، وَتَعْلِيقِ الأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الَّتِي رَتَّبُوهَا عَلَيْهِ.[13]
ومما ينبغي استحضاره وتثبيته في الأذهان طالما أننا نتحدث عن عبادة وتوقيت ومناسبة؛ أنَّ الله -سبحانه وتعالى- خلق الأزمنة والمواقيت، وربطها بأسباب معلومة ظاهرة يعرفها الناس، لإدارة شؤونهم وترتيب أحوالهم وأداء عباداتهم على أكمل وجه.
قال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [14]، أي: جعلها الله تعالى بلطفه ورحمته على هذا التدبير يبدو الهلال ضعيفا في أول الشهر، ثم يتزايد إلى نصفه، ثم يشرع في النقص إلى كماله، وهكذا، ليعرف الناس بذلك، مواقيت عباداتهم من الصيام، وأوقات الزكاة، والكفارات، وأوقات الحج.[15]
الله -جَلَّ وعلا- خلق الجن والإنس لتحقيق العبودية، وسخر لهم سائر المخلوقات، وفق سنته الإلهية ونظامه البديع المتقن بدقة متناهية وحِكَم جليلة ومواقيت معلومة محددة، يستقيم فيها أمر الدنيا من عبادات ومناسبات ومعاملات ومواسم اختصت بها الأمم، لانتظام حياتهم الدنيوية وعباداتهم دون تعقيد أو غموض أو اضطراب.
وعليه فإنَّ الأصل المهم جدًا هو ضرورة تعليق الأحكام بالشهور والسنين التي شرعها الله وتعرفها العرب، لا بتقاويم وتوقيتات دخيلة محرفة من صنع البشر، لتوافق فئات أو فترات معينة خدمة لمفاهيم ومصالح محددة وضيقة.
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [16]: هذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب، دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهرًا، لأنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص، والذي ينقص ليس يتعين له شهر، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج أ.هـ.[17]
وقد بينت الآيات أن الله سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة، وحكمها باقٍ على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها، وتقديم المقدم في الاسم منها، وحيثما وردت كلمة الشهر أو الشهور أو الأشهر في الكتاب والسنة، فإنها لا تنصرف إلا إلى الأشهر العربية أي التي تعرفها العرب، والتي ارتبطت الأحكام بها.[18]
ولكن اليهود كعادتهم حرَّفوا وبدلوا وزادوا ونقصوا وكذبوا وزوروا وأدخلوا وأخرجوا، حتى صار تقويمهم القديم ديني، والتقويم المتأخر مدني بشهر قمري وسَنَة شمسية، لتناسب طقوس وأعياد ومناسبات خاصة بهم!
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد بلغني أن الشرائع قبلنا أيضا إنما علقت الأحكام بالأهلة وإنما بدل من بدل من أتباعهم كما يفعله اليهود في اجتماع القرصين وفي جعل بعض أعيادها بحساب السنة الشمسية.[19]
التقويم اليهودي تقويم معقد هجين مضطرب غير مقنن ولا محدد، إذ يتم التلاعب بالأيام حسب الطقوس والمناسبات على طريقة نسيء المشركين، فالشهر عندهم يتبع الدورة القمرية فتكون أيام السنة 354 يوما، بينما تحسب السنين بحسب الدورة الشمسية، ولتعويض النقص الحاصل – أحد عشر يوما – تحايل اليهود بإضافة شهرًا كاملاً – 30 يومًا – كل ثلاثة أعوام تقريبا يسمى آذار الثاني، حتى تتطابق الدورة كل عشرين عامًا، ولا مانع لدى اليهود من تأجيل السنة يوم أو يومين.
بدايةً العد والتقويم الهجري لدينا مرتبط بحدث تاريخي مهم معلوم، والتقويم الميلادي الافرنجي – مع ما فيه من اضطراب وتحريف وما شابه- مرتبط بحدث أيضًا لدى النصارى، أما بداية التقويم اليهودي فواضح جدًّا أنه مبني على مجهول، والكذب والتحريف والابتكار فيه صريح!
وقد حدد حاخامات اليهود تاريخ بدء الخليقة على أساس التواريخ التوراتية بعام 3760 قبل الميلاد، وبحسب تقويمهم يصبح عام 1974 ميلادية هي سنة 5734 عبرية. " مجموع 3760+1974" ويمكن التوصل للسنة العبرية إضافة تاريخ خلق الكون إلى التاريخ الميلادي.
وعندما يسرد اليهودي أسماء شهور السنة يبدأ بشهر نيسان وليس بتشري، ومن المرجح أنها عادة قديمة جدًا مصدرها الأهمية الخاصة لشهر نيسان عند اليهود، ففي هذا الشهر خرج موسى بقومه من مصر، وهو أيضًا الشهر الذي يقع فيه أهم أعيادهم على الإطلاق: عيد الفصح) [20].
يظهر أن اليهود مع مرور الوقت وبحسب الظروف السياسية، شكلوا وابتكروا مجموعة من المناسبات والأعياد، ترجع بشكل أساس وترتبط بيوم خروج موسى وبني إسرائيل من مصر ونجاتهم من فرعون، وبداية الخليقة والكون بحسب زعمهم!
عيد الفصح أو عيد خبز الفطير لدى اليهود، يكون في اليوم الخامس عشر من شهر نيسان/أبريل وهو أول شهر يهودي حسب التقويم الديني! لمدة سبعة أيام أو ثمانية لمن هم خارج دولتهم، وهو عيد الربيع مقارنة مع أعياد الربيع لدى الأمم الأخرى.
ثم حدث أن تحددت هجرة بني إسرائيل من مصر مع موسى في هذا الوقت فأصبح هذا العيد إحياء لذكرى نجاة بني إسرائيل من فرعون، وخلاصهم من العبودية في مصر، ومن هنا جاء اختيار أمثال سعديا من علماء اليهود أن يسموه "الفَسح" أي الفرج بعد الضيق.[21]
ثم يذكر د. حسن ظاظا في كتابه " الفكر الديني الإسرائيلي أطواره ومذاهبه" أن هذا العيد اكتسب على مر العصور عدة أسماء لكل منها معنى ومغزى، منها ( الفصح، عيد الفطير، موسم الحرية، عيد الربيع)، وتبدأ طقوس العيد منذ ليلة الرابع عشر من نيسان ويسمونه (ليلة التفتيش عن الخميرة)، وفي مساء كل يوم من اليومين الأوليين تكون طقوس الاحتفال قائمة بصورة أساسية حول أمرين: ( مائدة الفصح، وحكاية الفصح )، وعيد الفصح عندهم عيد الضحية، كما أنه عيد خبز الفطير وموسم الحج، ويخلطون عجينته بدم بشري يأخذونه من ضحية يقتلونها![22]
وجاء في سفر الخروج "الإصحاح 12" ما يفيد أن عيدي الفصح والفطير يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بذكرى خروجهم من مصر، ومما جاء:
- ويكون لكم هذا اليوم تذكارا فتعيدونه عيدا للرب في اجيالكم تعيدونه فريضة أبدية (خر12: 14).
- وتحفظون الفطير لأني في هذا اليوم عينه أخرجت أجنادكم من أرض مصر فتحفظون هذا اليوم في أجيالكم فريضةً أبدية (خر12: 17).
- وخبزوا العجين الذي أخرجوه من مصر خبز ملة فطيرًا إذ كان لم يختمر لأنهم طردوا من مصر ولم يقدروا أن يتأخروا فلم يصنعوا لأنفسهم زادًا (خر12: 39).
- وكان في ذلك اليوم عينه أن الرَّب أخرج بني إسرائيل من أرض مصر بحسب أجنادهم (خر12: 51).
من ذلك يتضح أن عيد الفصح لدى اليهود بما فيه من عادات وطقوس ومعتقدات، لا صيام فيه ولا يوافق اليوم الحقيقي الفعلي الذى نجى الله فيه موسى عليه السلام وبني إسرائيل من فرعون، أضف لذلك أنه الشهر السابع في التقويم اليهودي المدني الحديث الذي يبدأ بشهر " تشري " أي " سبتمبر/أكتوبر ".
المتتبع لأحوال اليهود وما هو مسطور في كتبهم المقدسة، يجد ربط واضح بين الطقوس والعبادات مع أحزان فردية شخصية أو جماعية عامة، كالصلاة الفردية الارتجالية، يقوم بها الفرد حسب الظروف والحاجة الشخصية، دون ارتباط بموعد أو موسم، مثل صلاة يعقوب لأجل خلاصه من عيسو أخيه كما في سفر التكوين.
والصلاة المشتركة هي صلوات تؤدى باشتراك جملة أشخاص علنا وعمومًا، في أمكنة مخصوصة ومواعيد معلومة، حسب طقوس وقوانين مقررة في رؤساء الدين والكهنة.[23]
كذلك الصيام لديهم نوعان:
الأول: فردي شخصي مرتبط بحالات الحزن الفردي، أو لتكفير خطيئة اقترفها أحدهم.
والثاني: صوم جماعي إذا حصلت هزيمة في حرب أو كارثة جماعية كرداءة المحصول.
اليوم الوحيد الواجب صيامه لدى اليهود طوال العام، هو اليوم العاشر من الشهر السابع " تشري " – بحسب السنة الدينية – كما جاء في سفر اللاويين ما نصه: {وَيَكُونُ لَكُمْ فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً، أَنَّكُمْ فِي الشَّهْرِ السَّابعِ فِي عَاشِرِ الشَّهْرِ تُذَلِّلُونَ نُفُوسَكُمْ، وَكُلَّ عَمَل لاَ تَعْمَلُونَ: الْوَطَنِيُّ وَالْغَرِيبُ النَّازِلُ فِي وَسَطِكُمْ}. [24]
اليوم العاشر من الشهر الأول "تشري" في السنة المدنية لليهود ويسمى بالعبري " يوم كِبُّور " أي: يوم الغفران؛ الواجب صيامه عندهم، قد يُشكِل بأنه ذات اليوم الذي فيه نجاة موسى وخروجه من مصر، وهذا بعيد جدا لأنه بحسب تقويمهم المدني القائم على الحساب الفلكي بالشهر القمري مع موافقته السنة الشمسية!
أضف لذلك أن علة وفلسفة صيام هذا اليوم مختلفة تمامًا، فهو يوم الغفران وتكفير الذنوب وحساب النفس والندم على ما بدر منهم، مع اقترانه بحدث سياسي أليم بالنسبة لهم هو دمار بختنصر لأورشليم وحرقها سنة 586 ق.م ليصبح أكبر أيام الحداد لديهم، كذلك طبيعة الصيام وما يرافقه من أفعال وطقوس وسلوكيات تبعده جدا عن أي ارتباط بالحدث المهم لموسى وأتباعه الحقيقيين – العاشر من محرم -.
يقول الحاخام (عزرا هارون درويش): إن صوم الغفران يبدأ قبل غروب الشمس بـ ( 20 ) دقيقة ويستمر إلى ما بعد غروب اليوم الثاني بعشرين دقيقة لكل من بلغ سنة الثالثة عشرة، واشترطوا في صيام يوم الغفران ألا يقع يوم الجمعة أو الأحد أو الثلاثاء. [25]
بحسب استطلاعات رأي فإن قرابة 60% من اليهود المعاصرين يصومون "يوم الغفران"، لقداسته لدى جميع الطوائف، وفيه يتوقفون عن العمل وتغلق الشوارع ويمتنعون من قيادة السيارات، ويغلق المطار وتمنع الحركة منه وإليه، بل حتى المؤسسات الحكومية والخاصة والمدارس تغلق أبوابها، فلا يخرجون إلا للكنيس والصلاة وطلب الغفران وفي هذا اليوم يتم إغلاق مدينة القدس تماما.
والظاهر أن بداية هذه الشعيرة ترجع إلى عصور العبريين الأولى، بل من الراجح أن الشريعة الموسوية نفسها قد قررت يومًا في السنة لحساب النفس، والندم على ما بدر من المؤمن من الخطايا، والتكفير عنها لا بالصوم فقط بل بالذبائح والصلوات والأموال ورد المظالم إلى أهلها وطلب الصفح من المعتدى عليهم، وكان اسمه قديمًا " يوم هكتبوريم" أي يوم الكفارات. ولكن حدث صدفة أن بختنصر دمر أورشليم وأشعل فيها النيران ودخلها جيوشه منتصرة في هذا اليوم ( سنة 586 ق.م )، فاقترن هذا اليوم بتلك الذكرى السياسية الأليمة بالنسبة لليهود، وأصبح أكبر أيام الحداد.[26]
وهنالك أفعال قبيحة ومشينة يفعلونها في هذا اليوم؛ كنقض العهود والمواثيق التي يقطعونها لغير اليهود، وأكل الديون التي على اليهودي وعدم أدائها، كما يجوز فيه الرجوع في كل وعد أو عهد يقطعه على نفسه طول السنة معتمدين على نصوص لديهم.
مما مضى يظهر جليًّا أن اليهود المعاصرين يصومون اليوم العاشر من شهر تشري – الشهر الأول من سنتهم المدنية – ويسمونه يوم الغفران " كيبور"، لا بقصد تعظيمه والشكر على نجاتهم من فرعون - كما فعل موسى وأتباعه، ويفعل المسلمون من بعدهم-، لكن العلة هي تكفير الذنوب بحسب زعمهم، وأيضا الكيفية مختلفة تماما عن صيامنا، أضف لذلك تلك الأفعال والطقوس التي يقومون بها في ذلك اليوم!
أما صيام المسلمين في اليوم العاشر من شهر محرم، هو اليوم الذي نجى الله تعالى فيه موسى -عليه السلام- ومن معه من الغرق، وصامه طائفة من يهود المدينة لهذا السبب، وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بصيامه أول الأمر، ثم نسخ الوجوب وصار صيامه مستحبا.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ، وَجَدَهُمْ يَصُومُونَ يَوْمًا، يَعْنِي عَاشُورَاءَ، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ، فَقَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ» فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ». [27]
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رحمه الله: عَاشُورَاءُ مَعْدُولٌ عَنْ عَاشِرَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَهُوَ فِي الأَصْلِ صِفَةٌ لِلَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَشْرِ الَّذِي هُوَ اسْمُ الْعَقْدِ، وَالْيَوْمُ مُضَافٌ إِلَيْهَا فَإِذا قِيلَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ يَوْمُ اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ، إِلا أَنَّهُمْ لَمَّا عَدَلُوا بِهِ عَنِ الصِّفَةِ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الاسْمِيَّةُ فَاسْتَغْنَوْا عَنِ الْمَوْصُوفِ فَحَذَفُوا اللَّيْلَةَ فَصَارَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَمًا عَلَى الْيَوْمِ الْعَاشِرِ.[28]
في الحديثِ فوائد لابُدَّ من استحضارها:
1- موسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين صاموا يوم العاشر من محرم، شكرا لله على هذه النعمة العظيمة.
2- على الرغم من تحريف التوراة وكتابتها بأيديهم؛ إلا أن اليهود حافظوا على صيام هذا اليوم حتى قدوم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة.
3- أن عدَّة الشهور القمرية ذاتها لجميع الأنبياء، قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [29]، وفي هذه الآية بيان أن الله سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على هذا الترتيب المعروف يوم خلق السموات والأرض، وأن هذا هو الذي جاءت به الأنبياء ونزلت به الكتب.[30]
4- انقطاع الصلة بين اليهود والأنبياء عمومًا وموسى خصوصًا، لكفرهم واستكبارهم وقتلهم الأنبياء.
5- النبي عليه الصلاة والسلام وأمته أولى بموسى وجميع الأنبياء من اليهود.
6- صيام يهود المدينة لعاشوراء لا يعني أنهم على حق ومتبعين لشريعة موسى ودعوة التوحيد، بل هي إرثٌ تاريخي وعادات لا تنفعهم طالما أنهم كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام وعيسى وخاتمة الأديان الإسلام.
فلا علاقة إطلاقا لا من حيث الأصل أو العلة ولا المناسبة أو الكيفية ولا الزمان؛ لصيامنا يوم عاشوراء بصيام اليهود اليوم المسمى بزعمهم " يوم الغفران" فلينتبه!
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإذا كان أصل صومه لم يكن موافقا لأهل الكتاب، فيكون قوله: «فنحن أحق بموسى منكم» توكيدا لصومه، وبيانًا لليهود: أن الذي يفعلونه من موافقة موسى نحن أيضا نفعله، فنكون أولى بموسى منكم.[31]
وعلى هذا فلم يصم النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء اقتداءً باليهود فإنه كان يصومه قبل قدومه عليهم [32] وقبل علمه بحالهم لكن الذي حدث له عند ذلك إلزامه والتزامه ائتلافًا لليهود واستدراجًا لهم كما كانت الحكمة في استقباله قبلتهم وكان هذا الوقت هو الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه.[33]
الخلاصة:
1- الصوم عبادة عظيمة شُرعت لتزكية النفس وفرضت على الأمم السابقة ومنهم اليهود.
2- الطقوس لدى اليهود تتغير وتتطور بحسب الأحوال والمناسبات.
3- التقويم اليهودي مضطرب يتم التلاعب به حسب الطقوس على طريقة نسيء المشركين، فالشهر يتبع الدورة القمرية والسنة تتبع الدورة الشمسية.
4- اليهود مع مرور الوقت ابتكروا مناسبات لها علاقة بخروج موسى من مصر وبداية الخليقة، من ذلك عيد الفصح ولا صيام فيه!
5- اليوم الوحيد الواجب صيامه لدى اليهود هو العاشر من الشهر السابع – تشري – بحسب السنة الدينية، لتكفير الذنوب مع ممارسة طقوس أخرى، ولا علاقة له بنجاة موسى ومن معه من فرعون.
6- صيام اليهود يبدأ قبل غروب الشمس بعشرين دقيقة ويستمر إلى ما بعد غروب اليوم الثاني بعشرين دقيقة.
7- صيام المسلمين في اليوم العاشر من شهر محرم، هو اليوم الذي نجى الله تعالى فيه موسى عليه السلام ومن معه من الغرق.
8- لا تَوافق بين صيامنا في عاشوراء وصيام اليهود المعاصرين في يوم الغفران!
العدد الرابع والعشرون من سلسلة بيت المقدس للدراسات (صيف2017)
------------------------------------
[1](الشعراء:52).
[2]فتح البيان في مقاصد القرآن، صديق حسن خان (1/166).
[3](الشعراء:65-67).
[4]تفسير ابن كثير (6/145).
[5](البقرة:183).
[6]التحرير والتنوير (2/157).
[7]تفسير القرطبي (2/290).
[8]أخرجه البخاري (1904) ومسلم (1151).
[9]زاد المعاد (2/27).
[10]أحكام القرآن (1/108).
[11]فتاوى دار الإفتاء المصرية (9/274).
[12](التوبة:36).
[13]تفسير القرطبي (8/132-133).
[14](البقرة:189).
[15]تفسير السعدي ص88.
[16](التوبة:36).
[17]تفسير القرطبي (8/133).
[18]الوصية بالأشهر العربية، سعيد عبد العظيم، ص7.
[19]مجموع الفتاوى (25/135).
[20]الأعياد والمناسبات والطقوس لدى اليهود، غازي السعدي، ص10.
[21]الفكر الديني الإسرائيلي أطواره ومذاهبه، د. حسن ظاظا، ص218.
[22]ينظر كتاب"الفكر الديني الاسرائيلي أطواره ومذاهبه ص218-222.
[23]الفكر الديني الإسرائيلي ص170.
[24]سفر اللاويين (16:29).
[25]العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق رحيم، ص102.
[26]الفكر الديني الإسرائيلي ص202.
[27]متفق عليه.
[28]فتح الباري (4/245).
[29](التوبة:36).
[30]فتح القدير للشوكاني (2/409).
[31] اقتضاء الصراط المستقيم (1/466).
[32] كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في صحيح مسلم (1126).
[33] الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم للهرري الشافعي (13/45).