ما لم يفهمه الليبرالي!!
إن السؤال الذي ينبغي علينا طرحه هو: كيف نعود إلى الحياة الهادئة المطمئنة التي تسير بأقل نفقة من راحة البال والوقت والجهد والمال؟
حال حديثه عن ما سماه بـ "الأزمة الدستورية" تعجب من اهتمام المسلمين بالقيم دون الاهتمام بالمؤسسات. يقول: شهد التاريخ الإسلامي حالة من الضعف المؤسسي في مقابل الاهتمام الكبير بالقيم.
وتعالى معي نضع هذه الملاحظة ومَن تحدث بها والسياق الذي قيلت فيه بين أيدينا، نعيد النظر فيها مرة بعد مرة. وكي نفهم ما يحدث في سياقه دعنا نبحث عن إجابة لهذين السؤالين:
كيف استنبط هذه الملاحظة؟
ولماذا لم يحاول تفسيرها؟
يبحث المتحدث عن "دولة إسلامية معاصرة"، أو عن أسلمة الدولة القومية الحديثة. ويرى أن هذا الواقع شديد التعقيد، والذي يدار بمؤسسات بيروقراطية معقدة، أصبح حتمًا لازمًا، ولا يمكن الفكاك عنه. ومن خلال موقفه هذا راح ينظر للموروث الثقافي في الأمة فوجده خليًا من أشياء تناسب الواقع الذي نعيشه.. وجده مليئًا بالقيم والمثل العليا، ولم يجد فيه إلا قليلًا من المؤسسات فظن أن نموذجنا الحضاري هناك... بعيد.. في الظلام .. أو في قاعٍ. . ولا يستحق أكثر من السخرية منه وصدِّ الناس عنه. ولذا صرَّح بأن ما كتبه الأئمة الأعلام في السياسة الشرعية أصبح عبئًا على الحضور لا موردًا عذبًا!!
التعقيد من سمات العلمانية، والنموذج الإسلامي ليس بحاجة للمؤسسات المعقدة، ونضرب مثالًا بالتجارة (الاستثمار). في نموذجنا الحضاري قامت التجارة على الثقة بين البائع والمشتري، فكانت الصفقات تتم بالكلمة، وإن اشتدا الطرفان في طلب التوثيق للعقد استحضرا شاهدين ممن حولهم، وإن اشتدا أكثر فورقة تكتب في دقائق معدودة. هذا كل ما كان يستلزمه البيع والشراء في مجتمعٍ تسوده القيم والمثل الإسلامية، وظل هذا سائدًا إلى وقتٍ قريب.وحتى الوقف وهو المؤسسة الأكثر انتشارًا في النموذج الإسلامي لم تكن تحتاج لمؤسسات معقدة لإدارتها لعدم وجود مركزية للدولة فقد كانت قيم عليا وكل يدير ما عنده حسب هذه القيم، والمجتمع بقيادته الحقيقية (أهل الرأي وأهل الحل والعقد وأهل المروءات) حاضر يراقب ويصوب. والآن.. بعد أن ظهر الكافر والمنافق ومن لا خلاق لهم احتاج البيع والشراء لأيام من التفاوض بين البائع والمشتري، يتخللها جلسات بها أيمان فاجرة وأحاديث الغيبة والنميمة وضياع المال والوقت، ثم عشرات الإجراءات في المحاكم، وقد لا يسلم بعد ذلك. حين تسود قيمنا فإن مركزية الدولة وتحكمها في كل شيء، وهو السبب الرئيس لتعقد المؤسسات، يتراجع، ويترفع منسوب الثقة بين الناس ويقل الصراع بينهم، فلا يحتاجون لعشر معشار ما هو موجود من مؤسسات.
وقل مثل هذا في التعليم، فقد أخرجت القيم والمثل الإسلامية نموذجًا في غاية البساطة وغاية الفاعلية وقليل الكلفة (من حيث الوقت والجهد والمال)، وهو نموذج "الإجازات". وفيه شخص بارز في علم من العلوم يذهب إليه راغبٌ في تعلم هذا العلم ويصحبه إلى أن يتقن هذا الطالب ما يتقنه الشيخ ويجيزه (يعطيه إجازة بأنه قد أتقن هذا العلم)، وفي هذه الطريقة كثير من الخير، مثل: أن المتعلم راغب فيما يتعلمه وبالتالي يكون حريصًا وصاحب مهارة غالبًا فلا يقدم أحد على تعلم ما يبغضه وخاصة أن التفاضل في المجتمع بالتقوى؛ وفيه أن العالم/ الشيخ/ الأستاذ يخدم من طالب علم وهي خدمة عالية.. يخدمه كأنه مولاه كحال يوشع بن نون مع موسى عليهما السلام (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ)(الكهف: 60)، ولم يكن يوشع عبدًا لموسى وإنما كان يلزمه ويخدمه لزوح العبد لسيده كي يتعلم منه وورثه بعد ذلك وفتح الله به بيت المقدس؛ وفيه من الخير أن العملية التعليمية تكون بين متمكن وراغب، وبعيد عنها تمامًا من لا حظ لهم ولا رغبة لديهم في العلم وأهله. هكذا ببساطة تتم العملية التعليمية، أما الآن فهذا الكم الغفير من المؤسسات شديدة التعقيد ثم ماذا؟ هل يستطيع خريج الأدب ممارسة الشعر والكتابة الأدبية أو النقد؟، وسل عن بقية التخصصات، ستجد أن كل تخصص يحتاج إلى إعادة تأهيل كي يمارس ما قد تخصص في تعليمه، وكثير من المجالات بلا أكفاء، والتعليم في وادٍ وحاجة المجتمع في وادٍ آخر.
نموذجنا.. قيمنا ومثلنا العليا تعيد صياغة الإنسان فتنتج فردًا آخر، صادقًا في تعاملاته ممتثلًا لما أمر الله مجتنبًا لما نهى الله عنه، فلا يقبل حرامًا ولا يظلم إنسانًا أو حيوانًا، تمامًا كما فعلت البعثة بمن كانوا يعبدون الأصنام ويأتون الفواحش ويقطعون الأرحام ويسيئون الجوار ويأكل قويُهم ضعيفَهم فأخرجت منهم خير أمة أخرجت للناس. أما الإنسان المعاصر فهو منتوج علماني، ويتعامل بمبادئ العلمانية، وأتحدث عن المجموع لا عن الجميع، ولذا يتعجب الفرد والنخبة من النموذج الإسلامي ويراه ماضيًا قد انتهى. مع أن إعادة صياغة إنسان لا تحتاج للكثير من الوقت والجهد إن سلمت نوايا أهل السلطة والنفوذ.
إن السؤال الذي ينبغي علينا طرحه هو: كيف نتخلص من هذه المركزية الشديدة التي غيبت دور المجتمع وجعلته مستعبدًا من سلطة مركزية.. وجعلته قلقًا مضطربًا ينفق كل ما يجد من وقته وجهده وراحة باله وماله ونعود إلى الحياة الهادئة المطمئنة التي تسير بأقل نفقة من راحة البال والوقت والجهد والمال؟
والبحث عن إجابة نظرية ثم عملية لهذا السؤال فريضة على كل عاقل، فالعلمانية بأنيابها (مؤسساتها) مزقت الدين وأرهقت الإنسان وطاردته في دروب الحياة حيران لا يكاد يهدأ داخليًا ولا يستقر خارجيًا. وفوق هذا فإن العلمانية تتوحش يومًا بعد يوم وتصر على هضم القيم الإسلامية أو تلقيحها لإخراج شيئًا آخر لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء يعظم ماضية ولا يريده واقعًا، وإن العلمانية تتطور في اتجاه تمكين الإلحاد والصراع والعيش القلق المضطرب فلسنا أمام حالة تريد أن تأخذ وتترك (تتعايش)، وإنما أمام من لا يريدنا، وهو نفسه متقلب يتحول يومًا بعد يوم.. حالة من القلق والاضطراب المستمر.
ولماذا لم يحاول التفسير؟!
بعد أن رصد الظاهرة راح يستشهد بها على خفته الفكرية، ولو كان يعظم نموذجه ويثق بأنه من آثار الوحي (مع الأخذ في الاعتبار تشويهات البشر بموجب نقصهم الطبعي) لوقف وقوف المنتمي يبحث عن تفسير، ولكنه أشرب العلمانية ولم يعد يرى للخروج من هيمنتها سبيلًا، والله يقول، والله يقول: " {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} " (المجادلة: 21).
وإذا تنازلنا وفكرنا بالمنظور "العقلاني/ الواقعي" فإن "دوام الحال من المحال"، يقول الله:" {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ" } ( [آل عمران: 140] )، وحركة التاريخ دائرية أمة تصعد ثم تهبط ولا يسير التاريخ في خط مستقيم صاعد قد وصل لنهايته واستقر عند علمانيتهم الملحدة كما يحاول الغرب إيهامنا.
إن زوال القوى الكبرى أمر مشاهد في كل جيل. فكل جيل شاهد زوال دولة ومجيء دولة أخرى، فقد سمع جيلنا عن بريطانيا وشاهد السوفيت وهم يرحلون وقريبًا- إن شاء الله وبحوله وقوته- يشاهد الأمريكان وهم يحزمون حقائبهم ونخلفهم من بعدهم؛ وإن من يأخذ بأسباب النصر يحصل عليه، أما التصالح مع من يهدم دينك ويحملك (بالحال أو بالمآل) إلى الكفر والإلحاد فأقل ما فيه أنها حالة من قلة عقل وقلة المروءة. فعلى الرواد أن يفكروا في تمكين منظومتهم لا في تطويعها لصالح عدوها. ومن يعبث بحثًا عن ذاته، أو من قد سكر واغتر بكثرة المتابعين واعتلاء منابر العلمانيين، عليه أن يفكر بأنه موقوف غدًا بين يدي الله ومسئول ثم يساق إلى نارٍ تلظى أو إلى جناتٍ ونعيم.
محمد جلال القصاص
المحرم 1442هـ
- التصنيف: