أسباب الإصابة بالهموم والأحزان
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: يهدم البدن: الهمّ والحزن.
- التصنيفات: تزكية النفس -
{بسم الله الرحمن الرحيم }
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين... أما بعد:
فالمؤمن يحمد الله عز وجل على كل قضاءه، لعلمه أن قضاء الله كله عدل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( «عدل فيَّ قضاؤك» ) [أخرجه أحمد] والمؤمن يشكر الله، لعلمه أن قضاء الله له خير، قال عز وجل: { {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} } [البقرة: 216] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له» ) [أخرجه مسلم].
وإن مما يقضيه الله عز وجل على بعض عباده إصابتهم بالهموم والأحزان، ومن أُصيب بذلك فليعلم أن الله الكريم أراد به خيراً، لأنه لا ينفك عن ذنوب ومعاصي، أراد الله الرحيم أن يعجل له عقوبتها في الدنيا رحمة به، فعقوبات الدنيا مهما بلغت لا تقارن بأي حال من الأحوال بعذاب الآخرة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( «إذا أراد الله بعبده الخير، عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر، أمسك عنه بذنبه، حتى يُوافى به يوم القيامة» ) [أخرجه الترمذي]. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: والغموم والهموم والأحزان والضيق، عقوبات عاجلة، وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: والعقوبة أنواع كثيرة: منها العقوبة بالنفس وذلك كالأمراض العضوية والنفسية.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( «إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها، من العمل، ابتلاه الله بالحزن، ليكفرها عنه » ) [أخرجه أحمد، والبزار، وحسنه السيوطي، وقال الهيثمي رواه أحمد والبزار وإسناده حسن] قال العلامة المناوي رحمه الله: الأحزان والأكدار في هذه الدار رحمة من العزيز الغفار.
وإصابة البعض بالهموم والأحزان، قد تكون خيراً له من جهة أنها قد تكون سبباً في توبته وإنابته لربه، فيُرزق محبته والأنس به، والفرار إليه، والتوكل عليه، فما أعظمها من نعمة أن يرزق العبد ذلك، وأن يتوب توبة نصوح من معاصيه وشهواته المُردية.
وهذه طائفة من أسباب الإصابة بالهموم والأحزان, وآثارها على النفس والبدن.
أسباب الإصابة بالهموم والأحزان
السخط وعدم الرضا بقضاء الله وقدره
العبد المؤمن مُبتلى في الحياة الدنيا، فلا بدَّ من وجود أحداث تصيب العبد بالهموم والأحزان، ابتلاءً وامتحاناً من الله عز وجل لعبده، من موت عزيز، أو مفارقة حبيب، أو خسارة مال، أو مرض بدن، أو تسلط شياطين جن، أو اعتداء شياطين إنس، ونحو ذلك من الآفات، قال الله عز وجل: { {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} } [آل عمران: 186] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي لا بدَّ أن يبتلى المؤمن، في شيءٍ من ماله، أو نفسه، أو أهله، ويبتلى المؤمن على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء.
وقال الله عز وجل:{ {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} } [البقرة: 155] قال ابن كثير:أخبرنا تعالى أنه يبتلي عباده أي يختبرهم ويمتحنهم..فمن صبر أثابه، ومن قنط أحلَّ به عقابه"
ومن لم يصبر وتسخط وتضجر بما قدر الله عليه، فقد فتح على نفسه باب الهموم، والأحزان، والغموم، قال ابن القيم رحمه الله: السخط باب الهمِّ والغمِّ والحزن.
ترك طريق الخير والاستقامة
قال ابن القيم: من..عرف طريقاً موصلة إلى الله ثم تركها وأقبل على شهواته ولذاته، وقع في آبار المعاطب، وأودع قلبه سجن المضايق، وعُذِّب في حياته عذاباً لم يعذِّب أحد من العالمين، فحياته عجز وغم وحزن قد فرط عليه أمره، وشُتِّت عليه شمله، وأحضرت نفسه الغموم والأحزان.قد ترحلت أفراحه وسروره مدبرة، وأقبلت آلامه وأحزانه وحسراته مقبلة.
الإعراض عن ذكر الله وطاعته:
قال الله عز وجل: { {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} } [طه: 124] قال ابن كثير رحمه الله: أي ضنكاً في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره بل صدره ضيق حرج لضلاله وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك،
وقال ابن القيم رحمه الله: من أعرض عن ذكره الذي أنزله، فله من ضيق الصدر، ونكد العيش، وكثرة الخوف، وقال السعدي رحمه الله: بعض المفسرين يري أن المعيشة الضنك عامة في دار الدنيا بما يُصيب المعرض عن ذكر ربه من الهموم والغموم والآلام"
وكلما زاد إعراض الإنسان، كلما زادت همومه أكثر، فالكفار من أضيق الناس صدراً وأكثرهم حزناً وهماً، قال الله عز وجل: { {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا} } [الأنعام: 125] قال ابن كثير رحمه الله قال السدي: { {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} } [الأنعام: 125] من ضيق صدره وقال القرطبي رحمه الله: الكافر من ضيق صدره كأنه يريد أن يصعد إلى السماء وهو لا يقدر على ذلك وقال ابن تيمية رحمه الله: وقد قيل إن قوله { {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} } إشارة إلى ما هو لازم لهم في الدنيا والآخرة من الآلام النفسية غماً وحزناً وقسوة وظلمة قلب وقال ابن عثيمين رحمه الله: هؤلاء الكفار.لا تظنوا أنّهم في نعيم والله إنَّهم في جحيمٍ قلوبهم الآن ملأ من الجحيم مهما زانت لهم الدنيا فهم في جحيم لكنهم يغرُّوننا بما يدعون أنهم فيه من النعيم ونظنُّ أن هذا حقيقة وقال: المؤمن يحصل له من المعصية أثر سيء في نفسه حتى أن بعض الناس يضيق صدره.. وسببه معصيته.
ارتكاب الذنوب من أسباب الإصابة بالهموم والأحزان:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من اتبع هواه.. يجد في أثناء ذلك من الهموم والغموم والأحزان والآلام وضيق الصدر ما لا يعبر عنه، وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: متى رأيت معاقباً، فاعلم أنه لذنوب... وأنا أقول عن نفسي: ما نزلت بي آفة، من غم، أو ضيق صدر، إلا بزلل أعرفه، حتى يمكنني أن أقول: هذا بالشيء الفلاني.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: ما يُجازي به المسيءُ من ضيق الصدر، وقسوة القلب، وتشتته وظلمته، وغمِّه وهمه وحزنه، هذا أمر لا يكاد من له أدنى حسٍّ وحياةٍ يرتاب فيه، وقال رحمه الله: الأوزار والخطايا تقبضُ الصدر، وتُضيقه... ومن عقوباتها ما يلقيه الله سبحانه من الرعب والخوف في قلب العاصي، فلا تراه إلا خائفاً مرعوباً... فلا تجد العاصي إلا وقلبه كأنه بين جناحي طائر، وقال رحمه الله: إن الله سبحانه وتعالى بحكمته وعدله، يُظهرُ للناس أعمالهم في قوالب وصور تُناسبها، فتارة بهموم، وآلام، وغموم، تحضرها نفوسهم، لا ينفكون عنها، وقال رحمه الله: انظر ما يعقب فرح الظفر بالذنوب، من أنواع الأحزان، والهموم، والغموم.
وقال رحمه الله: ولو فتَّش العاصي عن قلبه، لوجده حشوه المخاوف، والانزعاج، والقلق، والاضطراب وإنما يواري عنه شهود ذلك سُكرُ الغفلة، والشهوة، فإن للشهوة سُكراً يزيد على سكر الخمر، وقال رحمه الله: الشهوةُ توجب ألماً و.. عقوبة و.. تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً، وقال رحمه الله: اشترك.. عقلاء كلّ أمة أن المعاصي والفساد توجب الهمَّ والغمَّ والخوف والحزن وضيق الصدر، حتى إن أهلها إذا قضوا منها أوطارهم وسئمتها نفوسهم ارتكبوها دفعاً لما يجدونه في صدورهم من الضيق والهم والغم.
الرغبة في الدنيا وزينتها وإيثارها على الآخرة
من أصبح وأمسى والدنيا همُّهُ، حَمَلَ من همومها وغُمومها وانكادها بقدر اهتمامه بها، فقد جلبت لمحبيها وعشاقها: الهموم قبل حصولها، والغموم في حال الظفر بها، والأحزان بعد فواتها أو فقدها، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إنما تحصل الهموم والغموم والأحزان من... الرغبة في الدنيا والحرص عليها... ومحبُّ الدنيا لا ينفكُّ من ثلاث: همٍّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي، وذلك أن محبها لا ينال منها شيئاً إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لها ثالثاً ) وقد مثل عيس ابن مريم عليه السلام مُحبّ الدنيا بشارب البحر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً... وهي كالسُّمِّ يأكله من لا يعرفه وهو حتفُه... فصاحب الدنيا كلما اطمئنَّ منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه.... سرورها مشوب بالحزن، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد... وأهل الدنيا وعُشاقها أعلم بما يقاسونه من العذاب وأنواع الألم في طلبها.
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: رأيت سبب الهموم والغموم: الإعراض عن الله عز وجل والإقبال على الدنيا، وكلما فات منها شيء وقع الغم لفواته".
آثار الهموم والأحزان
للهموم والأحزان آثار ضارة، على بدن الإنسان، وعقله، وعلى قلبه، وعلى نشاطه في طاعة الله، لا يدرك أبعادها إلا من أُصيب بها، أسأل الله الكريم أن يعجل بالشفاء لكل مهموم ومغموم، ومن آثارها:
آثارها على العقل
قال الإمام ابن حبان البستي رحمه الله: لا يجب للعاقل أن يغتم، لأن الغمَّ لا ينفع، وكثرته تزري بالعقل، ولا أن يحزن، لأن الحزن لا يرد المرزئه، ودوامه ينقص العقل.
آثارها على البدن
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: يهدم البدن: الهمّ والحزن.
آثارها على القلب
قال العلامة ابن القيم رحمه الله عن الحزن والهم: وهما يضعفان العزم، ويوهنان القلب، ويحولان بين العبد وبين الاجتهاد فيما ينفعه، ويقطعان عليه طريق السير، أو يُنكسانه إلى وراء، أو يعوقانه ويقفانه.... فهما حمل ثقل على ظهر السائر، وقال رحمه الله: الحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره.
آثارها على ضعف النشاط في طاعة الله
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: اشتغال خاطر العبد بالهموم، يكسر من نشاطه إلى الطاعة، ويثني من عزمه على الخير، ويقبض من عنان جواد سعيه إلى مراضي الله عز وجل.
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: الحزن على ما مضي لا يفيد الإنسان بل يفتر عزيمته، ويقلق راحته ولا يستفيد منه بشيء.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ