كيف نفهم عبارات السلف في أهل الأهواء والبدع؟!
ثالثًا: اعتبار المصلحة والمفسدة: تعامل السلف مع البدعة يختلف باختلاف تحقق المصالح الشرعية المعتبرة التي تدور معها الكثير من أحكام الإسلام وجودًا وعدما
مما أكسب أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم خيريتها أمرُها بالمعروف وإنكارها المنكر، وبتضييعهما تفقدها، فقال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران:110]، ويدخل في هذا الباب بيان حال المبتدعة المبدلين للشرع بعبثهم أو حتى بجهلهم، " ولهذا كان السلف يعدون كل من خرج عن الشريعة في شئ من الدين من أهل الأهواء، ويجعلون أهل البدع هم أهل الأهواء، ويذمونهم بذلك، ويأمرون بألا يغتر بهم ولو أظهروا ما أظهروه من العلم والكلام والحجاج أو العبادة والأحوال "[1]، وما ذلك إلا حفاظًا على الدين وحراسة لإيمان العوام مما يُلبَّس به عليهم من الضلالات.
يقول شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية ت 728ه في أمثال هؤلاء: " ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة؛ فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل "[2]
فقام لأجل ذلك أئمة الدين وحرّاس السنة بواجب البيان خير قيام، واختلفت عباراتهم وتنوعت أساليبهم ومواقفهم حيال المبتدعة، فتباينت تبعًا لذلك أفهام الناس في تفسير هذه العبارات وتلك المواقف؛ فمنهم من طرد كلامهم على الجميع ولم يفرق، فكفّر وفسّق بغير سلطان أُوتيه، " وبإزاء هؤلاء المكفّرين بالباطل أقوامٌ لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة كما يجب، أو يعرفون بعضه ويجهلون بعضه وما عرفوه منه قد لا يبيّنونه للناس بل يكتمونه ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة ولا يذمون أهل البدع ويعاقبونهم؛ بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين ذمًا مطلقًا؛ لا يفرقون فيه بين ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وما يقوله أهل البدعة والفرقة أو يقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة كما يقر العلماء في مواضع الاجتهاد التي يسوغ فيها النزاع، وهذه الطريقة قد تغلب على كثير من المرجئة وبعض المتفقهة والمتصوفة والمتفلسفة كما تغلب الأولى على كثير من أهل الأهواء والكلام، وكلا هاتين الطريقتين منحرفة خارجة عن الكتاب والسنة.
وإنما الواجب بيان ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وتبليغ ما جاءت به الرسل عن الله والوفاء بميثاق الله الذي أخذه على العلماء فيجب أن يعلم ما جاءت به الرسل ويؤمن به ويبلغه ويدعو إليه ويجاهد عليه.. "[3]
فبحول الله نستعرض في هذه السطور من كلام شيخ الإسلام ما يشرح الإجمال في كلام الأئمة المتقدمين ويكشف الإبهام عن عباراتهم، حتى لا نقع في إفراط أو تفريط بين الوعد والوعيد، مفرقين في ذلك المقام بين الحكم على المقالة أو المذهب البدعي والقائل أو المنتسب له، فلا تلازم بينهما، فيدخل في ذلك ما يدخل في قاعدة التكفير من عدم التلازم بين كفر المقالة وكفر قائلها، بل هناك من الشروط الواجب توفرها والموانع الواجب انتفاؤها قبل صدور الحكم على المعينين[4]، مع الجزم ببدعية المقالة أو كفريتها، " فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له "[5]، فهذا بيان التفريق بين المقامين من كلام شيخ الإسلام، يزيده وضوحًا مواقفه العملية وما يحكيه عن نفسه في محنته فيقول: " وكنت أبين لهم أنما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضا حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين "[6]، ويقول أيضًا: " فإذا رأيت إمامًا قد غلّظ على قائل مقالته أو كفّره فيها فلا يعتبر هذا حكمًا عامًا في كل من قالها إلا إذا حصل فيه الشرط الذي يستحق به التغليظ عليه والتكفير له "[7]، ففي هذا الإطار تُفهم إطلاقات الأئمة في المقالات البدعية وأصحابها على جهة البيان والتحذير، لا أن ذلك لازم لكل من وقع فيها.
ثم إنه ليس كل من انتسب إلى مقالة قد انطلق من أصولها ولا التزم كل لوازمها، " ولازم المذهب لا يجب أن يكون مذهبًا، بل أكثر الناس يقولون أقوالا ولا يلتزمون لوازمها، فلا يلزم إذا قال القائل ما يستلزم التعطيل أن يكون معتقدًا للتعطيل، بل يكون معتقدا للإثبات ولكن لا يعرف ذلك اللزوم "[8]، وقد لا تكون باطلة من كل وجه بل يظهر فيها الحق باعتبار، فيقول ابن تيمية في المنهجية في التعامل مع المقالات: " فهذا أصل عظيم فتدبره فإنه نافع، وهو أن ينظر في " شيئين في المقالة " هل هي حق؟ أم باطل؟ أم تقبل التقسيم فتكون حقًا باعتبار باطلًا باعتبار؟ وهو كثير وغالب، ثم النظر الثاني في حكمه إثباتا أو نفيا أو تفصيلا، واختلاف أحوال الناس فيه، فمن سلك هذا المسلك أصاب الحق قولا وعملا وعرف إبطال القول وإحقاقه "[9]
ثم بعد الانتساب يتفاوتون، فمن ضل في مسألةٍ ليس كم تبنى كامل المقالة، وليس كمن اتبع مذهبًا متكاملًا، وليس كمن دعا إليه أو صنف فيه وأصّل له، ولا كمن امتحن وعذّب، فليسوا سواءً، وقد فرق أئمة الحديث قديمًا في الرواية عن الداعي والرواية عن المنتسب الساكت، فقيل للإمام أحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله سمعتَ من أبي قطن القدريّ؟ قال: " لم أره داعية، ولو كان داعية لم أسمع منه "، وسئل: أيكتب عن المرجئ والقدريّ؟ قال: " نعم يُكتب عنه إ ذ لم يكن داعيًا "، قال الخطيب البغدادي: إنما منعوا أن يكتب عن الدعاة، خوفًا أن تحملهم الدعوة إلى البدعة والترغيب فيها على وضع ما يحسنها[10]
ثم إن البدع ليست على درجة واحدة من الشريعة، فما قيل في ذم القائلين بخلق القرآن يختلف عما قيل في ذم إرجاء الفقهاء أو تشيع الكوفيين، وقد تردد على بن أبي طالب في قتال الخوارج لكنه لم يتردد في قتل من ادّعى فيه الإلوهية، ولذا فرق أصحاب الحديث في الرواية عن المبتدعة تبعًا لمقالاتهم، يقول ابن رجب ت 795ه - بعد أن أورد االخلاف في الرواية عن المبتدعة - فيقول: " فيخرج من هذا: أن البدع الغليظة كالتجهم يرد بها الرواية مطلقًا، والمتوسطة كالقدر إنما يرد رواية الداعي إليها، والخفية كالأرجاء، هل تقبل معها الرواية مطلقا أو ترد عن الداعية؟، على روايتين "[11]
وقد أورد ابن تيمية صورًا من الخطأ على الإئمة وأنواعًا من الانحراف في التصرف في أقوالهم، فمنها: " الثالث: قول قاله الإمام فزيد عليه قدرًا أو نوعًا كتكفيره نوعًا من أهل البدع كالجهمية فيجعل البدع نوعًا واحدًا حتى يدخل فيه المرجئة والقدرية، أو ذمه لأصحاب الرأي بمخالفة الحديث والإرجاء فيخرِج ذلك إلى التكفير واللعن، أو رده لشهادة الداعية وروايته وغير الداعية في بعض البدع الغليظة فيعتقد رد خبرهم مطلقًا مع نصوصه الصرائح بخلافه وكخروج من خرج في بعض الصفات إلى زيادة من التشبيه "[12]
" ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا لأصل المأخوذ ابتداءً عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم، لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم، لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها. "[13]، وقد كانت لحاطب - رضي الله عنه - حسنات في الإسلام شفعت له عند رسول لما وقعت منه الخيانة، فقال عمر بن الخطاب: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فأضرب عنقه، قال: فقال: " يا عمر، وما يدريك، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة "، قال الراوي: فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم[14]
ولا بد بعد ذلك - لفهم كلام السلف في شأن مقالات المبتدعة وأحكامهم - من استحضار مجموعة من الاعتبارات المهمة، التي ترفع ما يبدو للناظر للوهلة الأولى من تضارب في عبارات الأئمة وتوضح الإبهام والإجمال في مواقفهم:
أولًا: اعتبار الظرف الزمني: فالقرون الأولى كانت قريبة عهد بالصحابة والتابعين من تربى في أحضانهم، والتمسك فيها بالدين كان على أشدّه، ومن يرى إنكار الصحابة للمخالفات التي ظهرت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف كانوا يعدونها من الموبقات، وتعامل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - مع ابن صبيغ وقد أعد له عراجين النخل لما شم منه رائحة الابتداع، يدرك استعظامهم للإحداث في الدين، واستهجانهم الخروج عنه وإن دقت المسألة، بخلاف تعامل من جاء بعد القرون الفاضلة وقد كثُرت البدع واندرس الكثير من العلم، واستقرت المقالات وصار لها أتباع ومدارس وأحيانًا سلطة تتبناها وتنشرها وتمتحن الناس فيها، بل وتسجن وتعذب المخالف لها، لذا يقول شيخ الإسلام: " وقلّ طائفة من المتأخرين إلا وقع في كلامها نوع غلط لكثرة ما وقع من شبه أهل البدع؛ ولهذا يوجد في كثير من المصنفات في أصول الفقه وأصول الدين والفقه والزهد والتفسير والحديث؛ من يَذكر في الأصل العظيم عدة أقوال ويحكي من مقالات الناس ألوانًا، والقول الذي بعث الله به رسوله لا يذكره؛ لعدم علمه به لا لكراهته لما عليه الرسول "[15]، ويقول أيضًا: " فلما طال الزمان خفي على كثير من الناس ما كان ظاهرًا لهم ودق على كثير من الناس ما كان جليًا لهم، فكثر من المتأخرين مخالفة الكتاب والسنة ما لم يكن مثل هذا في السلف، وإن كانوا مع هذا مجتهدين معذورين يغفر الله لهم خطاياهم ويثيبهم على اجتهادهم، وقد يكون لهم من الحسنات ما يكون للعامل منهم أجر خمسين رجلا يعملها في ذلك الزمان؛ لأنهم كانوا يجدون من يعينهم على ذلك وهؤلاء المتأخرون لم يجدوا من يعينهم على ذلك "[16]
ثانيًا: اعتبار البعد الجغرافي: فالبقاع التي كانت مهبط الرسالة وعاش فيها جيل الصحابة ونَشؤهم على الدين الخالص يختلف تعامل الأئمة فيها مع البدع عن أطراف العالم المسلم التي كانت حديثة عهد بإسلام، وقد اختلط فيها الإسلام بالمذاهب والفلسفات والثقافات الباطلة السابقة على دخوله، وعمت وكثر المعتنقون لها، حتى أصبح أتباع السلف فيهم قلة لا يقوون على الإنكار، مثال ذلك ما جاء " في مسائل إسحاق بن منصور - وذكره الخلال في " كتاب السنة " في باب مجانبة من قال: القرآن مخلوق - عن إسحاق أنه قال لأبي عبد الله: من قال: القرآن مخلوق؟ قال: ألحق به كل بلية، قلت: فيظهر العداوة لهم أم يداريهم؟ قال: أهل خراسان لا يقوون بهم، وهذا الجواب منه مع قوله في القدرية: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة، ومع ما كان يعاملهم به في المحنة: من الدفع بالتي هي أحسن ومخاطبتهم بالحجج يفسر ما في كلامه وأفعاله من هجرهم والنهي عن مجالستهم ومكالمتهم، حتى هجر في زمن غير ما أعيان من الأكابر وأمر بهجرهم لنوع ما من التجهم "[17]
ويوضح ابن تيمية مفرقًا بهذا البعد المكاني من كلام الإمام أحمد، فيقول: " وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع ؛كما كثر القدر في البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة وبين ما ليس كذلك "[18]، ويقول أيضًا في التعامل مع البدعة بعد أن أصبحت من قبيل الأمر الواقع: " كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك: أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية، فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة، وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي، وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة فلو ترك رواية الحديث عنهم لا ندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم "[19]
ثالثًا: اعتبار المصلحة والمفسدة: تعامل السلف مع البدعة يختلف باختلاف تحقق المصالح الشرعية المعتبرة التي تدور معها الكثير من أحكام الإسلام وجودًا وعدما، وذلك في درجة الإنكار وصورته، فيقول ابن تيمية في هجر المبتدعة وهي من صور الإنكار عليهم: " وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجِرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله؛ فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر. والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف؛ "[20]، وهذا الاعتبار له صلة بالاعتبار المكاني، " فحكم المسلم يتنوع كما تنوع الحكم في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق مكة وفي المدينة. فليس حكم القادر على تعزيرهم بالهجرة حكم العاجز ولا هجرة من لا يحتاج إلى مجالستهم كهجرة المحتاج "[21]
خامسًا: اعتبار الفروق الشخصية: فالسلف ليسوا على درجة واحدة في الإنكار فمنهم من يُعرف بشدته ومنهم من يعرف بتساهله، وأقرب مثال لذلك تفاوت أهل الحديث في جرح الرجال وتعديلهم، فيقول الخطيب البغدادي ت 463ه عن بعض النقاد: " ومذاهب النقاد للرجال غامضة دقيقة، وربما سمع بعضهم في الراوي أدنى مغمز فتوقف عن الاحتجاج بخبره، وإن لم يكن الذي سمعه موجبًا لرد الحديث ولا مسقطًا للعدالة "[22]، كما روى عن شعبة أنه قيل له: لم تركت حديث فلان؟ قال: " رأيته يركض على برذون فتركت حديثه "[23]
ولعل اختلاف آراء الصحابة في التعامل مع أسرى بدر من هذا الباب، فقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلى اختلاف طباعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ " قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأهلك، استبقهم، واستأن بهم، لعل الله أن يتوب عليهم، قال: وقال عمر: يا رسول الله، أخرجوك وكذبوك، قربهم فاضرب أعناقهم، قال: وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، انظر واديا كثير الحطب، فأدخلهم فيه، ثم أضرم عليهم نارا قال: فقال العباس: قطعت رحمك، قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يرد عليهم شيئا، قال: فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، قال: فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: " إن الله ليلين قلوب رجال فيه، حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشد قلوب رجال فيه، حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام، قال: ﴿ من تبعني فإنه مني، ومن عصاني فإنك غفور رحيم ﴾ [ابراهيم:36]، ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: ﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ [المائدة:118]، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال: ﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ﴾ [نوح:26]، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى، قال: رب ﴿ اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ﴾ [يونس:88][24]
سادسًا: اعتبار السياق: فما قيل في سياق الكتابة والتقعيد ليس كما قيل في سياق الامتحان والجدال، فحضور الذهن وانتقاء العبارات يكون حاضرًا في الأولى دون الثانية، وحدة الألفظ وإطلاق الذم قد يقصد به في الثانية لمصحلة الانزجار والتخويف، وقد يُعذر قائله فيه لغير ذلك، فيستقى منهجه من الأول دون الثاني، وهذا يفسر ما كان من ابن تيمية في محنته حيث يحكي قائلًا: " فأغلظت لهم في الجواب، وقلت لهم بصوت رفيع: يا مبدلين يا مرتدين عن الشريعة يا زنادقة، وكلامًا آخر كثيرًا، ثم قمت وطلبت فتح الباب والعود إلى مكاني "[25]
ويحمل على نفس السياق ما كان من الإمام أحمد بن حنبل لما أرسل إليه من يكلمه ويناظره في محبسه، يقول رحمه الله: " فقال لي أحدهما في بعض الأيام في كلام دار وسألته عن علم الله، فقال: علم الله مخلوق، قلت: يا كافر! كفرت، فقال لي الرسول الذي كان يحضر معهم من قِبَل إسحاق: هذا رسول أمير المؤمنين، قال: فقلت: إن هذا قد كفر، وكان صاحبه الذي يجيء معه خارج، فلما دخل قلت: إن هذا زعم أن علم الله مخلوق، فنظر إليه كالمنكر عليه، قال: ثم انصرف "[26]
فهذه بعض الاعتبارات التي إذا ما جُمعت تبين الحال وارتفع الإشكال، وسلك المرء طريق الاعتدال بين من حَرموا أنفسهم من الاستفادة من العلوم النافعة عند أولئك الأئمة، وبين المتساهلين الذين لا يُفرقون بين السنة والبدعة.
ونختم بجُمل نفيسة من كلام الذهبي ت 748ه في أحد الإئمة الذين عُرف عنهم القول بالقدر رغم علو كعبه في العلم، فيقول: " وكان يرى القدر - نسأل الله العفو، ومع هذا، فما توقف أحد في صدقه، وعدالته، وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل.
ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه،
نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك "[27]، والله أعلم.
[3] مجموع الفتاوى، ص 467/12
[4] وأما هذه الشروط وتلك الموانع فلا تكفي هذه السطور لبسطها، وليس هذا مقامها، وإنما المراد وضع أطر عامة للتعامل مع عبارات الأئمة التي قد تشكل على البعض، والله المستعان.
[5] مجموع الفتاوى، ص 501/28
[6] مجموع الفتاوى، ص 231/3
[7] مجموع الفتاوى، ص 61/6
[8] مجموع الفتاوى، ص461/14
[9] مجموع الفتاوى، ص 61/6
[10] انظر الكفاية في علم الرواية، ص 126 -128
[11] شرح علل الترمذي، ص 358/1
[12] مجموع الفتاوى، ص 185/20
[13] درء تعارض العقل والنقل، ص 102/2
[15] مجموع الفتاوى، ص 484/5
[16] مجموع الفتاوى، ص 65/13
[17] مجموع الفتاوى، ص 210/28
[18] مجموع الفتاوى، ص 206/28
[19] مجموع الفتاوى، ص 212/28
[20] مجموع الفتاوى، ص 206/28
[21] مجموع الفتاوى، ص 216/28
[22] الكفاية، ص 109
[23] الكفاية، ص 110
[24] مسند أحمد: 3632
[25] التسعينية، ص 118/1
[26] سيرة الإمام أحمد بن حنبل، ص 52
[27] سير أعلام النبلاء، ص 271/5
- التصنيف: