إشراقة النفس وفن التحوط للمستقبل
فلا زِلْنا نَسْمَعُ جَمِيعاً مِنْ أجدَادِنا وآبائِنا ونُعَلِّمُ أبْناءَنا أنَّ الإنسانَ الذي لا يُعَلِّمُهُ الكِتابُ تُعَلِّمُهُ الحياة!، وكَثيرٌ مِنّا لَمْ يَكُنْ يَعْقِلُ ما يُقالُ لَه مِنْ ذلكَ يَوْمَ كانَ يرْتَدِي ثِيابَ الصَّبا ويَثِبُ وثَباتِه..
(ونَحْنُ أُناسٌ لا تَوَسُّطَ عِنْدَنا لَنا الصَّدْرُ دُونَ العالَمِينَ أَوِ القَبْرُ)
الحَمْدُ للهِ؛ وبَعْد:
فلا زِلْنا نَسْمَعُ جَمِيعاً مِنْ أجدَادِنا وآبائِنا ونُعَلِّمُ أبْناءَنا أنَّ الإنسانَ الذي لا يُعَلِّمُهُ الكِتابُ تُعَلِّمُهُ الحياة!، وكَثيرٌ مِنّا لَمْ يَكُنْ يَعْقِلُ ما يُقالُ لَه مِنْ ذلكَ يَوْمَ كانَ يرْتَدِي ثِيابَ الصَّبا ويَثِبُ وثَباتِه، لكِنَّهُ لَمْ يلْبَثْ أنْ عَرَكَتْهُ الحياةُ عَرْكَ الأديمِ فإذا بِهِ يَسْتَكِنُّ إلى ظِلِّها ويتَأَمَّلُ فِيما ألْقَتْهُ علَيْهِ مِنْ دُرُوسِ الحِكْمَةِ الصامِتة!!.
مَدْخلُ الدرس:
بَعَثَ اللهُ تَعالَى غُراباً يَبْحَثُ في الأرْضِ لِيُرِيَ الإنْسانَ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أخِيهِ، ثُمَّ فَطِنَ بِذلكَ إلى التعلُّمِ مِنْ مَخْلُوقاتِ اللهِ تعالى؛ حَتَّى لاحَظَ فِي يَومٍ مَنَ الأيامِ الطُيٌورَ النقَّارَةَ وهِي تَخْتَزِنُ ثَمَرَ البُنْدُقِ فِي جُذُوعِ الأشْجارِ، والنَّحْلَ وهُوَ يَحْملُ العَسَلَ إلى خَلاياهُ؛ والنمْلَ يَخْتَزِنُ طَعامَهُ لِيَوْمِ الحاجَة، والطيُورَ تَبْنِي أعشاشها وترْعَى صِغارها؛ وكِلابَ البحْرِ تُقِيمُ لِنَفْسها السدود؛ فألْهَمَهُ اللهُ تعالَى بِذلكَ فِكْرَةَ الزَّمَن، وشَرفَ التَّبَصُّرِ والنظَرِ في العواقِب، وضَرُورَةَ الحِياطَةِ للمُسْتَقْبَل، وما يَنْبَغِي مِنْ إحْكامِ التدابِيرِ ومُراعاةِ الأسْبابِ التي تَحْفَظُ لَهُ بَقاءَهُ وتَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ فَتَكَاتِ الدهْرِ وتَقَلُّباتِه.
وإنَّكَ لَتَلْحَظُ اشْتِراكاً فِي مَعانِي الكَلِماتِ الدالَّةِ عَلَى هذهِ المقاصِدِ في اللغَةِ العَرَبِيَّةِ: (التدبِير)؛ (التّحَوُّطُ)؛ (التبَصُّر)، كَما تَلْحَظُ اشتراكاً في الأصْلِ اللغَوِيِّ الدالِّ عَلَى مَعانِي هذهِ الكَلِماتِ في اللغَةِ الإنْجِلِيزِيَّة.
Prevision = قَبْلَ الرؤْية أو حياطَةُ المُسْتَقْبل.
(Providence) = التدْبِير.
Prudence = التعَقُّلُ أو التّبَصُّرُ.
مِمّا يَدُلُّكَ عَلَى اشْتِراكِ بَنِي الإنسانِ فِي الأسبابِ المادِيَّةِ الكَوْنِيّةِ التي يَتَوَصلُ بِها إلى ما يَحْتاجُهُ منَ الحِياطَةِ لِدُنْياهُ، كما تَلَقَّى الجَمِيعُ ذلكَ عَنْ مَدْرَسَةٍ واحِدَة.
ذَكِيٌّ وبَلِيد:
غَيْرَ أنَنِي أخْبُرُكَ بِما يُذكِّرُكَ بِقَوْلِ الشاعِرِ:
سُبْجانَ مَنْ قَسَمَ الحُظُ
وظَ فَلا عِتَابَ ولا مَلامَةَ!
ذلكَ أنّ الناسَ وإنْ أفادُوا جَمِيعاً مِنْ الدرْسِ السابِقِ فِكْرَةَ تَخْزِينِ الطعامِ فِي أيامِ السنَةِ السِّمانِ حَذَراً مِنْ أيامِها العِجافِ؛ فَعَرَفُوا تَجْفِيفَ اللحُومِ والأسْماكِ وتَمْلِيحَها وتَدْخِينَها، وعَرَفُوا كَيْفَ يَبْنُونَ للثمارِ المُجَفَّفَةِ والغِلالِ (الجَرِينَ والْمِرْبَدَ والصُّوبَةَ والمِسْطاحَ والجَوْخانَ والبَيْدَرَ والغَدَادَ) – وكُلَّها أسماءٌ لِلْمَواضِعِ التي يُحْفَظُ فِيها التمرُ والحِنْطَةُ والزبِيبُ وغَيرُها حَذرَ المطرِ والرطُوبَةِ والرياحِ وهوامِّ الأرضِ واللصوص! – إلاَّ أنَّ قِلَّةً مِنْهُمْ أَدْرَكَتْ أَنَّ فَنَّ الحِياطَةِ هذا يَتَناوَلُ ما هُوَ أعْظَمُ وأَوْلَى مِنْ حَفْظِ المَبادِئِ والأُصُولِ والقِيَمِ التِي هِيَ عِمادُ البقاءِ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ؛ والرابِطُ الذي يُكَوِّنُ أساساً مَتِيناً ثابِتاً تَسْتَقِرُّ عَلَيهِ الجماعَةُ والدَّوْلِة.
ولِذا كانَتْ (الترْبِيَةُ) عَلَى هذهِ القِيَمِ والمُثُلِ هِيَ التي تُمَيِّزُ الإنْسانَ عَنْ سائِرِ المَخْلُوقات، وهِيَ كذلكَ العامِلُ الذي يَرْبِطُ الأجْيالَ المُتَعاقِبَةَ بَعْضَها بِبَعْضٍ، كَما يَرْتَبِطُ أبْناءُ الأسْرَةِ الواحِدَةِ بِفَضْلِ تَرْبِيَتِها لَهُم، فإذا ما وقَعَ اضْطَرابٌ أو خَلَلٌ فِي هذا العامِلِ كانَ التَّهَلْهُلُ والضعْفُ في الأمَّةِ عَلَى قَدْرِهِ، ورُبَّما آذَنَتْ شَمْسُها بالأُفُولِ؛ إذ المُجْتَمَعاتُ بِدُونِ هذهِ القِيَمِ لَيْسَتْ شَيئاً يَسْتَعْصِي عَلَى الزوالِ والفَناء!.
العالَمُ مِنْ حَوْلِنا:
ولا أَرانِي بِحاجَةٍ أيُّها القارِئُ الكَرِيمُ إلى الحَدِيثِ عَنِ الضّرْبِ الأَوّلِ مِنْ فَنّ الحياطَةِ هذا؛ وكَيْفَ اكتَشَفَ الإنسانُ آلَةَ الحَرْثِ أَولَ مَرة، وكَيْفَ تَعَلّمَ مِنْ صُنُوفِ الحيَوان السلاحَ وآلاتِ الحَرْبِ والدفاعَ عَنِ النفْسِ؛ فقَلَّدَ واسْتَخْدَمَ مَخالِبَ الحيوانِ وأنْيابَهُ؛ وصنعَ الآلاتِ مِن العاجِ وَالعظمِ والصخر؛ ثم من الحديد ومعادن الأرض؛ فَهُدِيَ إلى صناعَةِ السيُوفِ والخناجرِ وَالمُدَى والرماحِ والقِسِيِّ والسهام والهرَاواتِ والمقاليعِ وغَيرها، وما الذي دَعاهُ إلى الابْتِكارِ وحَمَلَهُ عَلَيْه!، وأولُ ما صُنِعَتْ آلَةُ الحرْثِ (العَصاةُ الحافِرَة)، والسرُّ الكامِنُ وراءَ حَمْلِ الإنسانِ للعصا، وغَيْرِ ذلكَ مَمَّا لا يَخْلُو عَنْ مُتْعَةٍ وفائِدَة، لأننا فِي قَرْنِنَا هذا الذي نَقِفُ فِيهِ أماَمَ بَواباتٍ كَبِيرَةٍ مُشْرَعَةٍ فُتِحَتْ بَيْنَنا وبَيْنَ الأُمَمِ الأُخْرى؛ نَحْتاجُ أنْ نَسْتَفْرِغَ الوُسْعَ ونَبْذُلَ الجُهْدَ فِي تَسْخِيرِ هذا الفَنِّ في مُقاوَمَةِ ما يَلِجُ إلَيْنا مِنَ الرياحِ التي تَقْصِدُ قَواعِدَ البِناء وتُحاوِلُ تَقْوِيضَهُ وهَدْمَه.
تَقْسِيمُ الأيامِ إلى ماضٍ وحاضِرٍ ومُسْتَقْبلٍ عَمَلٌ مِن صَنِيعِ المُؤرّخين، أما الزمَنُ فلا يَعْرفُ هذا التقْسيم!، هكذا يَقُولُ بَعْضُ المُؤرِّخين، وهِيَ حَقِيقَةٌ لا يَسَعُ دارِسَ التارِيخِ للاعْتِبارِ إلا أنْ يُسَلِّمَ بِها، ومِنْ ثَمَّ فَمَغْبُونٌ كُلَّ الغُبْنِ مَنْ تَغافَلَ عَنْها وظَنَّ أنَّ زَخارِفَ الأقْوالِ والأعْمالِ التي يَسْتَتِرُ الكَيْدُ والمَكْرُ مِنْ وَرائِها وتُوَجَّهُ سِهامُها إلَيْنا هِيَ الصفْحَةَ البَيْضاءَ الجدِيدَةَ مِنَ التارِيخ!، وكَمْ سَيْجْنِي عَلَى تارِيخِنا وأُمَّتِنا مَنْ ذهَبَتْ بِهِ الظُّنُونُ هذا المَذْهب؟!.
شَمْسُ المَعْرِفَة؛ والسحُبُ السوْداء!:
وَنَحْنُ أمامَ تَحَدِّياتٍ كَبِيرَةٍ؛ لَيْسَ هذا (الانْفِتاحُ المَعْرِفِيُّ) الذي نَراهُ ونَحْياه أَقَلَّها بِحالٍ مِنَ الأحْوال، وهو انْفِتاحٌ لَمْ يَقَعْ لَهُ مَثيلٌ في الأُمَمِ السابِقَةِ، ولا فِي تارِيخِ الإنْسانِيَّةِ كُلِّها، بلْ لا نُبالِغُ إنْ قُلْنا إنهُ مِنْ أكْبَرِ التحدِّياتِ خَظَرا، ومِنْ أشدِّها امْتِحاناً لعَزائمِنا وثباتِنا.
ومِنْ نافِلَةِ القَوْلِ أنْ نَتَحَدَّثَ هُنَا عَنْ ثِمارِهِ اليانِعَةِ؛ وقُطُوفِهِ الدانِيَةِ، ومَنْ ذا الذي يَجْرُؤُ عَلَى إنْكارِ إشراقَةِ النفُوسِ بالعِلْمِ وحاجَتِها إلَى المَعْرِفَةِ؛ والتِي تُشْرِقُ بِها شَمْسُ الأمَّةِ عَلَى العالَمِ كُلِّه؟!؛ وأنَّ العُلُومَ والمَعارِفَ النافِعَةَ يَحْتاجُ إليها جَميعُ الناسِ حاجَتَهُمْ إلى الماءِ والهَواء!؛ اللهُمَّ إلاّ مَنْ لَمْ يَتَذَوَّقْ حَلاوَتَها مِمَّنْ اعْتادَ لَيْلَ الجَهْلِ البَهِيم!.
عَلَى أَنَّنا – أُمَّةَ الإسلامِ – حُزْنا مَحَلَّ الريادَةِ فِي العِلْمِ والمَعْرِفَةِ بِطُلُوعِ فَجْرِ الرسالَةِ المُحَمَّدِيَّةِ عَلَى صَاحِبِها الصلاةُ والسلام؛ ولَسْنا حَديثِي عَهْدٍ بِذلكَ ولا مُتَطّفِّلِينَ عَلَيْهِ؛ إلاَّ حَيْثُ انْتَبَذْنا مِنْ مَعِينِ الهِدايَةِ مَكاناً قَصِيّا؛ وحَيثُ ظَنَّ بَعْضُنا – وساءَ ما ظَنُّوا – أنّنا بِغَيْرِ دِينِ الإسلامِ وقِيَمِهِ وأخْلاقِهِ عَلى شَيءٍ!، ورُبَّما غَرَّهُمْ ثَناءُ طائِفَةٍ مِنَ الباحِثِينَ الأورُوبِيينَ عَلى ما أَحْرَزْناهُ مِنَ التقَدُّمِ في فُنُونِ العِلْمِ وضُرُوبِ المَعْرِفَةِ فِي امْتِدادٍ زَمانِيِّ ومَكانِيٍّ لا مَثِيلَ له فاستَمْسَكُوا بالشكْلِ وغَفِلُوا عَن الجَوْهَر؛ وَوَسْوَسَ إلَيْهِمُ الشيطانُ لِيُوهِمَهُمْ حُصُولَ ما أَحْرَزُوهُ بَعِيداً عَنِ الإسلام؛ لِيَنْزِعَ عَنْهُمْ ما وُورِيَ مِنْ سَوْآتِهم؛ ولِيَذْهَبَ بَما جَمَّلَهُمُ اللهُ بِهِ مِنْ لِباسِ الإيمانِ وزِينَةِ التقْوى.
وقَدْ كانَ الواجِبُ أنْ يُرَدَّ القَوْسُ إلى مَنْزَعِهِ، والفَضْلُ إلى مَنْبَعِه، غَيْرَ أنَّ القَوْمَ لمّا تَبَدَّلَتِ الحالُ غَيْرَ الحال جَرَوْ عَلَى سُنَّةِ بَنِي إسرائيلَ فِي إنْكارِ فَضْلِ ذي الفَضْلِ؛ وفي اسْتِبْدالِ الذي هُوَ أدْنَى بالذي هُوَ خَير!، فَنَسَبُوا ما أَحْرَزُوهُ إلى كُلِّ ما سنَحَ فِثي البالِ وعَنَّ في الخاطِر إلا الإسلام!؛ كَيْفَ وقَدْ ألَصَقُوا بِهِ من التُّهَمِ ما أَفْصَحَ عَنْ جَهْلٍ قادِحٍ أو عَداءٍ فاضح!، ولَيْتَ شِعْرِي لَوْ قِيلَ لَهُمْ: هَبْكُمْ نَحَيَّيْتُمُ الإسلامَ جانِباً مِنْ تارِيخِكُمْ و أَبْعَدْتُم كُلَّ ما صَنَعْتُمُوهُ مِن البُطُولاتِ بالإسلام؛ فَهاتُونا بَعْدَ ذلكَ صَنائِعَكُمْ؟؛ وقُولُوا لنا: مَنْ أنْتُم؟؛ ماذا سَيَقُولُونَ وبأيِّ لِسانٍ سَيُجِيبُون؟.
وصَدَقَ اللهُ تعالَى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾، وهَلْ قَدَرَ اللهَ تعالَى حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ دِينِهِ؛ ولَمْ يَرْفَعْ رَأْساً بِرِسالَةِ رَبِّهِ؛ وما بَرِحَ يُلْصِقُ بِها قُصُورَهُ ويَصِمُها بِعَيْبِهِ؛ ويُرِيدُ أنْ يَرْمِيَها بِدائِهِ ويَنْسَلَّ!.
لا والذِي بَعَثَ مُحَمَّداً بالْحَقِّ نَبِيًّا لَنُوَلِّيَنَّهُ مِنْ ذلكَ ما تَولاّهُ؛ وليَحْفَظِ اللهُ الإسلامَ رَفِيعَ الجَنابِ مَصُونَ الحِمَى، وما للإسْلامِ ولِقِصارِ الأنْظارِ وضِعافِ الأبْصار؟!؛ ومالَهُ ولأَقْزامِ الهِمَمِ وغائري العزائم؛ وإنَّما تَطْلُعُ الشَّمْسُ عَلَى قِمَمِ الجِبالِ لا عَلَى حِجَارَةِ الشِّعَابِ والقِيعان!.
والنَّجْمُ تَسْتَصْغِرُ الأبْصارُ صُورَتَهُ
فالذَّنْبُ للطَّرْفِ لا للنَّجْمِ في الصغَرِ
فِي سَاحَةِ الحَوادِث:
ومِنَ العِبَرِ المُناسِبَةِ في هذا المَقامِ ما حَكاهُ بَعْضُ كِبارِ الأساتِذَة عَنْ نَدْوَةٍ دُعِيَ إلَيْها حَوْلَ مَوْضُوعِ (الشخْصِيَّةِ العَرَبِيَّةِ!) فِي إحْدَى الجامِعاتِ العَرَبِيَّةِ، قالَ: وكُنْتُ مَدْعُوّاً صامِتًا؛...فلما كانَتْ نِهايَةُ المُحاضَرَةِ سُمِحَ للحُضُورِ بالسُّؤالِ؛ فَوَجَّهَ إلى المُحاضِرِينَ سُؤالاً؛ فقال: لِقَدْ ذَكَرْتُمْ للعَرَبِ أمْجاداً عَظِيمَةً يَعْجَزُ اللسانُ عَنْ وَصْفِها وحَصْرِها؛ وأنا أَظْلُبُ مِنْكُمْ أنْ تُبْعِدُوا كُلَّ الأمْجادِ التي صَنَعَها العَرَبُ بالإسلامِ جانِباً؛ ثُمَّ تَقُولُون لِي باللهِ عَلَيْكُمْ: مَنْ هُمُ العَرَبُ؟!!، فَلَمْ يَحِرِ القُومُ جَواباً؛ واعْتَذُروا بِضِيقِ الوَقْتِ وأسْكَتُونِي!.
هذهِ المَفاهِيمُ – وأَمْثالُها كَثِيرُ مِمَّا يَنْفُخُ (الانْفِتاحُ) في ضِرامِها - والتي تَفْصِلُنا عَنْ تارِيخِنا، أو إنْ شِئْتَ فقل: التي تَشْطُرُ تارِيخَنا وتُجَزِّئُهُ فَتُبْدِي ما تَشاءُ وتُخْفِي كَثِيراً مِنْ حَقائِقِهِ - ومِنْ ثَمَّ فَهِيَ تَخْدِشُ إسلامَنا شَاءَتْ أمْ أبَتْ لأنَّ تارِيخَنا وإسلامَنا رُوحٌ وجَسَدٌ لا يَنْفَصِلانِ – هِيَ التي نُرِيدُ أنْ نتَصَدَّى لَها مَهْمَنا كَلَّفَنا ذلكَ مِنْ ثَمَن.
إنَّ المسْألَةَ بالنِّسْبَةِ إلَيْنا حَياةٌ أو مَوْت!، أنْ نَكُونَ أو أنْ لا نَكُون، لأَنَّهُ ما مَنْ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ تَفْقِدُ مَبادِئَها وتَضِلُّ عَنْ قِيَمَها إلا انْمَحَتْ (صِبْغَتُها الحضارِيَّةُ) وذابَتْ في الأمَمِ ذَوبانَ المِلْحِ في الماء، وما رَبُّكَ بِظلاَّمٍ للعَبِيد.
أما قِيَمُنا نَحْنُ فَهِيَ دِينُنا؛ تَوْحِيدُنا لِرَبِّنا تَوْحِيدَ إخلاصٍ وعُبُودِية، وتَوْحِيدُنا لِنَبِيِّهِ صلى اللهُ علَيْهِ وسلَّمَ تَوْحِيدَ طاعَةٍ وامْتِثال؛ والتِزامُنا بأحْكامِهِ أُمَّةً وأفراداً؛ {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
تَأمَّلْ: ﴿ دِيناً قِيَماً ﴾؛ قِيَمٌ في عَقائِدِهِ، قِيمٌ في شرائِعِهِ وأحْكامِه، قِيَمٌ فِي مُعامَلاتِهِ، قِيَمٌ في آدَابِهِ وأَخْلاقِهِ!، وما كانَ هذا شَأنُهُ فلا بُدَّ مِنْ عُلُوِّهِ فِي الحَياةِ كُلِّها كَما أرادَ اللهُ تعالَى لَهُ أنْ يَكُون، لا كَما يُرِيدُ لهُ مَنْ أَلِفُوا العُبُودِيَّةَ والمَهانَةَ؛ وكَبَّلَتْهُمْ قُيُودُ التَّبَعِيَّةِ وأصفادُ الانْقِيادِ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الأمَم.
وأوَّلُ ما عَلَيْنا أنْ نَعِيَهُ:
فِي فَنِّ الحِياطَةِ للمُسْتَقْبَلِ وتَحْصِينِ أبْناءِ أُمَّتِنا مِنْ (مَخاطِرِ الانْفِتاحِ وأضرارِهِ) هُوَ أنْ نَتَعَلَّمَ تَسْلِيطَ المُعالَجَةِ عَلَى الكُلِّياتِ التي بِصَلاحِها تَصْلُحُ كَثِيرٌ مِنَ الجُزْئِيَّات؛ كَما يَفْعَلُ الطبِيبُ حِينَ يُسَلِّطُ الداوءَ عَلى أَصْلِ الداء، أما إهْمالُ الكُلِّيِّ والانْشِغالُ بالجُزْئِيِّ فِمِنْ شَأْنِهِ أن يُمَكِّنَ للأدْواءِ مَن الجَسد حَتَّى تَفْتِكَ بِهِ أوْ يَتَعَسَّرَ عَلَى الحُذَّاقِ عِلاجُها.
تَحَدَّثَ الناسُ عَنْ آثارِ الانْفِتاحِ وما مَضَتْ عَلَيهِ سِوى سَنَواتٍ مَعْدوداتٍ، وقَدْ رَأَوْا نُذُرَ الخَطَرِ تُلَوِّحُ بأَعْلامِها فِي كُلِّ حَدَبٍ وَصَوْب!، بِهَدْمٍ لأرْكانِ الإسلام؛ وتَفْكِيكٍ للراوَبِطِ الاجْتِماعِيَّةِ منَ الأسْرَةِ فَما فَوقَها؛ وقَضاءٍ عَلَى ما بَقِيَ مِن الأخْلاقِ؛ ومَزِيدٍ مِنَ الفَقْرِ والمَرَضِ والجَهْلِ بمَكانِنا ومَكانَتِنا في الحياة، ولَوْلا أَنَّنِي أَكْرَهُ اسْتِعْراضَ الحَوادِثِ تَفْصيلاً كما يَفْعلُ الناسُ لأتَيْتُ مِنَ الشواهِدِ علَى هذا بِكثيرٍ القصص!؛ وما عَلَى مَنْ أرادَ شَيئاً مِنْ ذلكَ إلا أنْ يَسْتَعْرِضَ شَبَكَةَ الحاسُوبِ وسَيَرَى مالا يَحْمَدُهُ إنْ كانَ مَمَّنْ بَقِيَتْ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ خُلُّقٍ ودين!.
أمَّا أنَّ الجُهُودَ التَّرْبَوِيَّةَ ضُرُورِيَّةٌ لِمُواجَهَةِ هذهِ الأخْطارِ فَنَعَمْ؛ وكَثِيرُونَ مَنْ طَرَحُوا هَذا؛ سَلَّمْنا، لَكِنَّ الذي رَأَيْناهُ وعَرَفْناهُ؛ والذي فَهْمْناهُ مِنْ دِينِنَا وتَارِيخِنا؛ والذي لا يُنازِعُ فِيهِ المُحَقِّقُون وإن اخْتَلَفَتْ الألْفاظُ المُعَبِّرَةُ عَنْه؛ أنَّ للتَّرْبِيَةَ رُكْنَين لا غِنَىً لأحَدْهِما عَنِ الآخر؛ وأنَّها لا تُؤْتِي ثِمارَها إلا بِهِما:
الأولَ: الجُهْدَ الذي يُبْذَلُ لإصْلاحِ الفَرْدِ؛ أو قُل: (الترْبِيَةَ الفَرْدِيَّةَ) بِشِقَّيْها: 1- غرسِ الأصولِ العقائِدِيَّةِ والقِيَمِ الأخْلاقِيَّةِ؛ 2- وتَنْمِيةِ الْمَعارِفِ والمَهارت.
والثانِيَ: الترْبِيَةَ (الجَمْعِيَّةَ)؛ وهِي التي يَحْصُلُ بِها الأثَرُ المُتَبَادَلُ بَيْنَ الفَرْدِ والمُجْتَمَع، حَتَّى يُؤَثِّرَ كُلٌّ مِنْهُما فِي الآخَرِ؛ فَتَكُونَ النَّتِيجَةُ تَلاحُماً وبِناءً وتَقْوِيماً ونَفْياً للدخيل.
والحَقُّ أنَّ هذا الثانِي كالثَّمَرَةِ بالنِّسْبَةِ للأَوَّل!، بلْ لا يُؤتِي الأَوَّلُ ثِمارَهُ إلا بِذلك، كما ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَمَ أنهُ مَثَّل لِتَلاحُمِ المُؤْمِنِينَ بالبُنْيان، وأنْتَ خَبيرٌ بأنَّ لَبْناتِ البِناءِ مَهْما اعْتِنِيَ بِها وأُحْكِمَ إعْدادُها فَلَنْ تُؤْتِيَ أُكُلَها إلا إذا أُحْكِمَتْ القَواعِدُ؛ وَوُضِعَتْ كُلُّ لَبِنَةٍ في مَوْضِعِها؛ لا تَتَقَدَّمُ واحِدَةُ عَنْ أخْتِها ولا تَتَأخَّرُ عنْها، قَدْ وَثَّقَ المِلاطُ - (وهُو ما يُجْعَلُ بَيْنَ اللبِنَتَيْنِ مِنْ طِينٍ وجِصٍّ ونَحْوِه) -ما بَيْنَهُنَّ حَتَّى صِرْنَ كَلَبِنَةٍ واحِدَةٍ؛ وأُخْرِجَ مِنْ بَيْنِهِنَّ كُلُّ ما لا يَصْلُحُ للبِناءِ مِنَ اللبِنات، فَهْذه هِيَ الأُصُولُ التي يَقُومُ البِناءُ علَيْها؛ ويَتَماسَكُ بِها وإلا كانَ عُرْضَةً للسقُوطِ والزوال.
وهذا الحديثُ النبَويُّ وما كانَ مِنْ بابِه يَنْتَظِمُ أصُولاً عَظِيمَةً فِي سِياسَةِ الفرْدِ والأمَّةِ، وفيهِ بَيانٌ لما أرَدْناهُ مِنْ أنَّ (الترْبِيَةَ الفَرْدِيَّةَ) وإنْ كانَتْ ضُرْورَةً لا غِنَىً عَنها إلا أنَّها تَحْتاجُ إلى قِيامِ المُجْتَمَعِ باسْتِثْْمارِها والعِنايَةِ بِما يُكَمِّلُها.
فإذا كانَتْ الأسُسُ والقَواعِدُ التي يَقُومُ عَلَيْها المُجْتَمَعُ فَاسْدَةً مُخْتَلَّةً فِي الأصْلِ فَما عَساهُ يَكُونُ حالُ البِناء؟!؛ وَأيْنَ سَيَكُونَُ مَوْضِعُ الفَرْدِ الذي بَذَلْنا ما بَذلْنا في إصلاحِهِ وتَهْذيبِه؟!؛ وماذا عَسانا نَصْنَعُ بآلافٍ مَنَ اللبِناتِ القَوِيَّةِ المَتِينَةِ نُعِدُّها ونَخْتَزِنُها؛ والقواعِدُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ؟.
مِنْ مُقْتَضَياتِ هذا (الانْفِتاحِ المَعْرِفِيِّ) - الذي يَهُمُّنا مِنْهُ ما يَنْفَعُنا - انْفِتاحُ العُقُولِ والأذهان، لا بِمَعْنَى خُروجِها عَنِ الشرْعِ والفِطْرَةِ كَما يُنادِي بِهِ المُسْتَغْرِبُون!؛ بلْ بِمَعْنَى تَحَرُّرِها مِنْ كُلِّ قَيْدٍ يَحُولُ بَيْنَها وبَيْنَ ما أودَعَهُ اللهُ تعالَى في هذا الكَوْنِ مِنْ كُنُوزِ العِلْمِ والحِكْمَةِ وما فِيهِ مَن المَنافِعِ شَرِيطَةَ أنْ لا يَسْرَحَ العَقْلُ فِي ذلكَ إلا بِمِقْدَارِ ما يُسَرِّحُهُ الشرْع، ولأنَّ شأنَ الشرْعِ في هذا كَشأنِ الطبِبيبِ مَعَ المَرِيضِ يَهْدِيِهِ إلى ما يَنْفَعُهُ ويَمْنَعُهُ مِما يَضُرَّهُ.
أما إرْخاءُ العِنانِ للشَّهَواتِ وسَنُّ القوانِينِ والتَشْرِيعاتِ التي تَحْمِيها وتُؤَيِّدُها؛ فَهَذهِ - مَعَ كَونِها تَمَسُّ أصْلَ التوحِيدِ وجَوهَرَه – عُدْوانٌ عَلَى العُقُولِ التي جاءَتْ الشريعَةُ بِحِفْظِها، وإغْلاقٌ للعقُولِ يَعُودُ عَلى المَقْصُودِ مِنَ (الانْفِتاحِ المَعْرِفِيِّ) بالنقِيض!!.
فالعَقائدُ وَالفَلْسَفاتُ والنظَرِيَّاتُ المُناقِضَةُ لِدينِ الإسلام والتِي تَتَسَرَّبُ إلَيْنا عَبْرَ (حُرِّيَّةِ الرأيِ والفِكْرِ) - حَتَّى صارَ مِنْ حُرِّيَّةِ الرأيِ أنْ يُهاجَمُ القُرْآنُ والإسلامُ ونَبِيُّ الإسلامِ جِهاراً نَهاراً فِي بِلادِ المُسْلِمِينَ!؛ ومِمَّنْ يتَسَمَّوْنَ بأسْماءِ المُسْلِمين؛ بلا خَوْفٍ مِنَ اللهِ تعالى ولا حَياءٍ مِنْ عِبادِه!!- هِيَ حَرْبٌ عَلى دينِ الإسلامِ مِنْ جِهِةٍ؛ واعْتِداءٌ عَلى العقُولِ مِنْ جِهَة ثانِية!ٍ؛ لأنها صَرْفٌ لَها عَنْ جَنْيِ النافِعِ مِنْ ثِمارِ المَعْرِفِة؛ وإغْراقٌ لها فِي أَوهامِ الأفكارِ والفَلْسفاتِ الباطِلة؛ واستِدْراجٌ لَها إلى الوقوعِ في خِزْي التبَعِيَّةِ الثقافِيَّةِ لغَيْرِنا مِن الأمَم؛ وإهْدارٌ لِكَثِيرٍ مِن طاقَةِ الأمَّةِ التي يَتَعَيَّنُ علَيْها بَذْلُها لِرَدِّ عادِيَةِ الوافِدِ الدخيل، وهِيَ أحْوَجُ ما تَكُونُ إلى تَوفِيرِ هذه الجُهُودِ فِي مُواصَلَةِ البناء.
وقَوانِينُ ما يُعْرَفُ (بالحُرِّيَّةِ الشخْصِيَّةِ!) والتي تَجْعَلُ الإنْسانَ عَبْداً لِشَهْوَتَيِ البَطْنِ وما دُونَ ذلك!؛ يَؤُزُّهَا إعلامٌ لا يأْلُوا جُهْداً في نَشْرِ الرذيلَةِ؛ وأُضِيفَتْ إلَيْهِ بَعْدَ هذا (الانْفِتاحِ) رَذائِلُ الأُمَمِ الأُخْرى!!؛ هِيَ فَتْكٌ بالأَخْلاقِ مِن ناحِيَةٍ؛ وجِنايَةٌ علَى العُقُولِ مِنْ ناحِيَةٍ أخْرى!، وأَيُّ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ عَساهُ يَنْفَعُ ويَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ لا يَزالُ في أَسْر ِالشَّهْوَاتِ لَيْلَهُ ونَهارَه؟!؛ ونَحْنُ نَرى الرجُلَ تَقَعُ عَيْنُهُ عَلَى المَرْأةِ مِنْ غَيرِ قَصْدٍ مِنْهُ فَلا تُفارِقُهُ صُورَتُها إلى ما شاءَ اللهُ تعالى!، فَماذا يَصْنَعُ الشابُّ والشابَّةُ إنْ غَرِقا فِي أوْحالِ الرذيلَةِ تِلْكَ؟؛ وكَمْ هِيَ أبْوابُ الرذائلِ المُفَتَّحَةُ عَلى مَصارِيعِها فِي بِلادِ المُسْلِمِينَ شَرْقاً وغَرْبا؛ والناسُ يَلِجُونَها أسراباً تِلْوَ أسراب؟!؛ وما الذي يُرْجَى مِنْ أبْناءِ المُسْلِمينَ إذا أضْحَوا أسْرَى تِلْكَ الأغْلال؟.
والشرُّ لا يَأتِي بالخير:
ولَقَدْ كانَتْ مِنْ جِناياتِ العُدْوانِ عَلَى الأخْلاقِ جِناياتٌ أخْرى تَوَلَّدَتْ عَنْها؛ وما انْتِشارُ حالاتِ الطلاقِ وارْتِفاعُ نِسْبَتِهِ؛ وتأخَّرُ سِنِّ الزواجِ؛ وارتِفاعُ تَكالِيفِهِ؛ ومَخاطِرُ العُنُوسَةِ التي خَيَّمَتْ أشباحُها عَلَى أعْدادٍ لا تُحْصَى مِن الفَتَيات؛ وارْتِفاعُ مَعَدَّلِ الجَرائِمِ الأخلاقِيةِ والتي أصبَحْنا نَسْمَعُ مِنْها ما لَمْ يَكُنْ لَهُ وجودٌ مِن قَبل، والتفَكُّكُ الأسَرِيُّ؛ وتَزايُدُ العُقُوقِ، وتَنامِي البطالَةِ؛ وكَسادُ السوق؛ وَ...وَ...فِي قائِمَةٍ حَسْبَكَ مِنْها سَماعُ عَنَاوِينِها، إلاَّ صُوَراً حَيَّةً مِنْ آثارِ تِلْكَ الجِناياتِ؛ وللهِ عاقِبَةُ الأمور.
وبِمِثْلِ هذا تَعْلَمُ عِلْمَ اليَقِينِ لِماذا غَلَّظَ الشارِعُ فِي شَأنِ مَنْ يُحِبُّ شُيُوعَ الفاحِشَةِ بَيْنَ المُؤْمِنِين؛ بِنَحْوِ قَولِهِ تعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، إذْ إشاعَةُ الفاحِشَةِ ونَشْرُ الرذيلَةِ هُو الذي ولَّدَ جَميعَ ما تَرى!، وأنا أحْلِفُ باللهِ الذي لا رَبَّ سِواهُ أنَّ الذينَ يَقُومُونَ عَلَى نَشْرِ الرذيلَةِ في بلادِ المُسْلِمِينَ عَلَى أيِّ وَجْهٍ كانَتْ مَقْروءَةً أو مَسْمُوعَةً أو مَرْئِيَّةً؛ وكائِنِينَ مَنْ كانُوا دَاخِلُونَ في حُكْمِ هذهِ الآيَةِ دُخُولاً أوَّلِيّاً، فَلْيُعِدُّوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ جَواباً؛ وإنَّ الوُقُوفَ بَيْنَ يَدِيِ اللهِ تعالَى لَقَرِيب.
مِنْ عَجائبِ القَصَص:
وما دامَ حديثُنا مِنْ بابِ المُسامَراتِ فَحَسَنٌ أنْ نَحْكِيَ لك قِصَّةً وَرَدَتْ في أَخْبارِ أبِي عَبْدِ الله عَمْروِ بنِ مَيْمُونِ الأَوْدِيِّ وكانَ مِنْ ساداتِ أكابِرِ التابعين وعُبادِهِم مات سَنَة (74) للهجرَة؛ قِيلَ لَهُ: أَخْبِرْنَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتَهُ فِي الجاهِلِيَّةِ؟؛ قَالَ رَأَيْتُ الرَّجْمَ فِي غَيْرِ بَنِي آَدَمَ!؛ إِنَّ أَهْلِي أَرْسَلُونِي فِي نَخْلٍ لَهُمْ أَحْفَظُهَا مِنِ القُرُودِ، فَبَيْنَا أَنَا يَوْمًا فِي البُسْتَانِ إِذْ جَاءَتِ القُرُودُ فَصَعِدَتْ نَخْلَةً؛ فَتَفَرَّقَت القُرُودُ واضْطَجَعُوا؛ فَجَاءَ قِرْدٌ وقِرْدَةٌ فاضْطَجَعَا؛ فَأَدْخَلَتِ القِرْدَةُ يَدَهَا تَحْتَ القِرْدِ فَاسْتَثْقَلاَ نَوْماً؛ فَجَاءَ قِرْدُ فَغَمَزَ القِرْدَةَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهَا فَاسْتَلَّتْ يَدَهَا مِنْ تَحْتِ رَأْسِ القِـرْدِ؛ ثُمَّ انْطَلَقَتْ مَعَهُ غَيْرَ بَعِيدٍ فَنَكَحَها وأَنَا أَنْظُرْ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَضْجَعِهَا؛ فَذَهَبَتْ تُدْخِلُ يَدَهَا تَحْتَ عُنُقِ القِـرْدِ كَمَا كانَتْ ؛فانْتَبَهَ القِرْدُ فَقَامَ إِلَيْهَا فَشَمَّ دُبُرَهَا؛ فَصَاحَ صَيْحَةً فاجْتَمَعَتْ القُرُودُ؛ فَقَامَ واحِدٌ مِنْهُمْ كَهَيْئَةِ الخَطِيبِ!؛ فَوّجَّهُوا فِي طَلَبِ القِرْدِ فَجَاؤُوا بِهِ بِعَيْنِهِ وَأَنَا أَعْرِفُهُ؛ فَحَفَرُوا لَهُمَا فَرَجَمُوهُمَا!!.
ومَنَ قَصَصِ هذا البابِ ما حكاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمُرُ بنُ الْمُثَنَّى فِي كِتابِ الخيْلِ لَهُ مِنْ طريقِ الأوزاعيِّ أنَّ مٌهْراً أُنْزِيَ عَلَى أُمِّهِ فامْتَنَعَ!؛ فأُدْخِلَتْ فِي بَيْتٍ وَجُلِّلَتْ بِكِساءٍ؛ وأُنْزِيَ عَلَيْها فَنَزَى، فَلَمّا شمَّ رِيحَ أُمِّهِ عَمِدَ إِلَى ذَكَرِهِ فَقَطَعَهُ بِأسْنانِهِ مِنْ أَصْلِهِ!!.
فإنْ رَأَيْتَ مِنْ أَبْناءِ قَوْمِنا مَنْ لا يَقْنَعُ إلاَّ بِما طُبِعَ عَلَيهِ علامَةُ الأُمَمِ الغَرْبِيَّةِ من المَعْلُوماتِ والأخبار!؛ فاذكُرْ لَهُ ما ذَكَرَهُ (وِلْ ديُورانْت) في قِصَّةِ الحضَارة (1/1/66) فقال: (وَبَيْنَ الغُورِيلاّ والأُورَانْجُوتانِ يَدُومُ اتِّصالُ الوالِدَيْنِ حَتَّى نِهايَةِ فَصْلِ الإنْسال؛ ولاتِّصالِها هذا علاماتٌ كَثِيرَةٌ تُشْبِهُ فِيهِ بَنِي الإنسان، وكُلُّ مُحاوَلَةٍ تُحاوِلُها الأُنْثَى فِي اتِّصالِها بِذَكَرٍ آخَرَ؛ يُعاقِبُها عَليها عشيرُها عِقاباً صارِماً!).
فَتَبّاً لِمَنْ انْحَطَّ فِي غَيْرَتِهِ عَلى عِرْضِهِ وأعْراضِ المُسْلِمِينَ عَنْ رُتْبَةِ البَهائِمِ!؛ {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً}.
الإسلامُ ونِعْمَةُ العقل:
لا نَعْلَمُ دِيناً ولا مِلَّةً ولا نِحْلَةً عَلى وَجْهِ الأرضِ مُنْذُ أنْ خَلَقَها اللهُ تعالى دَعَتْ إلى انْظِلاقَةِ العقُولِ فِيما فِيهِ خَيْرُ البَشريَّةِ كُلِّها كَدينِ الإسلام!!؛ فَدَعْوَةُ الإسلامِ إلى التوحيدِ وتَحْرِيرِ الإنسانِ مَن العُبُودِيَّةِ لغَيْرِ الله؛ ومُحارَبَةُ الإسلامِ للشركِ والخُرافَةِ؛ ومُنَاهَضَتُهُ للبِدَعِ التي تَغْشَى بِظُلْمَتِها العُقولَ فَتَحُدُّ مِنْ قُدْرَةِ المرْءِ عَلى تَسْخِيرِها فِيما يَنْفع؛ وثَناءُ الوحَيَيْنِ عَلى العِلْمِ والعُلَماءِ في مَقاماتٍ تَضيقُ عن الحصْر؛ ودَعْوةُ الإسلامِ إلى التفكُّرِ في آياتِ اللهِ الكونِيَّةِ واستْنِِباطِ ما فيها مِن المنافِعِ والأسرار وهِيَ في كِتابِ اللهِ نَحْوُ ألْفِ آية!؛ معَ ما خُتِمَتْ بِهِ في كثيرٍ من المَواطن مِنْ نَحْوِ قَولِهِ تعالى: {لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورَةِ البقرة؛ وقَوْلِه: {لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} فِي آلِ عِمْران؛ وَقَوْلِه: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}؛ و قوله: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}؛ وقَوْلِه: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فِي الأنعام، وَقَوْلِه: {لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ}؛ وقَوْلِه: {لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} فِي يُونُس، وقَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}؛ وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في الرعْدِ، وقَوْلِه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} في إبراهيم، وغَيْرِها مِنْ عَشراتِ المَواضِعِ في كِتابِ اللهِ تعالى.
وفي أسماءِ سُوَرِ القُرْآنِ مِمَّا سُمِّيَ بالآياتِ الكَوْنِيَّةِ: البقَرة؛ النساء؛ الأنعام؛ الرّعْد؛ النحْل؛ النُّور؛ النمل؛ العنْكَبُوت؛ الدخان؛ الذارِيات؛ الطُّور؛ النَّجْم؛ القَمَر؛ الحَديد؛ القلَم؛ الإنسان؛ التكْوِيرُ؛ الانْفِطارُ؛ الانْشقاقُ؛ البُرُوج؛ الطارِق؛ الفجر؛ البَلَد؛ الشمسُ؛ الليلُ؛ الضحى!؛ التينُ؛ العلقُ؛ الزّلْزَلَة؛ العادِيات؛ التكاثر؛ العَصْر؛ الفِيلُ؛ العَلَقُ!.
فَهذه الآياتُ التي أشرْنا إلى بَعْضِها؛ ثُمَّ أرْبَعُ وثلاثُونَ سُورَة؛ وما مِن اسْمٍ مِنها إلا ويَدُلُّ عَلى عِلْمٍ مِنَ العُلومِ الكَوْنِيَّةِ ويَفْتَحُ للمَعْرِفَةِ أبواباً وأبوابا!؛ وكَمْ يُمْكِنُ أنْ يُدْرَجُ تَحْتَ هَذه الأسماءِ مِن العُلُومِ النافِعَةِ التي أصْبَحَتِ السمّةَ البارِرَةَ مِن سِماتِ عَصرنا؟!.
فَهْلَ مِنْ دَليلٍ فَوقَ هذا عَلى أنَّ الإسلامَ دينُ العِلْمِ والمَعْرِفَةِ؛ ودينُ انظِلاقَةِ النفْسِ والعقْلِ في آفاقِ الكَوْنِ الرحيبِ لتَجْعَلَ كُلَّ ما سُخِّرَ لَها مِنْ ذلكَ وسِيلَةً إلى سَعادَةِ الدينا والآخِرَة!.
الانْفِتاحُ وحِفْظُ العقل:
وزِدْ عَلَى هذا أنَّ الإسلامَ حَرَّمَ كُلَّ ما يَعُودُ عَلَى العَقْلِ بالضَّرَر؛ لأنَّ العَقْلَ قِوامُ كُلِّ فِعْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ؛ ومِنْ ذلكَ مَثَلاً تَحْرِيمُ الشرْعِ لِكُلِّ مُسْكِرٍ؛ وأمْرُهُ بالحدِّ بِشُرْبِهِ مُبالَغَةً في حِفْظِ العَقْل؛ لما في تَعاطِيهِ مِنْ تَرَدِّي النفْسِ في وَرْطَةِ البَهِيمِيَّةِ؛ وتَغْييرِ خَلْقِ الله بإفْسادِ القُوَّةِ العاقِلَةِ التي مَيَّزَ الله تَعالَى بِها الإنسانَ عنِ البَهائِمِ وسائِرِ المَخْلُوقات؛ وما يَنْتُجُ عَنْ ذلكَ مِنْ فَواتِ مَصالِحِ المُجْتَمَع والأمَّة؛ ودَمارِ المَدَنِيَّةِ؛ وإضاعَةِ الأمْوالِ؛ والتعَرُّضِ لِهَيْئاتٍ مُنْكَرَةٍ يَضْحَكُ مِنْها الصبْيان، حتَّى حَكَى بَعْضُ أكابِر العُلَماءِ اتفاقَ المِلَلِ والنحَلِ عَلى شِدَّةِ قُبْحِِ المُسْكِر؛ فَكانَ تَحْرِيمُهُ مُوافِقاً للغايَةِ مِنْ سِياسَةِ الأمَّةِ وسَدِّ الذرائِعِ المُفْضِيَةِ إلى مُناقَضَةِ هذه المصالح.
وقَدَّمَ الشرْعُ حِفْظَ الْعَقْلِ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ، لأَنَّ النَّفْسَ تُفُوتُ بِفَوَاتِهِ؛ وبِدُونِهِِ يَلْتَحِقُ الإنْسانُ بِالْحَيَوَانَاتِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ، وَمِنْ ثَمَّةَ وَجَبَ بِتَفْوِيتِهِ مَا وَجَبَ بِتَفْوِيتِ النَّفْسِ وَهِيَ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ.
ولا أَحَدَ مِنَ البَشَرِ يَرْضَى أنْ يُصابَ عَقْلُه!؛ حتى قال القائل:
يَهُونُ عَلَيْنَا أَنْ تُصَابَ جُسُومُنَا وَتْسْلَمُ أَعْرَاضٌ لَنَا وَعُقُولُ!.
وسَنُّ القوانِينِ التي تُبِيحُ تَعاطِيَ الخُمُورِ وبَيْعَها فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلادِ المُسْلِمينَ مَعَ كَوْنِها عُدْوانا عَلَى حَقِّ اللهِ تعالَى وَحْدَهُ في التشْرِيعِ؛ هِيَ كَذلكَ جِنايَةٌ عَلَى الأمَّةِ كافَّةً؛ لِما فِيها مِنْ تَعْطيلِ مَنْفَعَةِ العقْلِ الذي يَرْجِعُ إليْهِ اسْتِثْمارُ النافِعِ مِنَ العلُومِ والمَعارِفِ التي هِيَ مِنْ أعْظَمِ أسبابِ القُوَّةِ وتَطَوُّرِ المَدنِِيَّةِ في الأمُم.
وهكذا يُمْكِنُكَ القولُ فِي كُلِّ قَانُونٍ قامَ عَلى أنقاضِ أحكامِ الشرْعِ!!، لا بُدَّ أنْ تَجِدَ فِيها جِنايَةً علَى مَصالِحِ الدنيا والآخِرَةِ، لأنَّ الشرْعَ لا تَتَحَقَّقُ بهِ المصالِحُ الكُلِّيَّةُ إلا إذا كانَ واضِعُهُ مُحِيطاً بِحاجاتِ الخَلْقِ لا يَخْفَى عَلَيهِ مِنْها شَيئ؛ وذلكَ مُتَحَقِّقُ في شرائعِ الإسلام وحْدَها.
إنَّ المََعْرِفَةَ والتَّرْبِيَّةَ كَلَيْهِما لا يُمْكِنُ أنْ يُؤْتِيا ثِمارَهما المَرْجُوَّةَ إلا بِإصْلاحِ الأساسِ نَفْسِهِ؛ والتَّمْكِينِ لِدينِ اللهِ تعالَى؛ وأحْكامِ شَرْعِهِ أولا!، ولَيْسَ ذلكَ نافِلَةً يَسَعُنا أنْ نأتِيَ بِها أو نَتْرُكَها، بَلْ هُوَ أساسُ التوحٍيدِ وعِمادُ المِلَّةِ وَرُكْنُ الشريعَةِ؛ والفيصلُ بَينَ السعادَةِ والشقاءِ في الدنْيا والآخرة.
أما أنْصافُ الحُلُولِ؛ وتَرْمِيمُ الجِراحِ عَلى فَساد، فَصَنِيعُ مَنْ يَنْبَغِي أنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ مِنَ الأطِباء:
إذا ما الجُرْحُ رُمَّ عَلى فسادٍ تَبَيَّنَ مِنْهُ إِهْمالُ الطبيبِ
انْظُرْ إلى قِصةِ ما عُرِفَ في أيامِنا هذه باسمِ (العَولَمَة)؛ وهِي أمُّ الرياحِ التي يُرادُ بِها زَعْزَعَةُ ثَوابِتِنا، كَيْفَ نَقَلتْ إلى مُجْتَمعاتِنا الثقافَةَ الغَرْبِيَّةَ؛ ومِنْها بالطَّبْعِ بَلْ عَلَى رَأسِها الأخلاقُ الدخِيلَةُ الوافِدَة؛ التي لا تَنْتَسِبُ إلى أمَّتِنا بِصِلَةٍ؛ وهذه مِنْ مُهِمَّاتِ أدْوارِها إشعالُ نَيرانِ الشهَواتِ؛ وإغراقُ المُجْتَمَعِ في جَحِيمِها؛ لَكنْ لما كانَتْ مُجْتَمعاتُنا لا تَزالُ في صِراعٍ بَينَ الفَضيلَة التي هِيَ مِنْ أصولِها ومُقَوِّماتِها وبَينَ الرذيلَةِ الدخيلَة؛ وكانَ الإنسانُ بِحَيثُ يَتَجاذَبُهُ الطرفانِ ويتَنازَعانِهِ؛ ولا تَزالُ العاداتُ الحَسَنَةُ والتقالِيدُ الحَميدَةُ لها آثارُها في المُجْتَمع؛ ومِنَ العَسِرِ أنْ يَسْتَجيبَ المُجْتَمَعُ للتأثيرِ بالسرْعَةِ التي يُرِيدُها المُتَآمِرُ؛ كانَ لا بُدَّ مِنْ إيِجادِ طَرائِقَ وبَدائلَ يَتَقَبَّلُها المُجْتَمَعُ ولَوْ ظاهِراً؛ لَكنها تَخْدِمُ المُتَآمِرَ في حَقِيقَةِ الأمر، كما يُفْعَلُ في كَثيرٍ من المُؤامَرات؛ والشواهِدُ يضيقُ عَنْها الحصْر؛ فَظَهَرَتْ مِنْ هذا البابِ الدَّعْوى إلى إباحَةِ الزواجاتِ التي لمْ نَكُنْ نَسْمَعُ بِها في مُجْتَمعاتِنا مِن قبل؛ كزواجِ (المسيار)؛ (والزواجِ العُرْفِي)؛ (وزَواجِ المِصْياف)؛ (والزواجِ بِنِيَّةِ الطلاقِ)؛ ولا نَزالُ نَسْمَعُ في كُلِّ يَوْمٍ جَديداً!، وانْتَشَرَتْ الفَتاوَى التي تؤَيدُ ذلك بِقَصْدِ إيجادٍ حُلُولٍ للمَشاكِلِ الاجتِماعِيةِ التي أشرْنا إليها سابِقا؛ لكَنَّ انْتِشارَها مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كانَ مَطْلُوباً!؛ لأنه يُشُكِّلُ غِظاءً يَتَسَتَّرُ بِهِ مَنْ وَقَعَ في شِباكِ التغييرِ وفي حِبالِ المُتآمِرين؛ حَتى تَتِمَّ مُمارَسَةُ الرذيلَةِ دُونَ مَعارَضَةٍ من المُجْتَمع، وهكذا تَبَيَّنَ فِيما بَعْدُ حِينَ ظَهَرَتْ تَبِعاتُ ذلكَ وآثارُه؛ وكَيْفَ اتُّخِذَ ذريعَةً لِنَشْرِ الفساد وتَدْمِير الأخلاق!.
ومِثْلُ هذه الحُلُولِ هِي التي نتَحَدثُ عَنها، وأنها هِي التي تُهْمِلُ أصْلَ الأَدْواء؛ وتُعْرِضُ عن النظَرِ في مَنْشأ العِلَّةِ؛ وإنْ نَظَرَتْ إليها تَحَدَّثَتْ عَنْها حَديثاً عارِضاً؛ وكأنها لا عِلاقَةَ لَها بِمشاكِلِنا!!.
ولَيْسَ ما قُلْتُهُ هنا تَقْليلاً مِن الجُهْدِ الفَرْدِيِّ الذي يَتَعَيَّنُ علَى الأَبَوَينِ وعلَى كُلَّ مُسلِمٍ في خاصَّةٍ نَفْسَهِ لِمُقاوَمَةِ هذه المَخاطِر، بَلْ هِي مِن الفُروضِ التي لا يَسعُ المُسْلِمَ تُرْكُها؛ {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ}، لكِنَّ المُسْلَمِ وهُوَ في أمَّتِهِ كالجَماعَةِ في سَفِينَةٍ واحِدَةٍ لا يَسَعُهُ إلا أنْ يأْخُذَ بِحَزمٍ عَلَى أيْدِي مَنْ يَسْعَوْنَ في خَرْقِها، وإلا هَلَكَ وهلكَ الناسُ أجْمَعُونَ؛ الصالِحُ مْنْهُم والفاسد، وأيُّ خَرْقٍ أعْظَمُ مِنْ إقصاءِ الشرْعِ مِنْ حياةِ الأمَّةِ والعُدْوانِ عَلى حَقِّ اللهِ تعالَى في تَحْكِيمِهِ والتحاكُمِ إليه؟!.
وبالله التوفيق.
- التصنيف:
- المصدر: