مبادرة ومسابقة الصحابة رضي الله عنهم إلى الإنفاق في سبيل الله -1
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: سمى.. الإنفاق قرضاً حثاً للنفوس وبعثاً لها على البذل، لأن الباذل متى علم أن عين ماله يعود إليه ولا بدّ، طوَّعت له نفسه بذله، وسهًل عليه إخراجه
{بسم الله الرحمن الرحيم }
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين....أمَّا بعدُ: فالإنفاق في سبيل الله يدلُّ على صحة الإيمان، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله علية الصلاة والسلام: «(الصدقة برهان) » [أخرجه مسلم]. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: الصدقة برهان على صحة الإيمان، وسببُ هذا: أن المال تحبُّه النفوس، وتبخل به، فإذا سمحت بإخراجه لله، دلَّ على صحة إيمانها بالله، ووعده ووعيده.
والمُتصدق به صاحب الولاية من أصحاب الجنة، فعن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مُقسط مُتصدق موفق )» [أخرجه مسلم]
للإنفاق في سبيل الله فضائل كثيرة، ومنافع عديدة، قال الله عز وجل: ﴿ { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} ﴾ [الحديد: 18] وقال الله جل جلاله ﴿ {منْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ﴾ [البقرة: 245] وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿ {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} ﴾ [الحديد: 11]
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: سمى.. الإنفاق قرضاً حثاً للنفوس وبعثاً لها على البذل، لأن الباذل متى علم أن عين ماله يعود إليه ولا بدّ، طوَّعت له نفسه بذله، وسهًل عليه إخراجه، فإن علم أن المستقرض مليّ وفيّ محسن كان أبلغ في طيب قلبه وسماحة نفسه، فإن علم أنَّ المستقرض يتَّجر له بما أقرضه. وينميه له، ويثمّره حتى يصير أضعاف ما بذله، كان بالقرض أسمح وأسمح، فإن علم أنه مع ذلك كلّه يزيده من فضله وعطائه أجراً آخر من غير جنس القرض، وأن ذلك الأجر حظ عظيم، وعطاء كريم، فإنه لا يتخلف عن قرضه، إلا لآفة في نفسه من البخل، والشح، أو عدم الثقة بالضمان، وذلك من ضعف إيمانه، ولهذا كانت الصدقة برهاناً لصاحبها، وقال رحمه الله: في الصدقة فوائد ومنافع لا يحصيها إلا الله، فمنها: أنها تقي مصارع السوء، وتدفع البلاء، حتى أنها لتدفع عن الظالم، وتطفئ الخطيئة، وتحفظ المال، وتجلب الرزق، وتفرح القلب، وتوجب الثقة بالله، وحسن الظن به، وترغم الشيطان، وتزكى النفس وتنميها، وتُحببُ العبد إلى الله، وإلى خلقه، وتستُر عليه كل عيب، وتزيد في العمر، وتستجلب أدعية الناس ومحبتهم، وتدفع عن صاحبها عذاب القبر، وتكون عليه ظلاً يوم القيامة، وتشفع له عند الله، وتهون عليه شدائد الدنيا، والآخرة، وتدعوه إلى سائر أعمال البر، فلا تستعصي عليه، وفوائدها ومنافعها أضعاف ذلك.
والمتصدق مغبوط على هذه النعمة التي وفقها الله لها، فعن سالم عن أبيه رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( «لا حسد إلا علي اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)» [متفق عليه] قال الإمام النووي رحمه الله: والمراد بالحديث لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين، وما في معناهما.
من فوائد الصدقة ومنافعها:
إذا كانت وقفاً فإن ثوابها يلحق صاحبها بعد وفاته:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «(إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو )» [أخرجه مسلم] قال الإمام النووي رحمه الله: قال العلماء معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له، إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه كان سببها.الصدقة الجارية وهي الوقف...وفيه دليل لصحة أصل الوقف وعظيم ثوابه.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: الصدقة الجارية من أوسعها وأعمِّها وأنفعها وأفضلها: بناء المساجد، لأن المسجد تُقام فيه الصلوات، وقراءة القرآن، ودروس العلم، ويُؤوى الفقراء في الحرِّ والبرد، وفيه مصالح كثيرة ليلاً ونهاراً، ثم هو أدوم من غيره..كذلك الماء حيث يحفر الإنسان عيناً يشرب منها الناس، فهذه صدقة جارية...وكذلك الأربطة -وهي مساكن لطلاب العلم- وكتبُ العلم.
دواء للمرضى:
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «(داووا مرضاكم بالصدقة)» [حسنه الباني في صحيح الجامع].
تدفع ميتة السوء وتكون سبباً لحسن الخاتمة:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام: «( يا معشر النساء تصدقن، فإني أُريتكن أكثر أهل النار ) » [متفق عليه] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: إنما أمرهن بالصدقة لأمور...أن الصدقة من فوائدها أنها تدفع ميتة السوء، وتكون سبباً لحسن الخاتمة.
حلول البركة في المال وزيادته:
قال الله عز وجل: ﴿ { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ﴾ [البقرة: 268] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ومن فوائد الآية: البشرى لمن أنفق...بالزيادة لقوله تعالى: ﴿ {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا } ﴾ فإن قال قائل: كيف يزيد الله تعالى المنفِق فضلاً ونحن نشاهد أن الإنفاق ينقص المال حساً فإذا أنفق الإنسان من العشرة درهماً صارت تسعة فما وجه الزيادة ؟ فالجواب: أما بالنسبة لزيادة الأجر في الآخرة فالأمر ظاهر، فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.وأما بالنسبة للزيادة الحسية في الدنيا فمن عدة أوجه:
الوجه الأول: أن الله قد يفتح للإنسان باب رزق لم يخطر له على بال، فيزداد ماله.
الوجه الثاني: أن هذا المال ربما يقيه الله سبحانه وتعالى آفات لولا الصدقة لوقعت فيه، وهذا مشاهد فالإنفاق يقي المال الآفات.
الوجه الثالث: البركة في الإنفاق بحيث ينفق القليل وتكون ثمرته أكثر من الكثير، وإذا نُزعت البركة من الإنفاق فقد ينفق الإنسان شيئاً كثيراً في أمور لا تنفعه أو تضره.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «(ما نقصت صدقة من مال)» [أخرجه مسلم] قال الإمام النووي رحمه الله: ذكروا فيه وجهين:
أحدهما: معناه أنه يبارك فيه، ويندفع عنه المضرات، فينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية، وهذا مدرك بالحسِّ والعادة.
الثاني: أنه وإن نقصت صورته كان في الثواب المترتب عليه جبر لنقصه وزيادة إلى أضعاف كثيرة.
سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات والوقاية من النار:
قال الله عز وجل: ﴿ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ﴾ [البقرة: 267، 268] قال العلامة السعدي رحمه الله: لما حثهم على الإنفاق النافع ونهاهم عن الإمساك الضار بيّن لهم أنهم بين داعيين داعي الرحمن.وداعي الشيطان فمن كان مُجيباً لداعي الرحمن وأنفق مما رزقه الله، فليبشر بمغفرة الذنوب.
وقال الله جل جلاله: ﴿ { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ﴾ [البقرة: 271] قال العلامة العثيمين رحمه الله: ومن فوائد الآية أن الصدقة سبب لتكفير السيئات.
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «(الصدقة تُطفئ الخطيئة كما يُطفئُ الماءُ النار)» [أخرجه الترمذي]قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: وفي الحديث أن الذنوب والمعاصي يكفرها الله بما يفعله الإنسان من الطاعات ومن أعظمها الصدقات وظاهر هذا أن الخطيئة تشمل الكبيرة والصغيرة وجمهور أهل العلم على أن الخطايا الكبار والذنوب والمعاصي العظيمة لا يكفرها إلا التوبة.
والصدقة ستر ووقاية من النار، فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «(من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل)» وفي رواية: «(اتقوا النار ولو بشق تمرة )» [أخرجه مسلم] قال الإمام النووي وفيه الحثُّ على الصدقة وأنه لا يمتنع منها لقلتها، وأن قليلها سبب للنجاة من النار
أجرها عظيم وثوابها كبير:
أنها تُضاعف لصاحبها أضعافاً كثيرةً:
قال الله عز وجل: ﴿ { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245] وقال الله جل جلاله: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ﴾ [البقرة: 261] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف...وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف... قال الإمام أحمد حدثنا... عن حريم بن وائل قال: ( من أنفق نفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف ) وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: أنت إذا أنفقت درهماً فجزاؤه سبعمائة درهم، ثواباً من عند الله عز وجل، والله فضله أكثر من عدله وأوسع، ورحمته سبقت غضبه، فيضاعفه له إلى سبعمائة بل إلى أكثر.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال «( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعدُ إلى الله إلا الطيبُ فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يُربِّيها لصاحبها كما يُربى أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل) » [متفق عليه].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله (فلوه) هو المهر لأنه يفلى أي يفطم...وضرب به المثل لأنه يزيد زيادة بينة...فإن العبد إذا تصدق من كسب طيب لا يزال نظر الله إليها يكسبها نعت الكمال حتى تنتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع المناسبة بينه وبين ما قدم نسبة ما بين التمرة إلى الجبل
أن الله جل جلاله يظل صاحبها يوم القيامة في ظله:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « (كلُّ امرئٍ في ظلِّ صدقته حتى يُقضى بين الناس)» [أخرجه أحمد] وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله..ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله)» [متفق عليه] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: فإن قال قائل: إذا تصدق رجل بصدقة فرأى من المصلحة أن يُعلنها حتى يُقتدى بها فهل يخرج من هذا الثواب أو لا ؟
فالجواب: الظاهر أنه لا يخرج لأنه بينها لمصلحة.
أنَّ الله عز وجل يخلف عليه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي «( بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يُحول الماء بمسحاته فقال له: يا عبد الله ما اسمك ؟ قال: فلان. للاسم الذي سمع في السحابة فقال له: يا عبد الله لما سألتني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول:اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها. قال: أما إذ قُلتَ هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثُلثاً وأردُّ فيها ثلثه » وفي رواية ( «وأجعلُ ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل» [أخرجه مسلم] قال الإمام النووي رحمه الله: وفي الحديث فضل الصدقة والإحسان إلى المساكين وأبناء السبيل.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( «قال الله عز وجل: أنفق أُنفق عليك » ) [متفق عليه] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وهو وعد بالخلف.
- التصنيف: