كتاب العرش للإمام الذهبي
"كتاب العرش" للذهبي مرجعًا من المراجع المهمة التي تبين موقف السلف في قضية العلو والاستواء وما يتعلق بذلك من المسائل، كما يمكن اعتباره مرجعًا في علم الحديث لاحتوائه على العشرات من الأحاديث والآثار وبيان حكمها ودرجتها.
- التصنيفات: تراجم العلماء -
صدر حديثًا "كتاب العرش"، تأليف: الحافظ "أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي" (673- 748 هـ)، تحقيق: أ.د. "محمد بن خليفة التميمي"، نشر "دار منار التوحيد للنشر".
يبحث الكتاب في مسألة عظيمة من مسائل الصفات، دار حولها جدل كبير وعميق، وتشعبت فيها المذاهب وزلت فيها أقدام كثير من الناس قديمًا وحديثًا، واستمر الخلاف فيها من بداية القرن الثاني.
وهذه المسألة هي علو الله، وهي من أهم مسائل الصفات وأكبرها؛ لتعلقها الوثيق بوجود الله تعالى، وقد نتج عن هذا الخلاف نشوء فرق مستقلة بذاتها من جراء ما ذهب إليه البعض من أقوال في المسألة، وقد جلى الذهبي في كتاب "العرش" جوانب هذا الموضوع، وجمع في سبيل ذلك العشرات من الأدلة والأقوال المأثورة التي توهي أدلة المعطلة.
ويعد "كتاب العرش" للذهبي مرجعًا من المراجع المهمة التي تبين موقف السلف في قضية العلو والاستواء وما يتعلق بذلك من المسائل، كما يمكن اعتباره مرجعًا في علم الحديث لاحتوائه على العشرات من الأحاديث والآثار وبيان حكمها ودرجتها.
وقد استهل المصنف كتابه هذا بمقدمة قصيرة ضمنها الحمد لله تعالى والثناء عليه، ثم عقد فصلًا ذكر فيه أن الأدلة التي يستدل بها على إثبات علو الله وارتفاعه فوق عرشه هي نصوص الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين والأئمة المهديين.
ثم شرع في ذكر الآيات القرآنية الواردة في إثبات صفة العلو، وبدأ بذكر آيات الاستواء ونصوص العلماء في تفسيرها، ثم سرد عددًا من الآيات في المسألة.
وبعد ذلك شرع في ذكر الأحاديث في الباب بعد أن قال: "وأما الأحاديث المتواترة المتوافرة عن رسول الله، فأكثر من أن تستوعب فمنها: ...".
ومنهج المصنف في إيراده للأحاديث أنه يعزوها للكتب التي أخرجتها، وقد يروي بعضها بأسانيده، وغالبًا ما يعلق على الحديث ويبين درجته من الصحة والضعف، أو يشير إلى بعض طرقه إذا لزم الأمر، وقد يتكلم على بعض رجال الإسناد وغير ذلك من المسائل والتعليقات المفيدة، وهذه الأحاديث تبدأ من الفقرة (13-100).
وبعد ذلك أورد المصنف جملة من الآثار المحفوظة عن الصحابة من أقوالهم بأن الله سبحانه في السماء على العرش، وبين أن تلك الأقوال لها حكم الأحاديث المرفوعة، وسرد جملة من تلك الآثار تبدأ من (101-120)، متبعًا الأسلوب ذاته من حيث العزو والحكم عليها.
ثم أعقب المصنف ذلك بأقوال التابعين وذكر جملة صالحة من أقوالهم بدايتها من الفقرة (121-149) وسلك فيها نفس المسلك من عزوها والحكم عليها.
ثم عقد فصلًا استهله ببيان وقت ظهور مقالة التعطيل وأنها ظهرت في أواخر عصر التابعين وأن أول من تكلم فيها الجعد بن درهم، وذكر أن تلميذه جهم بن صفوان أخذ عنه هذه المقالة وقام بالاحتجاج لها بالشبه العقلية، وذكر موقف أئمة ذلك العصر من مقالته وإنكارهم لها.
ثم ذكرَ أقوال أتباع التابعين في المسألة.
وهكذا استمر المؤلف يذكر أقوال العلماء طبقة بعد طبقة مع عزو أقوالهم والحكم على أسانيد آثارهم مع إعقاب ذلك بالكلام على منزلتهم العلمية، وذكر طرف من سيرة بعضهم وتواريخ وفاتهم ونحو ذلك، مع ما يتخلل ذلك من فوائد وتعليقات.
وقد سلك المصنف منهج وطريقة العرض في توضيح المسائل العقدية، وذلك بالاكتفاء ببيان الحق في المسألة والاستدلال لها بنصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح وأئمة هذا الدين، دون التعمق في عرض أقوال المخالفين، وذكر شبههم، وإيراد اعتراضاتهم.
ونجد أن المصنف استشهد بأقوال بعض متقدمي الأشاعرة لكونهم وافقوا الحق في هذه المسألة وأثبتوا العلو لله على خلقه، وهذا لا يعني أنهم موافقون لأهل السنة في كل المسائل.
وهذه الطريقة سار عليها من قبله ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى"، وسار عليها كذلك ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية".
وقد قام المحقق بتحقيق متن الكتاب على ثلاثة نسخ خطية، وراعى الفروق بينه وبين كتاب آخر مشتبه معه دومًا عند مفهرسي الكتب بعنوان كتاب "العلو" للإمام الذهبي أيضًا.
وقد قدم للكتاب بمقدمات نفيسة في التعريف بالكتاب، ومذاهب الفرق الإسلامية في باب الصفات، ووصف النسخ الخطية، ومنهجه في التحقيق.
والمؤلف هو محمد بن أحمد بن عثمان بن قيم، أبو عبد الله، شمس الدّين المعروف بالذهبي، ولد الذهبي في عام 673 للهجرة، في دمشق حيث كانت كلّ عائلته هناك منذ عهد جدّه عثمان، وكان يُعرف أحيانًا باسم ابن الصّائغ، في إشارة إلى مهنة والده الذي كان يصنع الذّهب.
بدأ الذهبي دراسة الحديث الشّريف وهو في الثّامنة عشر من عمره، ولم يدرس في دمشق فقط، بل انتقل إلى بعلبك، وحمص، وحماة، ونابلس، والقاهرة، والإسكندريّة، والقدس، والحجاز، وغيرها. عاد بعد رحلاته إلى دمشق ليُدرّسَ ويقوم بتأليف العديد من الأعمال، ويكوّن شهرة واسعة كخبيرٍ في تدقيق الحديث، ومؤرّخ موسوعيّ، وعالمًا في القراءات القرآنيّة الأساسيّة.
من أبرز تلاميذه في القراءات هما:
ابن ناصر الدّين الدّمشقيّ، وابن حجر العسقلانيّ. قبل وفاة الذهبي بسنتين، فقد بصره، وقد ألّف الذهبي حوالي مئة كتاب، وبعضها كان كبير الحجم. ألّف الذهبي في الطّبِّ النّبويّ، وصنّفه على أنّه طبٌّ بديل، وقارن بينه وبين معرفة العرب قبل الإسلام بالطّبِّ اليونانيّ البديل، وكان ينقلُ الكثير من أفكار ومصطلحات أبقراط، وابن سينا.
ومن مؤلّفاته:
• كتاب الكبائر.
• سير أعلام النّبلاء.
• ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية.
• إثبات الشّفاعة.
• ميزان الاعتدل.
• السّيرة النّبويّة من كتاب تاريخ الإسلام.
• أهل المئة.
• تذكرة الحُفّاظ.
• الموقِظة في علم مصطلح الحديث.
• مُختصر العلوم.
• العِبر من فوائد السِّيَّر.
• تاريخ الإسلام الكبير.
• الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب السّتّة.
• طبقات القراء.
قال عنه ابن حجر العسقلانيّ: كان الذهبي أغنى علماء عصره، وكان النّاس يتوقون للحصول على كتبِه، والسّفر إليه لهذا الغرض، ونشر كُتُبه من خلال قراءتها ونسخها، إنّه من بين أولئك الذين لديهم إتقان تامٌّ في مجال علم السّند والرّواية.
قال عنه السخاوي: لكي نفهم عظمة رُتبة الذهبي، يكفي أن نعرف أنّ الشّيخ ابن حجر العسقلانيّ، دعا عند شُرب ماء زمزم أن يوصله الله إلى مرتبة الذهبي في علوم الحديث.
قال السّيوطيّ: علماء الحديث اليوم يعتمدون على أربع شخصيّات في مجال نقد الرّواي والمجالات الأخرى ذات الصّلة بعلم الحديث، وهم: المزّي، الذهبي، العراقيّ، ابن حجر.
قال الشّوكانيّ: جميع كُتب الذهبي تلقى استحسانًا جيّدًا، ويسعى النّاس إليها، أمّا المؤرّخون فمنذ وقته وصاعدًا، فلإنّهم يعتمدون على كُتُبه بشكل عامٍّ، ولم يجمع أيٌّ منهم بقدر العلم الذي جمعه الذهبي.
قال عنه ابن ناصر الدّين الدّمشقيّ رحمه الله في سيرته: الذهبي شيخ وإمام، ونجم سوريا، ومؤرّخُ الإسلام، وباحث كبير في تقييم روايات الحديث، وتعلم على يد أكثر من ألف وثلاثمئة شيخ، وكان عالمًا في أصول الفقه، وقائدًا في التّلاوة القرآنيّة، وكان لديه معرفة عميقة بالمذاهب الأربعة، وكان يدعو إلى العودة إلى السّنّة الصّحيحة، وطريقة السّلف.
قال الصّفديّ رحمه الله: كان الذهبي في الحديث عالمٌ لا مثيل له في علمه، وكان على دراية جيّدة في الحديث والرّواية، وفحص الحديث، والسّير الذّاتيّة للرّواة، وإزالة أيّ غموض أو ارتباك حول التّسلسل الزّمنيّ لها، وكان شديد الشّهرة، واسمه مناسبٌ له تمامًا، واكتسب قدرًا كبيرًا من المعرفة، واستفاد الكثير من النّاس منه، وكتب العديد من الكتب، وكانت كُتبه موجزة ومفيدة للغاية.
وتوفّي الذهبي رحمه الله ليلة الاثنين في الثّالث من شهر ذي القعدة من عام 748 للهجرة، ودفن في اليوم التّالي في مقبرة الباب الصّغير في دمشق.
_____________________________________
الكاتب: محمود ثروت أبو الفضل