مع الفاروق رضي الله عنه - زهد الفاروق رضي الله عنه -2
أخذ نفسه وأهله بحال من التقشف، وخشونة العيش حتى ساوى نفسه بفقراء ومساكين المسلمين، وهو أمير المؤمنين.
زهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه رضي الله عنه في المطعم :
فقد ضرب الفاروق فيه بسهم وافر، وقسط عظيم، حتى عرف بالزهد في المطعم.
والزهد فى الطعام عند الفاروق لا يعنى تحريم الحلال، فهذا فعل الجهال، وإنما يعنى أن يكون طعامه متوسطًا، فلا يطلب مفقودًا، ولا يَرُدّ موجودًا.
يقول أبو بكرة الثقفي رضي الله عنه : أُتي عمر بن الخطاب بخبز وزيت فمسح على بطنه، وجعل يأكل، ويقول: على الخبز والزيت.
بل كان من شدة زهده في الطعام، ينهى عن نخل الدقيق، وفي ذلك يقول يسار بن نمير رحمه الله: والله ما نخلت لعمر دقيق قط إلا وأنا له عاصٍ.
ويقول مولاه أسلم رحمه الله: رأى عمر إنسانا ينخل الدقيق، فقال: أخلطه، إن السمراء لا تنخل.
وهذا الحرص من الفاروق على الزهد في المطعم إنما جاء بعد عظة مرت عليه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم r، وقد عاشها عمر بن الخطاب بنفسه.
يروى النعمان بن بشير رضي الله عنه . يقول: قال عمر بن الخطاب رحمه الله، وذكر ما أصاب الناس من الدنيا: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَظَل اليوم يلتوي، ما عنده ما يملأ بطنه من الدَّقَل.
وما هو الدقل؟ إنه نوع من التمر الرديء، فيطلق على سيئ التمر، صغير الحب، قليل الحلاوة الدقل.
فعمر يرى أسوته وقدوته يعاني من شدة العيش، فكيف لا يحرص هو على الزهد في المطعم بعد ذلك؟!
فكان عمر رضي الله عنه يقول: إنه لا أجده يحل لي لحل مالكم إلا عما كنت آكلاً من صلب مالي: الخبز والزيت، والخبز والسمن.
ويحكى عتبة بن فرقد فيقول: قدمت على عمر رضي الله عنه بسلال خبيص عظام.. فقال: ما هذه؟ فقلت: طعام أتيتك به، لأنك رجل تقضي من حاجات الناس أول النهار، فأحببت إذا رجعت أن ترجع إلى طعام فتصيب منه فقواك، فكشفت عن سلة منها، فقال: عزمت عليك يا عتبة، إذا رجعت إلا رزقت كل رجل من المسلمين مثل السلة.
فقلت: والذي يصلحك يا أمير المؤمنين، لو أنفقت مال قيصر كله، وما وسع ذلك، إن النفقة تكثر!
قال عمر: فلا حاجة لي فيه فيما لا يسع العامة، ثم دعا بقصعة من ثريد، خبزًا خشنًا، ولحمًا غليظًا. وهو يأكل معي أكلاً شهيًا، فجعلت أهوى إلى البضعة البيضاء أحسبها سنامًا، فإذا هي عصبة، والبضعة من اللحم أمضغها، فلا أسيغها، فإذا هو غفل عنى جعلتها بين الخوان والقصعة، ثم دعا بعُسٍّ من نبيذ، قد كاد يكون خلاًّ، فقال: اشرب، فأخذته، وما أكاد أن أسيغه، ثم أخذه، فشرب، ثم قال: أتسمع يا عتبة، إنا ننحر كل يوم جزورًا فأما ودكها وأطيابها فلمن حضرنا من المسلمين، وأما عنقها فلآل عمر، يأكل هذا اللحم الغليظ، ويشرب هذا النبيذ.
وما أروعه في عام الرمادة وهو يشارك الناس المحنة زاهدًا في مطعمه يروى أسلم مولاه رحمه الله فيقول: أصاب الناس عام سنة، فغلا فيها السمن، وكان عمر يأكله، فلما قل، قال: لا آكله حتى يأكله الناس. فكان يأكل الزيت فقال: يا أسلم، اكسر عني حره بالنار، فكنت أطبخه له فيأكله فيتقرقر بطنه عنه فيقول: تقرقر، لا والله لا تأكله حتى يأكله الناس.
أي روعة تلك؟!
أمير المؤمنين وحاكم المسلمين، طعامه الخبز والزيت!!
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه : تقرقر بطن عمر بن الخطاب، وكان يأكل الزيت عام الرمادة، وكان حرم عليه السمن، فنقر بطنه بإصبعه، وقال: تقرقر تقرقرك، إنه ليس لك عندنا غيره حتى يحيا الناس.
هذا هو الفاروق، هذا هو ابن الخطاب الذي يحكم ديار الإسلام من مشرقها إلى مغربها.
أخذ نفسه وأهله بحال من التقشف، وخشونة العيش حتى ساوى نفسه بفقراء ومساكين المسلمين، وهو أمير المؤمنين.
ولم تدعه نفسه إلى لذيذ العيش، ونعيم الدنيا، واهتم كثيرًا برفع المعاناة عن الرعية ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
يقول حفص بن أبي العاص رضي الله عنه : كان عمر رضي الله عنه يغدينا بالخبز والزيت، والخل، والخبز واللبن والخبز والقديد، وأول ذلك اللحم الغريض، يأكل وكنا نعذر. وكان يقول: لا تنخلوا الدقيق فكله طعام، وكان يقول: ما لكم لا تأكلون؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إنا نرجع إلى طعام ألين من طعامك. فقال: يا ابن أبى العاص، أما تراني عالمًا أن أرجع إلى دقيق ينخل في خرقة فيخرج كأنه كذا وكذا؟! أما تراني عالمًا أن أعمد إلى عناق سمينة، نلقى عنها شعرها، فتخرج كأنها كذا وكذا؟! أما تراني عالمًا أن أرجع إلى صاع أو صاعين من زبيب فأجعله في سقاء وأصب عليه من الماء، فيصبح كأنه دم الغزال؟!
قال قلت: أحسن ما يبعث العيش يا أمير المؤمنين. قال: أجل، والله لولا مخافة أن ينقص من حسناتي يوم القيامة لشاركتكم في لين عيشكم، ولكني سمعت الله ذكر قومًا، فقال: {{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} } [الأحقاف: 20].
مشاهد من زهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
يقص علينا الربيع بن زياد الحارثي طرفًا من زهد عمر فيقول: إنه وفد على عمر بن الخطاب، فأعجبه هيئته- يعني هيئة الربيع- فشكا عمر وجعًا به من طعام غليظ يأكله، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن أحق الناس بمطعم طيب، وملبس لين، ومركب وطيء لأنت.
وكان عمر متكئًا وبيده جريدة نخل فاستوى جالسًا، فضرب به رأس الربيع بن زياد، وقال له: والله ما أردت بهذا إلا مقاربتي وإن كنت لأحسب فيك خيرًا، ألا أخبرك بمثلي ومثل هؤلاء؛ إنما مثلنا كمثل قوم سافروا، فدفعوا نفقتهم إلى رجل منهم، فقالوا: أنفق علينا، فهل له أن يستأثر عليهم بشيء؟ قال: لا.
ويسعى عمر رضي الله عنه جاهدًا في أن تكون أسرته، كحاله تمامًا، فيروى ابنه عبد الله يقول دخل عليّ عمر، وأنا على مائدة، فأوسعت له عن صدر المجلس، فقال: بسم الله، ثم ضرب بيده فلقم لقمة، ثم ثَنّى بأخرى، ثم قال: إني لأجد طعم دسم ما هو بدسم لحم.
فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، إني خرجت إلى السوق أطلب السمين لأشتريه فوجدته غاليا، فاشتريت بدرهم من المهزول، وحملت عليه بدرهم سمنا، وأردت أن يزاد عيالي عظمًا عظمًا.
فقال عمر: ما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أكل أحدهما، وتصدق بالآخر. فقال عبد الله: عد يا أمير المؤمنين، فلن يجتمعا عندي أبدًا إلا فعلت ذلك. قال: ما كنت لأفعل. فينكر عمر t على ابنه أن يجتمع عنده لونين من الدسم على مائدة، ويدعوه إلى التآسي بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والتصدق بأحدهما.
فما أروع هذا الحاكم الذي يدعوه زهده إلى الشفقة والرحمة برعيته.
فأين الآن ذلك الحاكم؟!
وأين ذلك الإمام الذي يتفانى في مصلحة رعيته؟!
لقد كان عمر رضي الله عنه يحب رعيته حبًّا جمًّا، ويحب ما يصلحها، ويكره ما يفسدها، ولا يرى لنفسه من الحقوق إلا كما لأدناهم.
أبو الهيثم محمد درويش
دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.
- التصنيف: