العين حق
الرسول - صلوات الله عليه وسلامه - تحدَّث في مناسبات شتَّى، بيَّن فيها كلها أن الإصابة بالعين حقٌّ لا شك فيه، ويعلم المؤمنون بالرسول وما أُنزل إليه من ربِّه أنه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «العينُ حقٌّ»، ونَهى عن الوَشْم؛ رواه البخاري.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «العينُ حقٌّ، ولو كان شيءٌ سابَقَ القَدرَ، سَبَقَتْه العينُ، وإذا استُغسِلتُم، فاغسِلوا» (رواه مسلم).
اتَّفق الشيخان على الشطر الأول من الحديثَينِ، وانفرد الإمام أبو عبدالله البخاري بما ضم إليه من النهي عن الوشْم، وإن كانا متفقين على حديث لعن الواشمة والمستوشمة، وحسبُك ما في اللعن من الوعيد وبليغ النهي، وانفرد الإمام أبو الحسين مسلم بما ضم إليه من توكيد الإصابة بالعين، ومن بعض علاجها المادي، وفي رواية للإمام أحمد: «العين حقٌّ، يحضرها الشيطان وحسد بني آدم»، ولأبي نُعيم: «العين حقٌّ، تُدخل الجَملَ القِدرَ، والرجلَ القبرَ» [2].
وجليٌّ أن الرسول - صلوات الله عليه وسلامه - تحدَّث بهذا الشطر في مناسبات شتَّى، بيَّن فيها كلها أن الإصابة بالعين حقٌّ لا شك فيه، ويعلم المؤمنون بالرسول وما أُنزل إليه من ربِّه أنه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11].
النهي عن الوشم:
ثم نهى في بعض المناسبات عن الوشم، وهو غَرْز إبرة أو نحوها في الجلد؛ حتى يسيل الدمُ، ثم يُذَرَّ عليه كحلٌ أو نحوه ليَخْضرَّ، وهو تغييرٌ لخلق الله وفِطرته، ومن هنا لعن الله فاعله والداعيَ إليه.
وَخْزٌ حسي ومعنوي:
ففي كلٍّ من الإبرة والعين وخزٌ من الشيطان يُغضب الرحمن - عز وجل - وإن كان أحدهما وخزًا حسيًّا، والآخر وخزًا معنويًّا! ذلك لأن من البواعث على الوشم دَفْعَ العين أو اتقاء ضررها بما لم يعتمد على عقلٍ ولا نقلٍ، فكان من اللطائف النبوية النهي عن الدواء الذي لم يَأذَن به الله.
إصابة العين والقدر:
وفي بعض المناسبات قَرَن النبي إصابة العين بالقدر، وإن كانت منه بلا ريبٍ؛ توكيدًا لنفاذ سَهمها، وشدَّة تأثيرها فيمن تصيب بإذن القائم على كل نفس بما كسَبت، وكأنه يقول - صلوات الله عليه وسلامه -: «لو صحَّ أن يغالب القدرَ شيءٌ، ويُسابقه في إفناء شيء أو الإضرار به قبل أجَله المضروب له، لسبَقت العين» فهو تأكيد بليغٌ من طريق الفرض، ومثله في كلام البُلغاء والمُربين ذائعٌ شائع لا نُطيل القول به.
عالم الروح والغيب:
وفي هذا التوكيد النبوي الذي يكاد يبلغ مبلغ التواتر في إصابة العين - تنبيهٌ على دقة الأمر، وعلى أنه في عالم الروح والغيب، الذي يشق على كثير من الناس تصديقُه، ولا سيما الذين يقفون عند ظواهر الأمور، ولا يؤمنون بما يقع في دائرة الحس والهوى.
ولا جرَمَ أن الأباطيل والخرافات سمَّمت كثيرًا من الأفكار والأخبار، وسيطرت على كثير من الجهَّال وأنصاف المتعلمين، وشكَّكت غير قليل من الباحثين الحائرين، ولكن الحِس والهوى ما كانا ولن يكونا أبدًا مقياسًا للتصديق أو التكذيب، فالهوى يُعمي ويُصم، إلا هوًى تابعًا لِما جاء به المعصوم، والحس مقياس أبترُ أعوج، تكرَّر خطَؤه ونقصه وقِصَرُه في المُحسَّات، فضلاً عن المُغيبات، بشهادة الذين لا يؤمنون بالغيب.
المقياس الرشيد في عالم الغيب والشهادة:
والمقياس الرشيد في عالم الغيب والشهادة، هو التصديق بكل ما صدَّقه الله ورسوله، والتكذيب بكل ما كذَّبه الله ورسوله، والسكوتُ عما سكت عنه الله ورسوله، وجاز عقلاً وشرعًا أن يكون وألا يكون.
وقد قال العلماء: إنَّ كل شيء ليس مُحالاً في نفسه، ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا فساد دليلٍ، فهو مما يُجيزه العقل، فإذا أخبر به المعصوم، كان إنكاره مُكابرة، وصحة الخبر برواية الثقات كافية وإن لم تكن متواترة، وإلا جحَدنا كثيرًا من أخبار الصادق المصدوق بعد ما ظهر الدليل، ووضَح السبيل.
الطب المادي:
وأما قوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «وإذا استُغسِلتم، فاغسلوا»، فهو بيان للطب المادي من العين، يأمر العائن أن يَغتسل إذا طُلِب منه الغُسل، وفيه إشارة إلى أن الاغتسال كان معروفًا عندهم، فأمرهم ألا يَمتنعوا منه إذا طُلِب منهم، وأدنى ما فيه الطمأنينة لهم، ورفْع الوَهم عنهم، وظاهر أن هذا الاغتسال رُخصة، فينبغي الاقتصار على ما جاء فيها دون التوسُّع فيما ابتدَع المبتدعون، وتزيَّدوا وكذبوا على الله ورسوله، ونفروا كثيرًا من ذوِي الفطرة البريئة من الأحاديث الصحيحة!
وقد روى أبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان يُؤْمر العائن، فيتوضَّأ، ثم يَغتسل منه المَعين".
إطفاء شعلة العين الحاسدة:
وفي هذا الاغتسال - كما قال العلماء - مناسبة لا تَأْباها العقول السليمة؛ فهذا تِرياق سُمِّ الحيَّة يُؤخذ من لحمها، وهذا علاج النفس الغضبية، توضع اليد على بدن الغضبان، فيَسكُن، فكأن العين الحاسدة كشعلة من نار وقعت على جسد المحسود، ففي اغتساله إطفاء لتلك الشعلة.
الطب الروحي:
وأعظم من هذا الطب المادي وأنسبُ، ذلك الطب الروحي النبوي، بالرُّقَى والمعوذات التي جاءت عن الله ورسوله وقايةً وعلاجًا.
الرقية المشروعة:
ومنها ما رواه البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبي يُعَوِّذ الحسن والحسين، ويقول: «إن أباكما كان يُعوِّذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامَّة، من كل شيطان وهامَّة، ومن كل عين لامَّة».
والشيطان هنا شيطان الإنس والجن، والهامة واحدة الهوامِّ - بتشديد الميم - ذوات السموم، والعين اللامَّة: النازلة التي تُصيب بسوء من أعين الإنس والجن.
وقد روى الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أمرني النبي أو أمر أن يُسترقَى من العين، وثبت في صحيح مسلم أن جبريل - عليه السلام - رقَى النبي.
وأفاض علماء السُّنة والاجتماع - وفي مقدمتهم ابن خلدون - في العين وإصابتها وتأثيرها بإذن الله تعالى، وعلاجها بالرقية المشروعة[3].
وأكبر العلم أنَّ أجمعَ العلماء بيانًا في ذلك كله: صاحب "زاد المعاد" في "الطب النبوي"، فقد كفى وشفى، ولم يدَع زيادة لمستزيد، ولا قولاً لقائلٍ، ولقد همَمت أن أُلخِّص هنا بيانه، ولكني آثَرت الإشارة على العبارة، والقصد على الإطالة، فليَسعنا في العين والرُّقية منها ما وَسِع الراسخين في العلم، ولنَغُض الطرف عن الزائغين والمجادلين في الحق بعد ما تبيَّن.
{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].
المصدر: كتاب "من ذخائر السنة النبوية"؛ جمعها ورتبها وعلق عليها: الأستاذ مجد بن أحمد مكي
[1] مجلة الأزهر، المجلد الثلاثون، العدد الرابع، سنة 1378 - 1958.
[2] في كتاب السلام، باب الطب والمرض والرُّقَى، وذكره صاحب "زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم" في حرف العين تسامحًا؛ فإنما اتفقا على الشطر الأول كما رأيت، وأما الحديث الأول، فرواه البخاري في باب العين حق، من كتاب الطب، وفي باب الواشمة من كتاب اللباس.
[3] في الجزء التاسع من المجلد الحادي عشر من مجلة الأزهر شرح الشيخ الجزيري - رحمه الله - حديثَ أبي سعيد - رضي الله عنه - في الرُّقية.
- التصنيف:
- المصدر: