مع الفاروق رضي الله عنه - استشهاد الفاروق رضي الله عنه

منذ 2020-10-26

فأُتي بنبيذ (المراد بالنبيذ المذكور، تمرة نبذت في ماء، أي نقعت فيه. كانوا يفعلون ذلك، لاستعذاب الماء) فشربه، فخرج من جوفه، ثمّ أتي بلبن فشربه فخرج من جُرْحه، فعلموا أنه ميت.

استشهاد الفاروق رضي الله عنه *

 

كان أمير المؤمنين الفاروق عمر  بن الخطاب رضي الله عنه مثالًا للخليفة العادل، المؤمن المجاهد النقي الورع، القوي الأمين، الحصن المنيع للأمة وعقيدتها، قضى رضي الله عنه خلافته كلها في خدمة دينه وعقيدته وأمته التي تولى أمر قيادتها.

فكان القائد الأعلى للجيش، والفقيه المجتهد الذي يرجع الجميع إلى رأيه، والقاضي العادل النزيه، والأب الحنون الرحيم بالرعية، صغيرها وكبيرها، ضعيفها وقويها، فقيرها وغنيها، الصادق المؤمن بالله ورسوله، السياسي المحنك المجرب، والإداري الحكيم الحازم، أحكم بقيادته صرح الأمة، وتوطدت في عهده دعائم الدولة الإسلامية، وتحققت بقيادته أعظم الانتصارات على الفرس في معارك الفتوح، فكانت القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند، وتمّ فتح بلاد الشام ومصر من سيطرة الروم البيزنطيين، ودخل الإسلام في معظم البلاد المحيطة بالجزيرة العربية، وكانت خلافته سدًا منيعًا أمام الفتن، وكان عمر نفسه بابًا مغلقًا لا يقدر أصحاب الفتن الدخول إلى المسلمين في حياته، ولا تقدر الفتن أن تطل برأسها في عهده [1].

حوار بين عمر وحذيفة حول الفتن (واقتراب كسر الباب):
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: كنّا عند ابن الخطاب رضي الله عنه، فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله في الفتنة؟ فقلت: أنا أحفظه كما قال! قال: هات، لله أبوك، إنك لجريء. قلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". قال عمر: ليس هذا أريد، إنما أريد الفتن التي تموج كموج البحر! قلت: مالك ولها يا أمير المؤمنين، إنّ بينك وبينها بابًا مغلقًا! قال: فيكسر الباب أو يفتح؟ قلت: لا، بل يُكسر! قال: ذاك أحرى أن لا يغلق أبدًا، حتى قيام الساعة!

قال أبو وائل الراوي عن حذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال حذيفة: نعم. كما يعلم أن دون غد الليلة! إني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط. قال أبو وائل: فهبنا أن نسأل حذيفة: من الباب؟ فقلنا لمسروق: سل حذيفة من الباب؟ فقال مسروق لحذيفة: من الباب؟ قال حذيفة: هو عمر!.

إن حذيفة قدّم العلم لعمر رضي الله عنه، بأن الباب المنيع هو الذي يمنع تدفق الفتن على المسلمين، ويحجرُها عنهم، إنَّ هذا سيُكسر كسرًا، وسيتحطم تحطيمًا، وهذا معناه أنه لن يغلق بعد هذا حتى قيام الساعة، وهذا ما فهمه عمر، أي أن الفتن ستبقى منتشرة ذائعة بين المسلمين، ولن يتمكَّنوا من إزالتها أو توقُّفها أو القضاء عليها، وحذيفة رضي الله عنه لا يقرر هذا من عنده، ولا يتوقعه توقعًا، فهو لا يعلم الغيب وإنما سمع هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعاه وحفظه كما سمعه، ولهذا يعلق على كلامه لعمر قائلًا: "إني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط". أي حدثته حديثًا صحيحًا صادقًا، لا أغاليط ولا أكاذيب فيه، لأنني سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إن عمر رضي الله عنه يعلم الحقيقة التي أخبره بها حذيفة، فهو يعلم أن خلافته باب منيع يمنع تدفق الفتن على المسلمين، وأن الفتن لن تغزو المسلمين أثناء خلافته وعهده وحياته، وكان عمر رضي الله عنه يعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه سيقتل قتلًا، وسيلقى الله شهيدًا، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: صعد رسول الله جبل أحد، ومعه أبو بكر و عمر وعثمان، فرجف الجبل بهم. فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم برجله، وقال له: "اثبت أُحُد: فإنما عليك نبيّ، وصديق، وشهيدان" [2].

دعاء عمر في آخر حجة له سنة 23هـ:
عن سعيد بن المسيب رحمه الله أن عمر رضي الله عنه لما نفر من منى أناخ بالأبطح فكوم كومة من بطحاء، فألقى عليها طرف ثوبه، ثم استلقى عليها، ورفع يديه إلى السماء فقال: "اللهم كُبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيّتي، فأقبضني غير مضيِّع، ولا مفرط"، ثم قدم المدينة [3].

طلب الفاروق للشهادة:
عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه قال: "اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد نبيك"، وجاء في رواية: "اللهم قتلًا في سبيلك ووفاة في بلد نبيك". فقال عمر رضي الله عنه: وأنى يكون ذلك؟ قال: يأتي به الله إذا شاء. وقد علق الشيخ ابن المِبْرَد يوسف بن الحسن بن عبد الهادي على طلب عمر للشهادة فقال: وتمني الشهادة مستحب، وهو مخالف لتمني الموت، فإن قيل: ما الفرق بينهما؟ قيل: تمني الموت، طلب تعجيل الموت قبل وقته، ولا يزيد الإنسان عمره إلا خيرًا، وتمني الشهادة هو أن يطلب أن يموت عند انتهاء أجله شهيدًا، فليس فيه طلب تقديم الموت عن وقته، وإنما فيه طلب فضيلة فيه [4].

رؤيا عوف بن مالك الأشجعي:
قال عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه: رأيت سببًا (حبلًا) تدلى من السماء، وذلك في إمارة أبي بكر رضي الله عنه وأن الناس تطاولوا له، وأن عمر فضلهم بثلاثة أذرع، قلت: وما ذاك؟ قال: لأنه خليفة من خلفاء الله تعالى في الأرض، وأنه لا يخاف لومة لائم، وأنه يقتل شهيدًا. قال: فغدوت على أبي بكر فقصصتها عليه، فقال: يا غلام انطلق إلى أبي حفص فادعه لي، فلما جاء قال: يا عوف اقصصها عليه كما رأيتها، فلما أتيت أنه خليفة من خلفاء الله تعالى قال عمر: أكل هذا يرى النائم؟ قال فقصها عليه، فلما ولي عمر أتى الجابية، وإنه ليخطب فدعاني فأجلسني، فلما فرغ من الخطبة قال: قص عليَّ رؤياك. فقلت له: ألست قد جبهتني (أي منعه) عنها؟ قال: قد خدعتك أيها الرجل.
وجاء في رواية: قال أولم تكذب بها؟ قال: لا ولكني استحييت من أبي بكر، فقُصُّها عليَّ. فلما قصصتها، قال: أما الخلافة فقد أوتيت ما ترى، وأما أن لا أخاف في الله لومة لائم، فإني أرجو أن يكون قد علم ذلك مني، وأما أن أقتل شهيدًا، فأنى لي بالشهادة وأنا في جزيرة العرب [5].

آخر خطبة جمعة لعمر في المدينة:
وقد ذكر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بعض ما قاله عمر بن الخطاب في خطبة الجمعة 21 ذي الحجة 23هـ وهي آخر خطبة له، قال: إني رأيت رؤيا، لا أراها إلا حضور أجلي. رأيت كأن ديكًا نقرني نقرتين! وإن قومًا يأمرونني أن أستخلف وأعين الخليفة من بعدي! وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته، ولا الذي بعث به نبيّه، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض [6]!

منع الفاروق للسبايا من الإقامة في المدينة:
كان عمر رضي الله عنه لا يأذن للسبايا في الأقطار المفتوحة بدخول المدينة المنورة، عاصمة دولة الخلافة، فكان يمنع مجوس العراق وفارس، ونصارى الشام ومصر من الإقامة في المدينة إلا إذا أسلموا ودخلوا في هذا الدين، وهذا الموقف يدل على حكمته وبعد نظره، لأن هؤلاء القوم المغلوبين المنهزمين حاقدون على الإسلام، مبغضون له، مهيئون للتآمر والكيد ضد الإسلام والمسلمين، ولذلك منعهم من الإقامة فيها لدفع الشرِّ عن المسلمين، ولكنّ بعض الصحابة رضي الله عنهم كان لهم عبيد ورقيق من هؤلاء السبايا النصارى أو المجوس، وكان بعضهم يلحُّ على عمر أن يأذن لبعض عبيده ورقيقه من هؤلاء المغلوبين بالإقامة في المدينة، ليستعين بهم في أموره وأعماله، فأذن عمر لبعضهم بالإقامة في المدينة، على كره منه ووقع ما توقَّعه عمر، وما كان حذّر منه [7].

مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
قال عمرو بن ميمون: إني لقائم (في الصف ينتظر صلاة الفجر)، ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس، غداة أصيب، وكان إذا مرّ بين الصفين، قال استووا، فإذا استووا ، تقدّم فكبّر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبَّر، فسمعته يقول: قتلني -أو أكلني- الكلب، حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين، لا يمرُّ على أحد يمينًا ولا شمالًا إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلًا، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه بُرْنسًا، فلما ظنّ العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدّمه -للصلاة بالناس، فمن يلي عمر، فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرُون، غير أنهم قد فقدوا صوت عمر وهم يقولون: سبحان الله، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال عمر: يا ابن عباس، انظر من قتلني، فجال ساعة، ثم جاء، فقال: غلام المغيرة، قال: الصَّنَع (يشير إلى غلام المغيرة بن شعبة، أبو لؤلؤة فيروز)، قال: نعم، قال: قاتله الله لقد أمرت به معروفًا، الحمد لله الذي لم يجعل منيّتي بيد رجل يدّعي الإسلام، قد كنت أنت وأبوك -يريد العباس وابنه عبد الله- تحبّان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقًا، فقال عبد الله إن شئت، فعلت، أي: إن شئت قَتَلنا. قال: كذبت -أي أخطأت- بعدما تكلموا بلسانكم، وصلّوا قبلتكم، وحجوا حجّكم. فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فأُتي بنبيذ (المراد بالنبيذ المذكور، تمرة نبذت في ماء، أي نقعت فيه. كانوا يفعلون ذلك، لاستعذاب الماء) فشربه، فخرج من جوفه، ثمّ أتي بلبن فشربه فخرج من جُرْحه، فعلموا أنه ميت.

فدخلنا عليه، وجاء الناس فجعلوا يثنون عليه، وقال: يا عبد الله بن عمر انظر، ما عليّ من الدَّين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفًا أو نحوه، قال: إن وفى له مال آل عمر، فأدّه من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم، فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأدّ عني هذا المال، وانطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل، يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يبقى مع صاحبيه. فسلّم عبد الله بن عمر، واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السَّلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنّه به اليوم على نفسي، فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت، قال: الحمد لله، ما كان من شيء أهمُّ إليّ من ذلك. فإذا أنا قضيت فاحملني ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذن لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين. قال: فلما قبض خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسلّم عبد الله بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت عائشة: أدخلوه، فأدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه [8].

وجاءت روايات أخرى فصلت بعض الأحداث التي لم تذكرها رواية عمرو بن ميمون، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن عمر رضي الله عنه طُعن في السحر، طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، وكان مجوسيًا. وقال أبو رافع رضي الله عنه: كان أبو لؤلؤة عبدًا للمغيرة بن شعبة وكان يصنع الأرحاء (وهي التي يطحن بها)، وكان المغيرة يستغله كل يوم أربعة دراهم، فلقي أبو لؤلؤة عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن المغيرة قد أثقل عليَّ غلتي، فكلِّمه أن يخفف عني. فقال عمر: اتق الله، وأحسن إلى مولاك -ومن نية عمر أن يلقى المغيرة فيكلمه يخفف عنه، فغضب العبد، وقال: وسع كلهم عدله غيري؟‍‍! فأضمر على قتله، فاصطنع خنجرًا له رأسان، وشحذه، وسمّه، ثم أتى به الهُرْمُزان، فقال: كيف ترى هذا؟ قال: أرى أنك لا تضرب به أحدًا إلا قتلته. قال: فتحين أبو لؤلؤة عمر، فجاءه في صلاة الغداة حتى قام وراء عمر، وكان عمر إذا أقيمت الصلاة يتكلم يقول: أقيموا صفوفكم، فقال كما كان يقول: فلما كبَّر، وجأه (ضربه) أبو لؤلؤة وجأةً في كتفه، ووجأة في خاصرته، فسقط عمر، قال عمرو بن ميمون رحمه الله: سمعته لما طعن يقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] [9].

اللحظات الأخيرة من حياة عمر:
هذا ابن عباس رضي الله عنه يصف لنا اللحظات الأخيرة في حياة الفاروق، حيث يقول: دخلت على عمر حين طُعنْ، فقلت: "أبشر بالجنة، يا أمير المؤمنين، أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خذله الناس، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك اثنان، وقُتلت شهيدًا"، فقال عمر: أعد عليَّ، فأعدت عليه، فقال: والله الذي لا إله إلا هو، لو أن لي ما في الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع. وجاء في رواية البخاري: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه، فإن ذلك من الله جل ذكره منَّ به علي، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طِلاع الأرض ذهبًا لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه.

لقد كان عمر رضي الله عنه يخاف هذا الخوف العظيم من عذاب الله تعالى مع أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة، ومع ما كان يبذل من جهد كبير في إقامة حكم الله والعدل والزهد والجهاد وغير ذلك من الأعمال الصالحة، وإن في هذا لدرسًا بليغًا للمسلمين عامة في تذكر عذاب الله الشديد وأهوال يوم القيامة.

وهذا عثمان رضي الله عنه يحدثنا عن اللحظات الأخيرة في حياة الفاروق، فيقول: أنا آخركم عهدًا بعمر، دخلت عليه، ورأسه في حجر ابنه عبد الله بن عمر فقال له: ضع خدي بالأرض، قال: فهل فخذي والأرض إلا سواء؟ قال ضع خدي بالأرض لا أمَّ لك، في الثانية أو في الثالثة، ثم شبك بين رجليه، فسمعته يقول: ويلي، وويل أمي إن لم يغفر الله لي حتى فاضت (خرجت) روحه. فهذا مثل مما كان يتصف به أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من خشية الله تعالى، حتى كان آخر كلامه الدعاء على نفسه بالويل إن لم يغفر الله جل وعلا له، مع أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، ولكن من كان بالله أعرف كان من الله أخوف، وإصراره على أن يضع ابنه خده على الأرض من باب إذلال النفس في سبيل تعظيم الله عز وجل، ليكون ذلك أقرب لاستجابة دعائه، وهذه صورة تبين لنا قوة حضور قلبه مع الله جل وعلا [10].

تاريخ موته ومبلغ سنه:
قال الذهبي: استشهد يوم الأربعاء لأربع أو ثلاث بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح. وكانت خلافته عشر سنين ونصفًا وأيامًا. وجاء في تاريخ أبي زرعة عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنت عند معاوية فقال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين، وتوفي أبو بكر رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وستين، وقُتل عمر رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وستين [11].

في غسله والصلاة عليه ودفنه:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: غسل وكُفِّن، وصلي عليه، وكان شهيدًا [12].
وقد اختلف العلماء فيمن قتل مظلومًا، هل هو كالشهيد لا يغسل أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أنه يغسل، وهذا حجة لأصحاب هذا القول.
والثاني: لا يغسل ولا يصلى عليه.
والجواب عن قصة عمر، أن عمر عاش بعد أن ضُرب وأقام مدة، والشهيد حتى شهيد المعركة لو عاش بعد أن ضُرب حتى أكل وشرب أو طال مقامه فإنه يغسل، ويصلى عليه، وعمر طال مقامه حتى شرب الماء، وما أعطاه الطبيب، فلهذا غسل وصلي عليه رضي الله عنه [13].

من صلى عليه؟
قال الذهبي: صلى عليه صهيب بن سنان. وقال ابن سعد: وسأل علي بن الحسين سعيد بن المسيب: من صلى على عمر؟ قال: صهيب، قال كم كبر عليه؟ قال: أربعًا، قال: أين صُلي عليه؟ قال: بين القبر والمنبر. وقال ابن المسيب: نظر المسلمون فإذا صهيب يصلي لهم المكتوبات بأمر عمر رضي الله عنه فقدموه، فصلى على عمر. ولم يقدم عمر رضي الله عنه أحدًا من الستة المرشحين للخلافة حتى لا يظن تقديمه للصلاة ترشيحًا له من عمر (وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعًا). كما أن صهيبًا كانت له مكانته الكبيرة عند عمر والصحابة رضي الله عنهم، وقد قال في حقه الفاروق: "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" [14].

في دفنه رضي الله عنه:
قال الذهبي: دفن في الحجرة النبوية. وذكر ابن الجوزي عن جابر قال: نزل في قبر عمر عثمان وسعيد بن زيد، وصهيب، وعبد الله بن عمر . وعن هشام بن عروة قال: لما سقط عنهم -يعني قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما- في زمن الوليد بن عبد الملك أخذوا في بنائه، فبدت لهم قدمٌ، ففزعوا، وظنوا أنها قدم النبي صلى الله عليه وسلم فما وجدوا أحدًا يعلم ذلك، حتى قال لهم عروة: لا والله ما هي قدم النبي صلى الله عليه وسلم ما هي إلا قدم عمر رضي الله عنه.

وقد مرّ معنا: أن عمر أرسل إلى عائشة رضي الله عنهما ائذني لي أن أُدفن مع صاحبي، فقالت: (أي والله)، وقال هشام بن عروة بن الزبير: وكان الرجل إذا أرسل إليها -أي عائشة- من الصحابة قالت: لا والله لا أؤثرهم بأحد أبدًا. ولا خلاف بين أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما في هذا المكان من المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام [15].

ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الفاروق:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: وُضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويصلون، قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يَرُعني إلا رجل آخذ منكبي، فإذا علي بن أبي طالب، فترحم على عمر، وقال: ما خلفت أحدًا أحبّ إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وحسبت أني كنت كثيرًا أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر [16].

أثر مقتل عمر على المسلمين:
كان هول الفاجعة عظيمًا على المسلمين، فلم تكن الحادثة بعد مرض ألمَّ بعمر، كما كان يزيد من هولها في المسجد وعمر يؤم الناس لصلاة الصبح، ومعرفة حال المسلمين بعد وقوع الحدث يطلعنا على أثر الحادث في نفوسهم، يقول عمرو بن ميمون: ".. وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ"، ويذهب ابن عباس ليستطلع الخبر بعد مقتل عمر ليقول له: "إنه ما مرّ بملأ إلا وهم يبكون وكأنهم فقدوا أبكار أولادهم". لقد كان عمر رضي الله عنه معلمًا من معالم الهدى، وفارقا بين الحق والباطل فكان من الطبيعي أن يتأثر الناس لفقده.

وهذا الأثر يوضح شدة تأثر الناس عليه، فعن الأحنف بن قيس: قال: ".. فلما طعن عمر أمر صهيبًا أن يصلي بالناس، ويطعمهم ثلاثة أيام حتى يجتمعوا على رجل، فلما وضعت الموائد كف الناس عن الطعام، فقال العباس: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، فأكلنا بعده، وشربنا ومات أبو بكر رضي الله عنه، فأكلنا، وإنه لا بد للناس من الأكل والشرب، فمد يده فأكل الناس.

وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عندما يذكر له عمر يبكي حتى تبتل الحصى من دموعه ثم يقول: إن عمر كان حصنًا للإسلام يدخلون فيه ولا يخرجون منه، فلما مات انثلم الحصن فالناس يخرجون من الإسلام.

وأما أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فقد كان يقول قبل أن يقتل عمر: إن مات عمر رق الإسلام، ما أحب أن لي ما تطلع عليه الشمس أو تغرب وأن أبقى بعد عمر، فقيل له: لم؟ قال: سترون ما أقول إن بقيتم، وأما هو فإن ولي وال بعد فأخذهم بما كان عمر يأخذهم به لم يطع له الناس بذلك ولم يحملوه، وإن ضعف عنهم قتلوه [17].


[1] الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب للعاني ص151. الخلفاء الراشدون للخالدي ص77.
[2] البخاري، ك الفتن رقم 7096. البخاري ك فضائل أصحاب النبي رقم 3675. الخلفاء الراشدون للخالدي ص79.
[3] تاريخ المدينة لابن شبة، وإسناده صحيح إلى سعيد بن المسيب (3/872).
[4] الطبقات لابن سعد (3/331) إسناده حسن، تاريخ المدينة (3/872). محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن المِبْرَد (3/791).
[5] تاريخ المدينة (3/868 - 869)، إسناده حسن فيه عبد الرحمن بن المسعودي. صدوق اختلط قبل موته التقريب رقم 3919. الطبقات (3/331). محض الصواب (3/868 - 869).
[6] الموسوعة الحديثية مسند الإمام أحمد رقم 89 إسناده صحيح.
[7] الخلفاء الراشدين للخالدي ص83.
[8] البخاري، ك فضائل الصحابة رقم 3700.
[9] صحيح التوثيق في سيرة وحياة الفاروق ص369 - 370.
[10] البخاري، ك فضائل الصحابة، رقم 3692. صحيح التوثيق في سيرة وحياة الفاروق ص383. التاريخ الإسلامي (19/33، 44 - 45).
[11] مسلم، فضائل الصحابة رقم 2352. سير السلف لأبي القاسم الأصفهاني (1/160). محض الصواب (3/840، 843).
[12] الطبقات (3/366) إسناده صحيح.
[13] الإنصاف للمرداوي (2/503) محض الصواب (3/844 - 845).
[14]  الطبقات (3/366) وفي إسناده خالد بن إلياس وهو متروك. والطبقات كذلك (3/367). الفتاوى لابن تيمية (15/140). محض الصواب (3/845).
[15] البخاري، ك الجنائز رقم 1326. البخاري، ك الاعتصام، رقم 2671 رقم 6897. محض الصواب (3/846 - 847).
[16] البخاري، ك فضائل الصحابة رقم 3482.
[17] الطبقات الكبرى (3/284). العشرة المبشرون بالجنة، محمد صالح عوض ص44. محض الصواب (3/855)

*موقع قصة الإسلام

    أبو الهيثم محمد درويش

    دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.

    • 2
    • 1
    • 5,425
    المقال السابق
    تواضع الفاروق رضي الله عنه
     

    هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

    نعم أقرر لاحقاً