العبث بالشأن النسائي
- التصنيفات: قضايا المرأة المسلمة -
طرحَت الدكتورة نورة بنت خالد السعد، الكاتبة والأكاديمية السعودية المعروفة، في الساحة الإعلامية، بكتاباتها الرزينة العاقلة المتعلقِّة (ربيع الحرف) - فكرةً مهمَّة حول أسلوب عمل المرأة، من منطلق انتمائي، وليس عمل المرأة فحسب، وركَّزت في وقفتها تلك على التنبيه إلى عدم استغلال المرأة لأنوثتها، أو بسبب أنوثتها، وإخراجها من سَمْتها وحيائها وحشمتها بحجَّة العمل، وكان طرحها واقعيًّا، منتميًا لما تنتمي إليه الدكتورة نورة السعد، وجميع صويحباتها العاملات في مجالات شتَّى، وانبرى من يتَّهمها بأنها ستُعيد المرأة المعاصرة إلى حال المرأة في عصر المماليك[1].
نحن - هنا - بحاجة إلى شخص متخصِّص في التاريخ الاجتماعي، أو الاجتماع التاريخي، ليبيِّن لنا ما كانت عليه المرأة في عصر المماليك، هل هي كما صوَّرها مؤرِّخون غير منصفين؟ أم أنَّها - كما رسَمها مستشرقون - قابعة في سكن الحريم، مهيَّأة للرجال، متى ما عادوا إلى لهوهم، وهي جزء من لهوهم، على اعتبار أنَّ الحياة عند هؤلاء، في نظر بعض المستشرقين من المؤرِّخين، كانت لهوًا وعبثًا؟[2].
كثيرًا ما نظلم المماليك في حياتهم السياسية والاجتماعية، والثقافية والفكرية، بل وصوَّرهم الإعلام الاستشراقي الغربي، والإعلام القومي العربي، على أنَّهم كتلٌ من الغباء المركَّب، والشهوات الجامحة؛ ولعلَّ هذا كان من إيحاءات استشراء المدِّ القومي في بدايات القرن الهجري الرابع عشر، القرن العشرين الميلادي، وبهذا ننسى الجهودَ التي قام بها المماليك لصدِّ الغزو الفكري والعسكري على المجتمع المسلم، ومنه المجتمع الغربي؛ هذه واحدة[3].
والأخرى: أنَّ الدكتورة نورة السعد كانت تنطلق - في وقفتها تلك - إلى الرغبة في إيجاد بيئة عمَل للمرأة، تُعفيها من التعرُّض لما تتعرَّض له المرأة العاملة في مجتمعاتٍ لم تهتمَّ بإيجاد هذه البيئة، واعتبرَتها رجوعًا إلى عصر المماليك، وبالتالي انغلاقًا وتحجيمًا لإمكانيات عمل المرأة، وتوسيع فرص إسهامها في سوق العمل.
وإسهام المرأة في سوق العمل لا يُراد له أنْ يكون على حساب المبادئ والمثُل والقيم، التي صاغت هذا المجتمع[4].
المؤكَّد أنَّ هذا ليس قصد أولئك الذين اتَّهموا الدكتورة نورة السعد بتلك الاتِّهامات، ولكن ذلك يعود كله - ربَّما - إلى النظرة العاطفيَّة للمرأة، في مجال خروجها للعمل، وليس أولى من المرأة إلَّا المرأة نفسها، حين تتحدَّث عن مجال خروجها للعمل؛ فهي التي ترقب صويحباتها العاملات، ومدى الموضوعيَّة والواقعية في إسناد بعض الأعمال لهن.
لا بُدَّ من التوكيد على الوضوح - من منطلَق منهج الوسط - في الطَّرح حول إيجاد بيئة عملٍ للمرأة، تسهم فيه في تنمية المجتمع، ويكون وسيلةً تسترزق من ورائه، ولا بُدَّ من الابتعاد عن كلِّ أساليب الحوم حول الحِمى، دون الوقوع فيه؛ ذلك أنَّ المشكلة التي تعاني منها المرأة، ويعاني منها الرجل كذلك، هي المراد من عمل المرأة، أو المراد من المرأة في عملها[5].
الذين يسافرون في رحلات عمل أو سياحة يجدون هذا السؤال قائمًا، وأكاد أقول: إنَّ المرأة قد أُحيلَت، في كثير من الحالات، إلى أداة أكثر من كونها امرأةً عاملة، هذه الأداة هي جعلُها كما أراد أنْ يعبِّر عنه بعض الذين ردُّوا على الدكتورة نورة بنت خالد السعد، ويبدو أنَّها أحيلَت إلى أداة لمجرَّد متعة النظر، وإشباع رغبات ذاتية، وبالتالي، طُلب منها أن تتزيَّن للعمل، وأنْ تلبس أحسن الثياب، وأقلَّها ما أمكن، فلم يعد التبرُّج قاصرًا على أهل الفنِّ والمواخير الليلية، بل أضحى مرئيًّا في الشارع، والمتجر والمكتب والمشغل.
المؤمَّل من الجميع تأمُّل هذا الطَّرح، والنظر إليه مرَّة أخرى بموضوعيةٍ وواقعيةٍ، وقليلٍ جدًّا من العاطفة، التي تشطح بالموضوع، وتبعده عن الخروج بنتيجة[6].
أهم العوامل التي تراعى في إيجاد بيئة عمَل للمرأة - وليس هو العامل الوحيد - هو الابتعاد عن المخالطة، الذي ولَّد ما ولَّد من مشكلات اجتماعية، لها أوَّل، وليس لها آخر، ثم تأتي العوامل الأخرى في هذه البيئة، تراعى فيها طبيعة المرأة، وحاجتها إلى أمور مهمَّة في حياتها اليومية، تجدها أمامها في العمل[7]، وهذا الذي سعَت إليه منظمة العمل الدولية، حينما كان مِن تركيزها في مؤتمرها العامِّ الذي عقد عام 1422هـ/ 2002م، مسألة الأمومة لدى العاملات، وإيجاد البيئة للرعاية والمتابعة، منذ الحمل، فالولادة، فالرضاعة والحضانة، مع إيجاد أماكن مخصَّصة لراحتها، وراحة رضيعها، وكان هناك نِقاش طويل حول مدَّة الرضاعة أو الحضانة، كان موضعَ جدل بين فريق العمل وفريق أصحاب العمل، ولم ينتهِ النِّقاش إلى رؤية محدَّدة في تحديد المدَّة التي يمكن للمرأة العاملة فيها أنْ تحضن رضيعها[8]؛ من هذا المنطلق، تفرض قوانين (أنظمة) العمل إيجاد هذه البيئة للمرأة لتحضن رضيعها، في أوقات تحدِّدها اللوائح، المنبثقة عن هذه القوانين (الأنظمة).
نقاش هذا الموضوع - بيئة عمل المرأة - لا يقتصر على الجانب المحلِّي فحسب، ولكنْ كلٌّ ينظر إليه من منطلقاته الثقافية، وانتماءاته وعاداته وتقاليده، ولا بُدَّ من التوكيد - مرَّة أخرى - أنَّ الذين انبروا للردِّ على الدكتورة نورة السعد في طرحها المتعقِّل ليسوا منطلقين من منطلقاتٍ تغريبيَّة، فيها تقليد للآخر، ورغبة في الخروج من السمت والاحتشام، الذي عُرف عن المرأة المسلمة عمومًا، والعربية خصوصًا، والخليجية على وجه أخص، إلَّا أنَّه - مع هذا - لا يخلو من تأثُّر بأفكار غير انتمائية، هي إلى العبث أقرب منها إلى النظرة الجادَّة للشأن النسائي.
عدم الموافقة على الطريقة التي تقدَّم بها الأفكار نابعٌ من الفهم أنها صيغَت بمفهومات غريبة عن المجتمع المسلم، وتريد فَرض هذه الأفكار، على حِساب المفهوم الإسلامي النظري والتطبيقي للمرأة، على اعتبار أنهم يزعمون أنَّ الإسلام يميِّز بين الرجل والمرأة[9]، فأصبح الموقف موقفَ المدافع، عندما يُبين موقف الإسلام من المرأة، بأسلوب يُرغب فيه في إقناع الآخر بهذا الموقف، بعبارات عامَّة، يبدو أنَّها صادرة عن ردِّ فعل.
لا ينبغي اللجوء إلى موقف الدِّفاع، في الشأن النسائي وفي غيره، بقَدر ما ينبغي إثبات حقائق، جاء بها القرآن الكريم وسنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومورِسَت في حياة المسلمين، وقبلَت بها المرأة المسلمة، إيمانًا منها، واعتقادًا بها، ولم تُملَ عليها[10]، هذا مع التوكيد على مرجعيَّة هذا الموقف، دون الخلط بين المرجعية الشرعية والمأثورات الاجتماعية، التي لم تكن إيجابيةً في موقفها من المرأة.
إذا كانت المرأة تعاني في بعض المجتمعات من التفرقة، وسوء المعاملة؛ فإن هذا لا يعني - بالضرورة - مطابقة هذا على المرأة المسلمة، في الأسرة المسلمة الملتزمة بالإسلام، كما أنَّ ممارسات بعض المجتمعات المسلمة تجاه المرأة - تقليدًا اجتماعيًّا موروثًا - لا يعني تماشي هذه الممارسات مع الدين، ولا تؤخذ حجَّةً على الإسلام[11].
[1] انظر: شوقي أبو خليل: تحرير المرأة ممَّن؟ وفيمَ حرِّيتها؟ - ط 3 - بيروت: دار الفكر المعاصر، 1426هـ/ 2005م - 79 ص.
[2] انظر: عقيلة حسين: المرأة في الفكر الاستشراقي - بيروت: دار ابن حزم، 1425هـ/ 2004م - 290 ص.
[3] انظر: إرفن جميل شِك: الاستشراق جنسيًّا، ترجمة: عدنان حسن، تقديم: ممدوح عدوان - بيروت: قدمس للنشر والتوزيع، 2003م - 358 ص.
[4] انظر: في الدعوة إلى تخطِّي القيم والمثُل والمبادئ: المناظرة بين كلِّ من أميمة أبو بكر وشيرين شكري: المرأة والجندر؛ إلغاء التمييز الثقافي والاجتماعي بين الجنسين - دمشق: دار الفكر، 1423هـ/ 2002م - 255 ص؛ سلسلة حوارات لقرن جديد.
[5] انظر في مسألة حقِّ المرأة في العمل: جمال الدين محمَّد محمود: المرأة المسلمة في عصر العولمة - القاهرة: دار الكتاب المصري، 1421هـ/ 2001م - 222 ص.
[6] انظر في مسألة تحرير المرأة: العمل الموسوعي الذي تولَّاه عبدالحليم محمَّد أبو شقَّة: تحرير المرأة في عصر الرسالة: دراسة عن المرأة جامعة لنصوص القرآن الكريم وصحيحي البخاري ومسلم - 6 ج - ط 6 - الكويت: دار القلم، 1422هـ/ 2001م.
[7] انظر: إبراهيم بن مبارك الجوير: عمل المرأة في المنزل وخارجه - الرياض: مكتبة العبيكان، 1416هـ/ 1995م - 120 ص.
[8] انظر: منظمة العمل الدولي: التقرير الرابع: حماية الأمومة في العمل: مراجعة اتفاقية حماية الأمومة مراجعة 1952 رقم 103 والتوصية، 1952 رقم 95 - جنيف: مكتبة العمل الدولي، 1999م - 129 ص.
[9] انظر: عبدالمجيد الزنداني: المرأة وحقوقها السياسية في الإسلام - الكويت: مكتبة المزار الإسلامية، 1421هـ/ 2000م - 180 ص.
[10] انظر في موضوع المرأة بين الدين والأخلاق: المناظرة بين كلٍّ من نوال السعداوي وهبة رؤوف عزَّت: المرأة والدين والأخلاق - دمشق: دار الفكر، 1424هـ/ 2004م - 328 ص؛ سلسلة حوارات لقرن جديد.
[11] انظر: سهيلة زين العابدين حمَّاد: المرأة المسلمة ومواجهة تحدِّيات العولمة - الرياض: مكتبة العبيكان، 1424هـ/ 2003م - 215 ص.
___________________________________
أ. د. علي بن إبراهيم النملة