وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْل

منذ 2020-11-15

هذا الحديث ينطبق على حالنا بكل جزئياته، فسبحان من أهدى الحبيب هذه الفصاحة وهذه الدقة ليبقى كلامه معجزًا لكل من سمعه في مختلف العصور وليبقى سامعه حائرا في معنى الحديث لساعات وفي تجلياته كأن الحبيب قد قاله الآن ولنا خاصة.

حين نتصفح كتب السنن والصحاح لا نكاد نمر بصفحة إلا وتستوقفنا عبارة أو عبارتان أو أكثر، فنقف أمامها حائرين سائلين أنفسنا: أنَّى لرجل أمي كالرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم لم يلتق الفلاسفةَ والحكماء أن يتكلم بمثل هذا الكلام، وبتلكم الدقة، ويخبر عن كوامن النفوس أفضل مما يخبر به الخِرِّيتُ الحاذق من علماء النفس والاجتماع؟!

 

وكيف لم يَخَفْ أن يُكذِّبه أو يعترض عليه أحدٌ من الناس متهمًا كلامه بمجانبة الصحة والصواب، أو عدم مطابقته للواقع، ولكننا جميعًا نطأطئُ الرؤوس أمام قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]، فكأنه صلى الله عليه وسلم يعيش اليوم بيننا ليرى أُناسا آذانهم كالأقماع يسمعون كلاما ولا ينتفعون به، فيَدخل الكلام من أذن ويخرج من الأخرى، وهؤلاء ربما ينقلون المواعظ التي سمعوها إلى غيرهم، ويرفعون بها الأصوات في المناسبات والمحافل والمجالس الوعظية وقد يجعلونها حجة على الناس، ولكنهم في خلواتهم واحيانًا في جلواتهم - أيضًا - لا يعملون بها، وهم من أكثر الناس إصرارا على آرائهم، وتحيزًا لأقوالهم، وإن كانت باطلة أو خاطئة، ويتعب معهم الوعاظ والناصحون بالتذكرة ولكن دون جدوى، حتى وكأن الكلام يدخل من أُذن ليخرج من الأخرى دون أن يلامس قلوبهم أو عقولهم وهذا بالضبط ما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ:  «ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ اللهُ لَكُمْ، وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ»[1].

 

وَفَسَّرَ العلماءُ أَقْمَاعُ الْقَوْلِ بِمَنْ كَانَتْ أُذُنَاهُ كَالْقَمْع لِمَا يَسْمَعُ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، فَإِذَا دَخَلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أُذُنِهِ خَرَجَ فِي الْأُخْرَى، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْءٍ مِمَّا سَمِعَ[2].

 

قال صاحب "التيسير": (ويل لأقماع القَوْل) أَي شدّة هلكة، والأقماع بِفَتْح الْهمزَة جمع قمع بِكَسْر فَفتح لمن لَا يعي أَمر الشَّارِع وَلم يتأدب بآدابه، شَبَّهَ مَنْ لَا يعي القَوْل بأقماع الْأَوَانِي الَّتِي تجْعَل على أفواهها وَيُصَبُّ فِيهَا فَإِنَّهَا لَا تدْرك شَيْئا مِمَّا يصب فِي أوانيها لمروره عَلَيْهَا مجتازا، أَي يَجْعَل بَينه وَبَين فهم الْكَلَام حاجبا عَن الْفَهم أَو الْعَمَل تأمّل"[3].

 

وقال الزمخشري: "من المجاز (ويل لأقماع القول) وهم الذين يستمعون ولا يعون"[4]. انتهى.

 

وقال ابن قتيبة في (غريب الحديث): "يعني: الذين يستمعون القول كثيرًا ولا يعملون به، وهو جمع قِمْع، وفيه لغة أخرى: قِمَع، مثل ضِلْع وضِلَع، شبه آذانهم لكثرة ما يدخلها من الوعظ وهم مُصرُّون بالأقماع التي تفرغ فيها الأنواع، وليس يبقى فيها منها شيء"[5].

 

وهذا الحديث ينطبق على حالنا بكل جزئياته، فسبحان من أهدى الحبيب صلى الله عليه وسلم هذه الفصاحة وهذه الدقة في الاختيار ليبقى كلامه معجزًا لكل من سمعه في مختلف العصور وليبقى سامعه حائرا في معنى الحديث لساعات وفي تجلياته كأن الحبيب قد قاله الآن ولنا خاصة.

 

فصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين الهادي للأمة، والمنير طريقها، والمشخص لدائها والهادي إلى دوائها قبل اربعة عشر قرنا.

 


[1] مسند الإمام أحمد بن حنبل، أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د .عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م:11/ 99، والمُعْجَمُ الكَبِير للطبراني ، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني (المتوفى: 360هـ)، تحقيق: فريق من الباحثين بإشراف وعناية د/ سعد بن عبد الله الحميد و د/ خالد بن عبد الرحمن الجريسي:13/ 651.

وَوَاحِد الأقماع قِمَع، وَهُوَ الأداة الَّتِي يُصَبُّ فِيهَا مَا يُحقَن فِي السقاءِ وَغَيره من الأوعية. وَقيل الأقماع أُرِيد بهَا الأسماع.

تهذيب اللغة: محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور (المتوفى: 370هـ)، تحقيق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الأولى، 2001م:1/ 192.

[2] جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795هـ)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط - إبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة السابعة، 1422هـ - 2001م: 1/ 416و فتح الباري شرح صحيح البخاري، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795هـ)، تحقيق: مجموعة من الاساتذة، مكتبة الغرباء الأثرية - المدينة النبوية، مكتب تحقيق دار الحرمين - القاهرة، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1996 م:1 / 197.

[3] "التيسير بشرح الجامع الصغير"، زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى: 1031هـ)، مكتبة الإمام الشافعي - الرياض، الطبعة: الثالثة، 1408ه - 1988م: 1/ 141، وينظر: "فيض القدير شرح الجامع الصغير"، عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى: 1031ه)، المكتبة التجارية الكبرى - مصر، الطبعة الأولى، 1356 :1/ 474.

[4] "فيض القدير": 1/ 474.

[5] "غريب الحديث"، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفى: 276هـ)، تحقيق: د. عبد الله الجبوري، مطبعة العاني - بغداد، الطبعة الأولى، 1397ه، 1/ 337.

 

  • 0
  • 0
  • 3,496

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً