الاستسلام لأمر الله كله
وقد وصفَ اللهُ تعالى لنا حالَ أهلِ الإيمان وأهلِ الهوى ؛ فأخبرَ أنْ أهلَ الإيمان هم المستجيبون لأمرِه المُنقادُون لِشرعِه بلا ريبٍ في صدورِهم مِن أمرِ اللهِ عز وجل، سواء فهِموا الحكمةَ مِن الأمرِ أو لم يَفهموا..
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
الحمد لله الذين أَنعمَ بالإيمان على مَن اصطفى مِن عبادِه، وجعلَ مِن فضلِ نعمتِه عليهم قرآنَه آياتٍ يَحتكمونَ إليها عند الاختلاف، وسنةً مُبَيِّنةً هي الأمنُ مِن الالتباس، وأشهد ألا إله إلا الله ربي مُصرِّفُ الأفئدةِ كيف يشاءُ لا مُعقِّبَ لِحُكمه يفعلُ ما يريدُ حكمةً، ويَهدي مَن يشاءُ رحمةً منه وفضلاً، أما بعد:
فإنّ الله عز وجل خلقَ عبادَه فابتلاهم، وأنزلَ عليهم الكتبَ، وأرسلَ إليهم الرسلَ مبشّرينَ بالخيراتِ لمن آمن واستجاب، ومنذرينَ بطشةَ اللهِ على مَن كفر واستَراب، وهو الغفور الودود، وهو شديد العقاب ؛ فكان الناس في ذلك على قسمين: مؤمنين وكافرين ؛ فأما مَن آمن بالله تعالى واستجابَ دعوةَ المرسلين وصدّقَ بها ؛ فهو الفائز المفلِحُ في الدارين، وكان مِن واجبِ إيمانِه - بعدَ ظهورِ آياتِ اللهِ تعالى وبيانِه الحجةَ على عباده بشواهدِ صدقِه في أنفسنا وفي الآفاق وفي كتابه العظيم الذي لم يَجِئْ مثلُه قبلَه ولا يَجيءُ ولا يَتَأتّى للخلق ولو اجتمعوا أن يأتوا بسورةٍ مِن مثلِه بعدَه - : أنْ يَستسلمَ لأمرِ الله تعالى كلِّه ويَدخلَ فيه كلِّه، لا يفرِّقُ فيه بين أحكامِه فيؤمن ببعض ويكفر ببعض ؛ فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [سورة البقرة 208] ؛ فبيَّنَ - واللهُ أعلمُ - وجوبَ الدخولِ في كلِّ شرائعِ الإسلام بلا تَبعيضٍ؛ فإنّ تَبعيضَها مِن خطواتِ الشيطانِ الرجيم القائدِ مَن اتبعَ هذه السبيل إلى تركِ شرائعِ الإسلام خطوةً خطوة، وشريعةً شريعةً حتى يَتركوا الدينَ كلَّه ..
وقد وصفَ اللهُ تعالى لنا حالَ أهلِ الإيمان وأهلِ الهوى ؛ فأخبرَ أنْ أهلَ الإيمان هم المستجيبون لأمرِه المُنقادُون لِشرعِه بلا ريبٍ في صدورِهم مِن أمرِ اللهِ عز وجل، سواء فهِموا الحكمةَ مِن الأمرِ أو لم يَفهموا، وما جَعلُوا عقولَهم وأهواءهم حَكَمًا على شرعِ الله، أخبرَ سبحانه بذلك في آياتٍ متفرقةٍ في كتابه؛ فقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة النور 51]، وقال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [سورة الحجرات 1] ؛ فكانت صفةُ المؤمنين الاستسلامُ لحكمِ اللهِ كلِّه، وتركُ التَّقدُّمِ بينَ يدي الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بما تُمليه عليهم عقولُهم وآراؤهم..
وكان وصفُ أهلِ الهوىٰ وذمُّهم مُبيَّنًا في مواضعَ متفرقةً مِن كتاب اللهِ كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة البقرة 145]، وقوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [سورة اﻷنعام 111]، وقوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} [سورة يونس 74].
وجاء في القرآن الجمعُ بين وصفِ أهلِ الإيمان وأهلِ الهوى في الآية الواحدةِ، كما في قوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة آل عمران 7]، وقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة النمل 81] ؛ فبيَّن لنا أنّ أهلَ الإيمان آخذُونَ أمرَ اللهِ علمًا وفقهًا في المُحكَمِ مِن آياتِه، وانقيادًا واستسلامًا في متشابِهِهِ، وأخبرنا أنّ أهلَ الهوى قد طُبع على قلوبهم ؛ فهُم يُعرِضونَ عن الحقِّ وإن علِمُوه، ويَتّبعونَ المتشابِهاتِ لِفسادِ نِياتِهم وأغراضِهم، ويتَّبعونَ أهواءَهم بتحكيمِها على شرعِ اللهِ ؛ فمنهم مَن يَردُّ الشرعَ كلَّه، ومنهم مَن يؤمن ببعض ويكفر ببعض ؛ قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [سورة النساء 55]، وقال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سورة البقرة 85]، وتَبعيضُ الدينِ شائعٌ في أهل الكتاب، وما وقعَ مِن أهلِ الكتابِ مِن ضلالِ ؛ فلا بدَّ أن يقعِ في بعضِ أهلِ الإسلامِ ؛ فقد روّينا كما في الصحيحين عن الصادقِ الناطقِ بالحقِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لَتَتَّبعنَّ سننَ مَن قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، فقالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى ؟، قال: فمن»؟ فكان في أمّةِ الإسلامِ مِن أهلِ الأهواءِ مَن شابهَ أهلَ الكتابِ في تبعيضِ الدينِ ؛ فاتّبعوا ما وافقَ هَواهُم واجتنبَوا ما شقَّ عليهم وكرِهوا من الأحكام، وكانوا في ذلك متَّبِعينَ خطواتِ الشيطانِ ؛ فتارةً يَردُّونَ بعضَ الشرائعِ احتجاجًا بالخلافِ، وتارةً يَردُّونَها بدعوى تجديدِ فهمِ النصوصِ، وتارةٍ بزعم مخالَفَتِها للعقول، وتارةً يقولون: ليست في كتاب الله، وتارةً بالتقدُّمِ والطعنِ على علماءِ الأمةِ الذين حفظوا لنا هذا الدين جيلًا بعدَ جيلٍ ؛ فيزعمون أن علماء الشريعة حجَّروا وضيَّقُوا الدينَ مِن عند أنفسِهم ؛ فهجروا العلماءَ ونَصَّبوا شرذمةً مِن الجاهلين لِيفتُوهم في دينهم حسبَ ما يشتهونَ ؛ فهم ممن اتخذوا رؤوسًا جُهَّالا، فسُئلوا فأفتَوا بغير علم ؛ فضلُّوا وأَضلُّوا..
أما احتجاجُ الجاهلِينَ بالخلافِ فغيرُ جائز من خمسة وجوه:
الأول: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [سورة النساء 59] ؛ فأمَرَ عند الاختلاف بالرد إلى الله والرسول، ولم يأمر بالرد إلى الاختلاف، ولم يرخّص عند الاختلافِ أنْ يَعمل كلُّ واحدٍ منهم بما يشاء بحجةِ الاختلاف؛ فمن لم يَرجع عند الاختلاف إلى الكتاب والسنة ؛ كان عاصيا لأمر الله عز وجل.
الثاني: أن اللهَ تعالى جعلَ كتابَه وسنةَ نبيِّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وإجماعَ الأمةِ حُجةً ودليلا، ولم يجعل الحجةَ في غيرِ ذلك؛ فليس الخلاف بكتاب ولا سنة ولا إجماع؛ بل هو نقيضُ ذلك؛ إذ لمّا كان الإجماعُ حجةً كان نقيضُه ليس بحجة، والخلافُ نقيضُ الإجماع.
الثالث: أن الخلافَ لم يكن حجةً في زمن النبوةِ؛ فكلُّ المسلمين يلتزمون ما علموه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس عندهم خلاف في ذلك، ومَن جهلَ منهم حُكما؛ ردَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فما لم يكن حُجةً في زمن النبوة؛ فلا يكون حجةً بعد ذلك.
الرابع: أن علماءَ الأمةِ مجمعون على أن الخلاف ليس بحجة تُستحلُ بها الأحكامُ وتُحرَّم؛ فقد قال ابن عبد البر - رحمه الله - (تـ٤٦٣): "الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة، إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجة في قوله" [جامع بيان العلم وفضله]..
الخامس: أنّ الواجبَ على عامةِ الناسِ ممن لا علم له ولا فقهَ في الشريعةِ أن يرجعوا إلى أوثق العلماء في عصرههم وأتقاهم وأورعهم وأحرصهم على لزوم أمر الله؛ فيَتحَرَّوا مَن كانت هذه صفتُه ليسألوه في أمرِ دينهم فيأخذوا ما أفتاهم به، ولا يجوز لهم أن يتخيَّروا مِن الفُتْيا ما شاؤوا؛ إذن فلا يجوز لهم الاحتجاجُ بالاختلاف؛ لأن واجبَهم اتّباعُ مَن وصفتُ من أهل العلم ..
وهنا يحسن أن أُشيرَ إلى أنّ المحتَجَّ بالاختلاف لا يَتحرىٰ الأعلمَ والأورعَ والأتقى من أهل العلم ؛ بل يتتبعُ ما يَسهلُ على نفسِه ويُوافقُ ما يهواه ؛ فلذا لا تكاد تجدُ مَن يَحتجُّ بالخلافِ إلا فيما يكون أقرب إلى الشهوات ومَيلِ النفوسِ، ولا يحتجون بالاختلاف لاتّباعِ الأحوطِ لهم في دينِهم والأبعدِ لهم عن الوقوعِ في مَساخِط اللهِ عز وجل، ولا يَعملون بقول نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتّقى الشبهات ؛ استبرأَ لدينه وعِرضه، ومن وقع في الشبهات ؛ وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمَىٰ يوشك أن يَرتع فيه» [أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما]..
وأما ردُّهم لبعضِ الأحكام التي تتابعَ عليها العلماءُ بحجةِ تجديد فهم النصوص ؛ فكلامٌ باطلٌ بداهةً ؛ إذ يَلزمُ أنّ الأمةَ كلَّها كانت على ضلالةِ، ولا تجتمعُ أمةُ الإسلامِ على ضلالةٍ أبدًا كما دلّت النصوصُ من الكتابِ والسنةِ، كما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، وكما أمرَ اللهُ تعالى بالإيمانِ بمثلِ ما آمن به أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقال: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة البقرة 137]، وهذه الآية وإن كانت نزلتْ في قومٍ معلومِينَ إلا أنها محمولةٌ على عمومها للناس كما هو الأصل في وحيِ اللهِ تعالى أنه للناس كافَّة، ولا يمكن لأحدٍ أن يؤمن بما آمن به الصحابةُ - رضوان الله عليهم - إلا بأن يكون بَلَغَه كيفَ آمنوا، وقد بَلَغَنا، وأن يكون ما آمنوا به هو الحق وما سواه باطل؛ فما جاء مِن فهمٍ جديدٍ يخالفُ فُهومَهم مجتمعينَ؛ فهو باطل، وما جاء على غير ما تعرِفُه العربُ الذين نزلَ فيهم القرآنُ من المعنى؛ فهو باطلٌ، وما لم يأخذ به أحدٌ ممن سلفَ من الأمةِ فهو باطلٌ أيضا..
وأما دعوىٰ مخالفةِ بعضِ النصوص لعقولهم ؛ فإن شرائعَ اللهِ جاءتَ على نوعين: نوعٌ علمنا معناه وعرفنا الحكمةَ منه، ونوعٌ لم نعلم وجهَ الحكمةِ منه، ولكننا نعلم أنّ اللهَ تعالى أعلمُ بما يصلح لخلقه وما لا يصلح {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [سورة الملك 14]، ومنه ما استطاعَ الفقهاءُ بيانَ وجه الحكمةِ فيه اجتهادًا منهم، ومنه ما لم يقدروا على فهمِ وجهِ حكمته كعدد ركعات الصلوات وصفتها وصفة الحج ونحو ذلك ؛ فكان في ذلك بلاءٌ للناسِ لِيَعلَمَ اللهُ مَن آمن وانقادَ لخالقِه ومَن شك وارتابَ، قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [سورة العنكبوت 2] .. وكذلك فإن عقولَ الناسِ مختلِفةٌ متفاوتةٌ؛ فما لم تقبلْهُ عقولُهم فقد قَبِلَتْهُ عقولُ غيرهم من المؤمنين؛ وعقولُ أهل الإيمان والتقوى أحرىٰ بالصواب من عقولِ المتَّبِعِينَ لأهوائهم؛ لأن الله وعدَ المجتهدينَ في تَحَرِّي مرادِه سبحانه بالهداية إلى الحقِّ؛ فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت 69].
وأما قولهم: إنها ليست في كتاب اللهِ ؛ فقد أخبرنا الذي لا ينطقُ عن الهوى بحالِهم ؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه»، ولا يخفى على مسلمٍ أنه مأمورٌ باتّباعِ رسولِ اللهِ كما هو مأمور باتباع أمرِ اللهِ تعالى في مواطنَ كثيرةٍ في كتاب الله، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [سورة النساء 59]، وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الحشر 7].
وأما تقدُّمهم بين يدي علماءِ الأمةِ وفقهائها وهم جاهلون طرائقَ التفقهِ والاستنباطِ وأصولَ علومِ الشريعةِ واللغةِ ؛ فمخالفٌ لأمر الله عز وجل بالرّجوع إلى أولي الأمر مِن العلماء وسؤالِ العالِمين بدينِه الفقهاءِ، كما في قوله تعالى في موضعين من كتابه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل 43، وسورة الأنبياء 7]، وقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [سورة النساء 83]، وقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [سورة التوبة 122] ؛ فجعلَ المؤمنين فرقتين: فرقةً تتفقه في دين اللهِ عز وجل لِتُعلِّمَ الناسَ أمرَ دينِهم، وفرقةً تتعلمُ مِن هؤلاء المتفقِّهينَ ؛ فلم يَكن للعامةِ أنْ يتقدموا بين يَدَي علمائهم وفقهائهم؛ بل عليهم الرجوعُ إليهم ما رأَوهم مستمسكين بأمر الله متلبِّسِين بتقوى الله يُعرَفون بذلك، والله تعالى أعلم، والحمد لله على كل شيء..
_______________________________
عدنان بن عيسى العمادي