دفع الحساب
يا له من سوق عجيب! لك كلُّ الحريَّة في أخذ ما تريد، تمتِّع نفسك، وتروِّح عن قلبك، ولا حساب... ما أروعَ الحريَّةَ! وما أجمل اللذَّاتِ!
كنت أسير مُثقَل الخُطَوات، تائهَ الفِكر، مشتَّت الخاطر... فإذا بي أمام سوق أبوابُه مفتَّحةٌ على مصْارَيعها تَسُرُّ الناظرين، تبدو لهم في قمة البهرجة والجمال، تدعو الناس للدخول... فما وسعني إلا أن أدخل لأجول فيه، فإن لم يكن معي من الأموال ما يُشبع حاجتي، فلأشبع نفسي وعيني بما فيه من كلِّ ما يَسُرُّ النفس والقلب والروح.
دخلت متأمِّلاً يملؤني الرَّيب والحَيْرة والفُضول! وجدت سوقاً هائل الاتِّساع، فيه من كل ما لذَّ وطاب، وسَرَّ وأبهج. كلُّ شيء أمامي بلا حساب. يا له من سوق عجيب! لك كلُّ الحريَّة في أخذ ما تريد، تمتِّع نفسك، وتروِّح عن قلبك، ولا حساب... ما أروعَ الحريَّةَ! وما أجمل اللذَّاتِ!
انطلقت قدماي تسابقان الريح، وغاب عقلي، وتحفَّزت نفسي؛ آخُذُ من كل شيء أمامي، أتلذَّذ أو لا أتلذَّذ، لا يُهِمُّ... المهمُّ أن أحصل على ما تقع يدي عليه، وكلَّما نظرت لمن حولي، قارنتُ ما أخذتُه بما أخذوه، فأزداد سرعةً بكل جوارحي، حتى الحنايا صارت تدفعني لأصير أكثرَ من بالسوق تملُّكاً وتلذُّذاً وحريَّة.
تعبتُ من كثرة التَّجوال في السوق! أظن أنني ذرَّعتُه على اتِّساعه جيئةً وذَهاباً مرَّاتٍ كثيرةً لا أدري
كم عددها؟! لقد غاب عقلي أثناء صراعي ومسارعتي للتقدُّم والحصول على أكبر قدر من الأشياء والملذَّات المجَّانية. كلَّما قلتُ: كفى ما معي، ولأخرج من السوق... دعتني نفسي: أيها المجنون، كيف تقول: كفى؟! خذْ دورة أخرى، اجمع ما تستطيع وما لا تستطيع، وتمتَّع أكثرَ؛ فأين ستجد هذه الحريةَ والملذَّاتِ؟! فأُلبِّي دعوة نفسي، وأعود لأجمع وأتلذَّذ وأستزيد.
ظهر لي بعضهم فجأةً، أمروني أن أقف عند الباب، فعجبتُ لهم: من أين جئتم؟! لقد ظننتُ أنه لا أحد هنا له شأنٌ بهذا السوق!
قالوا: هل هناك شيءٌ بلا حساب؟! عليك بدفع حساب كل ما أخذتَه من السوق!
فقلت لهم: إذن؛ أُرجع كلَّ شيء أخذتُه.
ردُّوا بتهكُّم وغِلْظة: وهل تتذكَّر كلَّ ما أخذتَ ومكانه، وما تمتَّعتَ به وتلذَّذت، ألم تقرأ اللافتاتِ المنتشرةَ في السوق المكتوبَ عليها: ما تأُخذه ستحاسب عليه، ولا سبيل للرجوع، فخذ ما ينفعُك فقط.
سُقِط في يدي... تذكرت كأني قرأتها ولكنني لم أهتمَّ بها، لم أكن أظن أنها تعنيني أنا!
اضطروني عَنْوةً للوقوف للحساب في طابور طويل مع من كنت أسابقهم!
- التصنيف:
- المصدر: