المعرفة الفكرية ليست كالمعرفة العلمية

منذ 2020-12-14

هل "المعرفة الفكرية النظرية" مثل الفلسفة والأدب والنفس والاجتماع... إلخ، تختلف عن "المعرفة العلمية التطبيقية" مثل علوم الحاسوب وتقنية المعلومات والفيزياء والكيمياء... إلخ؟

هل "المعرفة الفكرية النظرية" مثل الفلسفة والأدب والنفس والاجتماع... إلخ، تختلف عن "المعرفة العلمية التطبيقية" مثل علوم الحاسوب وتقنية المعلومات والفيزياء والكيمياء... إلخ؟ لو كانتا متشابهتين لَما أُطلق عليهما اسمين مختلفين، أليس كذلك؟ ولكن ما الذي يجعل هاتين المعرفتين مختلفتين؟ وهل معرفة الاختلاف بين هاتين المعرفتين ضرورية في حياة الإنسان المسلم؟ هذا ما يحاول هذا المقال الإجابة عنه.

 

كما يبدو من التقسيم نفسه لنوعي المعرفة الآنفي الذِّكر أن الاختلاف بينهما يَكمن في منطلقاتهما (أو أُسسهما): مُنطلق فكري نظري، ومنطلق علمي تطبيقي، تختلف المعرفة الفكرية النظرية عن المعرفة العلمية التطبيقية في أن الأُولى لا يُمكن فصلها عن منطلقاتها، بينما لا تؤثر منطلقات الثانية فيها كعلوم؛ لأنه يُمكن فصل منطلقاتها عنها؛ بمعنى أنه لا يمكن استخدام الأولى في بيئة أخرى كما هي بدون نقل رؤيتها التي نتجت عنها معها؛ أي: لا يُمكن الإضافة إليها من بيئات أخرى إلا مغالطة؛ لأنَّ المنطلقات الفكرية تَعتمد بالدرجة الأولى على إيمان واعتقاد، بغضِّ النظر عن كون ذلك الإيمان والاعتقاد مقبولًا أو غير مقبول للآخرين، بينما الثانية (المعرفة العِلميَّة التطبيقية) ليست خاصةً بمُجتمع دون آخر، ومظاهرها تفيد كل الإنسانية بلا استثناء أينما وُجدتْ، بغضِّ النَّظر عن بيئتها، يُمكن تنظيم وتبويب وفهرسة المعرفة الفكرية النظرية، وتُطلَق لفظة "علوم" عليها مجازًا، كما هو حاصل في مجال الدراسات الإنسانية والاجتماعية التي تُدعى علومًا إنسانية، ولكن لا ينبغي التصرف معها مثل التصرف مع العلوم التطبيقية فيما يتعلق بأسس المعلومة أو المعرفة؛ لأن أسس المعرفة الفكرية لها تأثير على الأفكار نفسها، وبالتالي على حياة الإنسان (والقصد الإنسان المسلم بالذات الذي نتكلَّم عنه هنا).

 

للأسف هناك من يتبنى الفكر الفلسفي الغربي الحديث (فكر الحداثة وما بعد الحداثة، اللذين يُشكلان منطلق المعرفة الفكرية الغربية) مِن بني جلدتنا، وتطبيقه على بيئتنا العربية الإسلامية بحجة الاستفادة من الغرب فيما وصلوا إليه، وذلك - في رأيي - من قبيل "كلمة حق يراد بها باطل"، نعم؛ صحيح نستفيد من العلوم العلمية التطبيقية، ولكن المعرفة الفكرية ليست بنفس حياد تلك العلوم حتى نأخذ الجميع دون تمييز؛ ففي الفكر الفلسفي الغربي لم تعد المعرفة في حد ذاتها مركز الثِّقل في العملية التعليمية والتدريبية الحديثة، بل مركز الثقل أصبح في "كيفية" التعامل مع المعرفة بعد تفجير مفهوم المعرفة نفسه؛ تمامًا مثل تحول الفكر الفلسفي من "التفكير في الإنسان والكون وخالقهما"، إلى "التفكير في كيفيَّة عمل جسم الإنسان وعمل الكون" فقط، بعيدًا عن الخالق سبحانه وتعالى؛ أي: لم يعد المهم معرفة ما إذا كانت معرفتك صائبة أم خاطئة؛ فمفهومَا "الصواب" و"الخطأ" لم يعد لهما معنًى في عالمِ أو فكر "ما بعد الحداثة"؛ لأنَّ هذَين المفهومين مرتبطان أصلًا بعملية التفكير والتفكر بالحق والحقيقة في هذه الحياة وتمييز ذلك عن الباطل، وليس في "كيفية" عمل الكون، لم يعد الصواب والخطأ له معنًى عند من تبنى ذاك الفكر حتى عندما يتعلق الأمر بالأمور الدينية، بل المهم في ذلك الفكر كيفية الحصول على المعرفة ومدى نفعها استخدامًا، بغضِّ النظر عن "ماهية" تلك المعرفة، وبهذه النظرة لم تعد المنطلقات ذات أهمية، المعرفة أصبحت مجرد معلومة أو معلومات أو بيانات data، بغضِّ النظر عن كونها صائبة أو خاطئة، إن قيمة المعلومة أصبحت في مدى تحقيقها لاحتياجات الشخص، لمتطلباته، لرغباته التي صنعها له الإعلام (ومِن خلفِه الفكر الفلسفي / التنظيري) الحديث، الذي أجاد إجادةً تامَّةً صنْع ذلك لتحقيق ما فغر له الإنسان فاهه وقلبه من المتطلبات التي تدغدغ هوى نفسه، ونسي أو تناسى أو حتى عطل مقدرات التفكير عنده في تلك المعلومات.

 

إذا تساءل إنسان ما أو مجموعة من الناس عن منطلقات المعرفة الفكرية أو المعلومات المتدفقة كالسيل الجارف، تجد كثيرًا من الناس ينظرون له وكأنه إنسان أبله لا يعي حاضره ومتطلباته؛ لأن المعرفة أو المعلومة بشكل عام (سواء فكرية أو تطبيقية) أصبحت أهم من أسسها؛ حيث لا قيمة للأسس طالما كانت ذات منفعة ولو وقتية فقط.

 

في الدراسات الجامعية العُليا مثلًا (والقصد بين الطلاب العرب والمسلمين خاصة)، يتم تلقي المعرفة الفكرية (الغربية غالبًا) في أقسام الدراسات الإنسانية والاجتماعية بدون التفكير والتفكُّر في منطلقاتها بحجة "البحث العلمي".

 

إذا سألت أحدًا في "علم" النفس - مثلًا - عن منطلق المعرفة في هذا "العلم"، فإنه يَندر أن تجد من يقول لك: إن منطلقها أساسًا هو "العقل اللاواعي" عند الإنسان (وليس الإنسان بعقله الواعي) كما نظَّر لذلك عالم النفس اليهودي سجموند فرويد، الذي عمل على خلخلة ما كان يُعتقد قبله، وفقًا لتنظيرات الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت القائل في عبارته المشهورة: "أنا أفكِّر، إذًا أنا موجود"؛ ليقصد - هذا الأخير - أن الإنسان هو منطلق المعرفة، ثم مع تحويل مجرى الفلسفة من مجرى فكريٍّ إلى مجرى لُغويٍّ مع العالم اللغوي السويسري "فرديناند دو سوسور"، أصبح "المجتمع" هو منطلق المعرفة عبر "اللغة"، وبذلك - في الدراسات الأكاديمية - أي قول يزعم غير ذلك، فهو "غير علمي"، في هذا الموضوع (أي: موضوع تطور الفكر الفلسفي الغربي من المجرى الفكري إلى المجرى اللغوي).

 

مثال آخر - في الدراسات الأدبية -: لا مجال لطلاب الدراسات العليا إلا أخذ منطلقات المعرفة الفكرية من مصادرها الغربية (النظريات الأدبية الغربية أو المتغربة) إلا من رحم الله، لتطبيقها في دراساتهم الأدبية، وإلا فلن يحصلوا على شهاداتهم العليا، تلك النظريات تستمدُّ محتواها من الفلسفات / التنظيرات الغربية (الحداثة وما بعدها)، ولا مجال للإسلام فيها أبدًا، إلا في حالة أن يتم النظر للإسلام من خلالها، وليس العكس، بمعنى أن تستخدم تلك النظريات كعدسات للنظر للإسلام، ولكن لا يمكن استخدام الإسلام كعدسة للنظر إليها.

 

قد يتساءل البعض قائلين: وماذا في ذلك؟ وماذا إذا عرفنا أو حتى لم نعرف أن منطلق المعرفة هو "العقل الواعي" (أي: الإنسان) أو "العقل غير الواعي" أو "المجتمع" أو "اللغة"، أو حتى غير ذلك؟ ما الذي يحدث أو سيحدث؟ أو ما الذي سيتغير؟ أو ما الضرر من ذلك؟

 

إجابةً أقول: الذي يحدث هو التالي:

أولًا: إذا لم نعلم تأثير المنطلقات الفكرية، فمعنى ذلك أننا نتبع بدون فهم ولا وعي ولا تفكير، وبهذا لا يكون هناك فرق بيننا وبين من يقول - كما يُخبرنا الله عز وجل عنهم -: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170]، وهنا يقول الحق تبارك وتعالى عنهم: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، فهل نقبل هذا على أنفسنا؟ إن قبلنا ذلك، فإننا - ونعوذ بالله أن نكون كذلك - نُدرج أنفسنا وما نعمل تحت باب: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت: 25]، كما يُخبرنا الله عز وجل على لسان إبراهيم عليه السلام حين قال لقومه: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}  [العنكبوت: 25]؛ أي: إنه مثلًا بإمكاننا - كما هو حاصل في جزء كبير من المجال الأكاديمي - أن نَستخدم منطلقات المعرفة الفكرية النظرية (النظريات) في النظر للأمور، أدبية أو غير ذلك، ونحصل على الشهادات والترقيات الأكاديمية، ونعيش حياتنا مع تلك النظريات تحت باب {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت: 25]، إلا إذا أدركنا خطأ ذلك من مُنطلق إسلامي، وعملنا ما وسعنا الجهد على تعديل خط السير.

 

ثانيًا: كون الإنسان مقتنعًا بأن منطلق المعرفة هو "العقل الواعي" أو "العقل اللاواعي" أو "المجتمع" أو غير ذلك، فمعنى ذلك أنه ينحي دينه الإسلامي جانبًا في الحياة في مجالات المعرفة الفكرية، أو حتى قصره على شعائر معينة مثل الصلاة والصيام وغيرها فقط.

 

منطلق المعرفة في الإسلام هو كلام الله (القرآن الكريم)، الذي جاء من خارج إطار هذه الدنيا كلها، لا مانع من أن الإنسان يبحث ويطلع على معرفة الآخرين وحتى مُنطلقاتهم، ولكن لا يجعلها منطلقًا يلغي المنطلق الإسلامي بأي حال، بل ينبغي أن ينظر لتلك المعرفة ومنطلقاتها على ضوء الأسس الإسلامية، وليس العكس، والله أعلم.

 

ثالثًا: تلك التنظيرات تحاول أن تقنع الإنسان بأن الجانب المادي من الحياة هو الأساس، بل ربما هو الوحيد في العملية الفكرية وناتجها (أي: المعرفة)؛ أي: إنه منه تبدأ عملية التفكير وإليه تنتهي، ولا شيء قبل ولا بعد ذلك، وهذا - بالنسبة للمسلم - إلغاء للإسلام بكامله من الحياة؛ أي: إنَّ الإسلام لا لزوم له، سواء وعَيْنا ذلك أم لم نعِه؟

 

رابعًا: مُنطلق المعرفة الفكرية هو المنبع الذي تستمدُّ منه المعرفة، والتي على أساسها تتشكَّل حياة الإنسان وفكره ووعيه، وبالتالي؛ فإنَّ عدم الانتباه لمنطلق المعرفة الفكرية يجعل الإنسان يتشرب المعرفة بلا وعي ولا إدراك لما يفعل، وهذا لا يقبله مسلم على نفسه حين يعيه ويدركه.

 

طبعًا هناك محاولات كثيرة من قِبَل مفكرين مسلمين للانطلاق فكريًّا من منطلق إسلامي في مجالات كثيرة تحت مُصطلحات مثل: "أسلمة المعرفة"، و"إسلامية الأدب"، و"الأدب الإسلامي" و"الاقتصاد الإسلامي" وغيرها، وهي جهود تستحقُّ الاعتبار تأملًا ودراسةً وتطبيقًا وإضافةً إليها، ربما نَتناول بعض هذه المحاولات في مقالات قادمة، بإذن الله.

 

باختصار: المعرفة الفكرية لها مُنطلقات تؤثِّر على إيمان الإنسان المسلم؛ لأنه يؤمن بأن هناك آخرة، ولا يريد أن تشوب إيمانَه بالله وباليوم الآخر منطلقاتٌ اعتقادية تُخالف ذلك، أو تقصر اعتقادَه على دنيا فقط باعتبارها المبتدأ والمنتهى، أما المعرفة التطبيقية، فهي - كما هو واضح من اسمها - لا تتعدَّى التطبيق العملي الذي ينفع الإنسان في معيشته وتحسين أسلوب حياته.

______________________________________

د. مطيع عبدالسلام عز الدين السروري

  • 0
  • 0
  • 2,494

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً