منهج أهل العلم في طلب العلم
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
كل عملٍ لا إخلاص فيه، فمصيرُه الزوال وعدم البركة؛ قال الإمام الربيع بن خيثم رحمه الله: كل ما لا يراد به وجهُ الله يَضْمَحِلُّ.
- التصنيفات: طلب العلم -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فلطلب العلم فوائدُ كثيرة، وفضائل عديدة، جاءت نصوصُ الكتاب والسُّنة ببيانها، وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه النافع "مفتاح دار السعادة" أكثر من مائة وخمسين وجهًا في فضل العلم، يقول رحمه الله: لو لم يكن في العلم إلا القرب من ربِّ العالمين، والالتحاق بعالم الملائكة، وصُحبة الملأ الأعلى - لكفى به شرفًا وفضلًا، فكيف وعز الدنيا والآخرة منوطٌ به، مشروط بحصوله؟!
وهذه بعض الفوائد انتقيتُها من تراجم وسِيَر أهل العلم, والتي تتعلق بمنهجهم في طلب العلم, أسأل الله أن ينفع بها كاتبَها وقارئها وناشرها إنه سميع مجيب.
لقد كان لأهل العلم منهجٌ سديد في طلب العلم، ومن أبرز معالم هذا المنهج:
إخلاص النية وإصلاح الطوية في طلب العلم:
كل عملٍ لا إخلاص فيه، فمصيرُه الزوال وعدم البركة؛ قال الإمام الربيع بن خيثم رحمه الله: كل ما لا يراد به وجهُ الله يَضْمَحِلُّ.
والإخلاص شديد على النفوس، قيل لسهل: أي شيء أشدُّ على النفس؟ قال: الإخلاص؛ إذ ليس لها فيه نصيبٌ.
أول العلم وأفضله: النية، قال الإمام ابن المبارك رحمه الله: أول العلم النية.
وقال الإمام سفيان رحمه الله: ما نعلم شيئًا أفضلَ من طلب العلم بنيَّةٍ.
ولهذا جاهَد أهل العلم أنفسهم لتحقيق الإخلاص في طلب العلم؛ قال الإمام الثوري رحمه الله: ما عالجتُ شيئًا أشدَّ عليَّ من نيَّتي إنها تتقَّلبُ عليَّ.
وقال الحسن: لقد طلب هذا العلم أقوام وما أرادوا به الله وما عنده، فما زال بهم حتى أرادوا به الله وما عنده.
وقال الإمام الدارقطني رحمه الله: طلبْنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله، وقال حبيب بن أبي ثابت رحمه الله طلبتُ الحديث ومالي فيه نيَّة،ثم إن النية جاءت من بعد.
ومن جاهد نفسه وأخلَص في طلب العلم، فليُبشر بكل خير؛ قال أبو موسى رحمه الله: إن الشافعي أراد الله تعالى بعلمه، فرفَعه الله.
وقال ابن الأنماطي رحمه الله: سمعتُ من حنبل بن عبدالله بن الفرج الواسطي جميع المسند ببغداد في نيفٍ وعشرين مجلسًا، ثم أخذتُ أُرغبهُ في الشام، وقلتُ له: إذا سافرتَ إليه، يحصلُ لك من الدنيا شيء، وتُقبلُ عليك وجوه الناس، فقال: دعني، فوالله ما أُسافر من أجلهم، ولا لما يحصل منهم، إنما أسافر خدمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أروى حديثه في بلد لا تُروى، قال ابن الأنماطي: ولما علِم الله تعالى نيَّته الصالحة، أقبل بوجوه الناس إليه، وحرَّك الهِمم للسماع عليه، فاجتمَع عليه جماعةٌ، ما اجتمعوا بمجلس دمشق، وازدَحم عليه الخلق، وسمِع منه الملك، وأقاربُه.
قال أبو يوسف رحمه الله: يا قوم أَريدوا بعملكم الله، فإني لم أجلس مجلسًا أنوي فيه أن أتواضَع، إلا لم أقم حتى أَعلوهم، ولم أجلس مجلسًا أنوى فيه أن أعلوهم، إلا لم أقُم حتى أفتضح.
طلب العلم على العلماء الراسخين:
من أهم الأمور التي ينبغي العناية بها في طلب العلم أن يُطلب من أهله العالمين العاملين، الفقهاء الراسخين، قال خالد بن خراش رحمه الله: قلتُ لمالك: أوصني، قال: عليك بتقوى الله وطلب العلم عند أهله.
وأهله هم: العلماء الراسخون فيه، العاملون به، الداعون إليه، الصابرون على ما يلاقون فيه، الذين أورثهم علمُهم خشيةً من الله جل جلاله.
طلب العلم في الصغر وإقبال العمر:
طلب العلم في بداية العمر وسن الشباب، أفضل من طلبه في زمن الشيبة.
قال أبو بكر الحافظ رحمه الله: التفقه في زمن الشبيبة وإقبال العمر، يَرسخ في القلب، ويَثبُت، ويتمكَّن ويَستحكم، فيحصل الانتفاع به والبركة، إذا صحِبَه مِن الله حُسنُ التوفيق.
وقال الإمام الحسن رحمه الله: التعلم في الصغر كالنقش على الحجر.
وقال علقمة رحمه الله: ما حفِظت وأنا شاب فكأني أنظر إليه في قرطاس أو رقعة.
وقال الإمام معمر بن راشد رحمه الله: سمعتُ من قتادة ولي أربع عشرة سنة فما سمِعته إذ ذاك كأنه مكتوب في صدري.
ومن يقرأ في تراجِم وسير أهل العلم، يلحَظ أنهم طلبوا العلم وهم صغار السن.
قال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله: قرأتُ القرآن وأنا ابن أربع سنين، وكتبتُ الحديث وأنا ابن سبع سنين، وقال: أتيتُ الزهري وفي أذني قرط ولي ذؤابة، فلما رآني جعل يقول واسنينه، واسنينه، ما رأيتُ طالب علم أصغر من هذا!
ولا يعني هذا أن مَن فاته طلب العلم في الصغر ألا يَطلبه وهو كبير السن؛ قال الإمام البخاري في كتاب العلم "قد تعلَّم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كِبر سنِّهم".
وقد طلب العلم أئمة وهم كبار في السن منهم: الإمام الكسائي رحمه الله.
والإمام ابن حزم رحمه الله، طلب العلم بعد أن تجاوز الخامسة والعشرين من العمر.
وخالد بن عبدالله الأزهري رحمه الله، (ت 905) طلب العلم وهو ابن ست وثلاثين.
الإمام العز بن عبدالسلام رحمه الله، أحمد بن علي بن محسن القاسم الصنعاني رحمه الله ( ت 1223)، أنه اشتغل بطلب العلم بعد أن قارب الخمسين من عمره.
الحفظ:
لا يوجد طالب علم لا يحفظ، فالحفظ ركيزة أساسية في طلب العلم.
قال الأصمعي رحمه الله: كل علم لا يدخل مع صاحبه الحمام، فلا تَعده علمًا.
وقال المُزرع العبدي رحمه الله: ليس العلم ما حواه القِمَطْرُ إنما العلم ما حواه الصَّدر.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: إن الذي لا يحفظ المتون ليس بطالب علمٍ، بل هو مستمع.
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين: لم يبقَ معنا شيءٌ إلا ما حفِظناه في الصِّغر.
وحفظ القرآن الكريم أول ما ينبغي أن يحفظه طالب العلم.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل، إذ كان أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم.
وقال الإمام ابن أبي حاتم رحمه الله: لم يَدَعْني أبي أشتغل في الحديث حتى قرأت القرآن.
قال عبدالملك الميموني: سألت أحمد بن حنبل: أيما أحبُّ إليك أبدأ ابني بالقرآن أو الحديث؟ قال: بالقرآن القرآن قلتُ أعلمه كُلَّه؟ قال إلا أن يعسر عليه، فتُعلِّمه منه
ولأهمية حفظ القرآن الكريم، فقد كان العلماء يطلبون من طالب العلم أن يحفظ القرآن قبل أن يبدأ بطلب العلم.
قال الوليد بن مسلم رحمه الله: كنا إذا جالسنا الأوزاعي، فرأى فينا حدثًا قال: يا غلام قرأت القرآن؟ فإن قال: نعم، قال: اقرأ: ﴿ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } ﴾ [النساء: 11]، وإن قال: لا، قال: اذهب تعلَّم القرآن قبل أن تطلب العلم.
وحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة أدعى لثباته ودوامه، ولذا حرَص أهل العلم على حفظه وهم صغار في السن، وسأقتصر على ذكر أبرز من حفظوه وهم أبناء عشر سنين فأقل، فممن حفظه وعمره خمس سنين: عبدالله محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان رحمه الله، وممن حفظه وهو ابن سبع سنين: الإمام الشافعي، والإمام الطبري، والإمام البلقيني، والإمام الفيروزباذي صاحب القاموس رحمهم الله.
وممن حفظه وهو ابن ثمان سنين: الحافظ العراقي رحمه الله.
وممن حفظه وهو ابن تسع سنين: الإمام ابن العربي، والإمام أبي شامة، والشيخ عبدالظاهر أبو السمح، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ، والشيخ أبو الوفاء محمد درويش، والشيخ إحسان إلهي ظهير رحمهم الله.
وممن حفظه وهو ابن عشر سنين: الإمام خلف بن هشام، والإمام محمد بن عبدالوهاب، والشيخ صالح عثمان القاضي، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ عمر بن حسن آل الشيخ، والشيخ عبدالله يوسف الوابل رحمهم الله.
أمَّا من حفظ القرآن الكريم بعد العاشرة ودون البلوغ فكثيرون، يصعب عدُّهم وحصرهم.
وقد منَّ الله جل جلاله على بعض أهل العلم، فحفظوا القرآن الكريم أو أجزاءً منه في مدة قصيرة، منهم: الإمام الزهري رحمه الله الذي حفظ القرآن الكريم في ثمانين ليلة.
والشيخ عمر بن محمد بن عبدالله بن حمد بن صالح بن حمد بن محمد بن سليم رحمه الله كان آية في الحفظ والذكاء، فقد حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلبٍ في شهر واحد، والشيخ حماد جار الله الحماد رحمه الله حفظ القرآن الكريم في شهر واحد.
والشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري رحمه الله، كان يحفظ سبعة أجزاء من القرآن، فحبس نفسه (21) يومًا، لا يخرج إلا لأداء الصلاة في جماعة المسجد أو قضاء الحاجة، فحفظ القرآن، والإمام محمد بن أحمد اليونيني رحمه الله حفظ سورة الأنعام في يوم واحد، والحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله حفظ سورة مريم في يوم واحد، والشيخ عبدالله ابن الإمام ابن القيم رحمهما الله حفظ سورة الأعراف في يومين، والشيخ حمد الفهد حفِظ سورة الأعراف من بعد صلاة العصر إلى أذان المغرب، ومع حفظهم فقد كانوا يَضبطون ما يحفظون من القرآن الكريم، قال الشيخ حمد الفهد عن الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: لا أذكر مرةً خلال ثمانية عشرة سنة قضيتها معه أنه قد ردَّ عليه أحدٌ أثناء قراءته للقرآن في المسجد أثناء الصلاة.
ويقول الشيخ طارق الخويطر عن الشيخ صالح بن علي الغصون رحمه الله: أنه يقرأ القرآن كاملًا بدون خطأ وأحيانًا بخطأ واحدٍ.
وبعد حفظ القرآن الكريم، كان أهل العلم يهتمون بحفظ السنة النبوية، قال الخطيب البغدادي رحمه الله: ثم الذي يتلو القرآن من العلوم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه؛ إذ كانت أُسَّ الشريعة وقاعدتها؛ قال جل جلاله: ﴿ { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } ﴾ [الحشر: 7]، وقال عز وجل: ﴿ {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ﴾ [النساء: 80]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ﴾ [النجم: 3]، وقد حفظ الإمام الشافعي رحمه الله الموطأ للإمام مالك وهو ابن عشر سنين، والفقيه العباس عيسى المسمى رحمه الله حفِظ الموطأ وهو ابن خمس عشرة سنة.
تعاهد ما حفِظوه وتعَّلموه بالتَّكرار والمراجعة:
لكي يَثبُت العلم فلا بدَّ له من تعاهُده بالمراجعة؛ قال الإمام الزهري رحمه الله: إنما يُذهب العلمَ النسيانُ، وترك المذاكرة، وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: ينبغي لطالب العلم أن يكون جلُّ هِمته مصروفًا إلى الحفظ والإعادة.
ولهذا كان أهل العلم يراجعون ما حفظوه وتعلَّموه، فالشيخ عبدالملك إبراهيم آل الشيخ رحمه الله كان يراجع القرآن الكريم كل ثلاثة أيام مرة، والشيخ علي عبدالله جابر رحمه الله كان يراجع كل يوم جزءًا من القرآن، وفي شهر شعبان يراجع ثلاثة أجزاء، ولم يترك ذلك لا في سفر ولا في حضر ولا في مرض.
والإمام إبراهيم الفيروزآبادي رحمه الله يقول: كنتُ أُعيد الدرس مائة مرة.
والشيخ الحسن النيسابوري رحمه الله يقول: لا يحصل الحفظُ لي حتى يعاد خمسين مرة، والإمام الكيا رحمه الله كان يعيد الدرس سبعين مرة.
الجد والمثابرة في طلب العلم:
لقد كان حملةُ العلم جادين مثابرين في طلبهم للعلم؛ لأنهم يعلمون أن عاقبة ذلك الترقي في درجات العلم؛ قال ابن الجوزي رحمه الله: لقد كنتُ في حلاوة طلبي العلمَ ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو.
وقال ثعلب رحمه الله: ما فقدتُ إبراهيم الحربي من مجلس لغة أو نحوٍ من خمسين سنة
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: كنتُ في كتاب الحيض تسع سنين حتى فهِمته، وقال الخطيب رحمه الله: قد كان خلق من طلبة بالبصرة في زمن علي بن المديني يأخذون مواضعهم في مجلسه في ليلة الإملاء، ويبيتون هناك حرصًا على السماع، وتخوفًا من الفوات، والإمام النووي رحمه الله كان يقرأ كلَّ يوم اثني عشر درسًا.
ترك ما تشتهيه النفس من أجل طلب العلم:
شيخ الأندلس يحيى بن كثير، كان يومًا عند مالك، فقدَّم فيلًا، وخرج الناس ينظرون إليه، ولم يخرُج، فقال له مالك: لم لا تخرج تنظره، فإنه ليس ببلدك فيل؟ فقال: إنما جئتُ من بلدي لأنظر إليك، وأتعلم هديك، وعلمك، فقال له: أنت عاقل الأندلس.
والحافظ أبو العلاء الهمذاني رحمه الله، باع جميع ما ورثه، وكان من أبناء الدنيا التجار، فأنفَقه في طلب العلم حتى سافر إلى بغداد وأصبهان مرات ماشيًا يحمل كتبه على ظهره, وقال أحدهم: بقيت سنتين أشتهي الهريسة لم آكلها؛ لأن وقت بيعها وقتُ سماع الدرس.
والشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك رحمه الله، اشترى أرضًا وزرعها واستصلَحها، ثم تراجع عن هذا، وخاف أن تصدَّه عن همته العالية في نشر العلم، فقام بإهدائها لصاحبها دون مقابلٍ.
توقيرهم واحترامهم لشيوخهم:
لقد كان أهل العلم يحترمون ويوقِّرون مشايخهم في العلم، وقد تجلَّى ذلك في صور عديدة، منها:
محبتهم العظيمة لشيوخهم :
فالإمام ابن القيم غلبت عليه محبةُ شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله، والإمام الهيثمي غلبت عليه محبة شيخه الحافظ العراقي رحمهما الله، والإمام السخاوي غلبت عليه محبة شيخه الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمهما الله، والشيخ حسن بن عبداللطيف بن محمد المانع رحمه الله، تأثَّر بشيخه الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وأحبَّهُ حبًّا جمًّا خالَط شغاف قلبه، حتى إنه يسميه والدي.
والعلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز أحبَّ شيخه العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمهما الله وكان يبكي كثيرًا إذا تكلم عنه بل كان لا يستطيع مواصلة الكلام عنه
والعلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين أحبَّ شيخه العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمهما الله، حتى إنه قلده في خطه لفَرْطِ محبته له.
ومنها: احترامهم لشيوخهم:
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لخلف الأحمر: لا أقعد إلا بين يديك، أُمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه، وكان يتواضع للشيوخ.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: كنتُ أصفح الورقة بين يدي مالك صفحًا رقيقًا هيبةً له؛ لئلا يَسْمَعَ وقْعَها.
وقال الربيع رحمه الله: والله ما اجترأتُ أن أشرب الماء والشافعي ينظُر إليَّ هيبةً له.
والإمام النووي يتأدب مع شيخه عمر بن أسعد بن أبي غالب رحمهما الله، ربما قام وملأ الإبريق ومشى به قدَّامه إلى الطهارة.
والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ كان إذا أتاه الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع رحمهما الله، قام له ورحَّب به، وأجلسه مكانه.
والشيخ عمر بن محمد السبيل رحمه الله، حين حفظ نصف القرآن الكريم، وحصل على الجائزة (1000) ريال وهو صغير السن، تسلَّم الجائزة، وسلَّمها فورًا لشيخه محمد أكبر شاه، وأصرَّ على ذلك بحجة أنَّ المستحق الحقيقي لهذه الجائزة شيخه.
ومنها: الدعاء لشيوخهم:
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: ما بتُّ منذ ثلاثين إلا وأنا أدعو الله للشافعي وأستغفر له، وقال: ستة أدعو لهم في السحر أحدهم الشافعي.
وقال الإمام عبدالرحمن بن مهدي رحمه الله: ما أُصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها، وقال الإمام يحيى بن سعيد رحمه الله: أنا أدعو الله للشافعي في صلاتي منذ أربعين سنة.
وقال الإمام السبكي عن شيخه الإمام الذهبي رحمهما الله: جزاه الله عنا أفضل الجزاء، وجعل حظَّه مِن غرفات الجنان متوفر الأجزاء.
والشيخ حسن بن عبداللطيف بن محمد المانع رحمه الله كان يكثر من الدعاء لشيخه الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ والترحم عليه كثيرًا.
والشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله كثيرًا ما دعا لأشياخه.
ومنها: الثناء على شيوخهم:
قال الإمام ابن الجزري عن شيخه إبراهيم الحموي : لم تر عيناي من شيوخي أعلم بالتجويد منه ولا أصح تلفظًا وتحريرًا رحمه الله وجزاه عني أفضل الجزاء
والشيخ حمود بن عبدالله بن حمود بن ربيعة التويجري كان يترحَّم على شيخه عبدالله العنقري رحمهما الله كلما ذكره، ويُكثر من الثناء عليه.
والشيخ محمد المطوع كان يُكثر الثناء على شيخه عبدالله العنقري رحمهما الله.
والشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن سبيل كان كثير الثناء على شيخه عبدالرحمن السعدي رحمهما الله، كلما ذكره دعا له وترحَّم عليه.
كثرة شيوخهم وملازمتهم لمدة طويلة:
أخذ العلم عن الشيوخ المنهج الصحيح لتحصيل العلم، فمن طلَب العلم من الكتب فاته خيرٌ كثير، فهناك فنون لا يمكن فَهمها إلا عن طريق الشيوخ، وهناك آداب لا يتعلمها الطالب إلا في مجالس العلم، والموفَّق من أخَذ العلم من الشيوخ
الذين يتبعون طريقه السلف، والقارئ لسير أهل العلم يرى كثرة عدد شيوخهم.
ومن أسباب كثرة الشيوخ الرحلة في طلب العلم، فالحافظ الوليد بن بكر بن مخلد رحمه الله لقي في رحلته فيما ذكر أزيد من ألف شيخ.
ومن أبرز أهل العلم الذين أخذوا العلم عن شيوخ كثيرين:
الإمام أبو سعد عبدالكريم السمعاني رحمه الله عدد شيوخه سبعة آلاف شيخ.
والإمام ابن النجار رحمه الله عدد شيوخه ثلاثة آلاف شيخ.
والحافظ ابن حبان البستي رحمه الله عدد شيوخه أكثر من ألفي شيخ.
والإمام الذهبي رحمه الله عدد شيوخه يربون على الألف شيخ.
والإمام ابن منده الأصبهاني رحمه الله عدد شيوخه ألف وسبعمائة شيخ.
والحافظ ابن عساكر رحمه الله عدد شيوخه ألف وثلاثمائة شيخ.
والإمام البخاري رحمه الله كتب عن ألف شيخ وثمانين.
والإمام المزي رحمه الله عدد شيوخه نحو ألف شيخ.
ومع كثرة شيوخهم فقد كانوا يلازمونهم مدةً طويلة:
فممن لازم شيخه ثلاثين عامًا:
الإمام ابن الجوزي مع شيخه الإمام السلامي رحمهما.
وممن لازم شيخه مدة تزيد على خمس وعشرين سنة:
الشيخ حمود التويجري مع شيخه عبدالله العنقري رحمهما الله.
والشيخ محمد بن قاسم مع شيخه محمد بن إبراهيم رحمهما الله.
وممن لازم شيخه قريبًا من عشرين عامًا:
الشيخ عبدالله الجبرين مع شيخه عبدالعزيز الشثري رحمهما الله.
والشيخ عبدالله العقيل مع شيخه عبدالرحمن السعدي رحمهما الله.
والإمام أبو حنيفة مع شيخه حماد رحمهما الله.
والشيخ عبدالعزيز السلمان مع شيخه الشيخ السعدي رحمهما الله.
والإمام ابن القيم مع شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله.
والشيخ عبدالرحمن بن سحمان مع شيخه حمد بن عتيق رحمهما الله.
وممن لازم شيخه قريبًا من خمسة عشر عامًا:
الشيخ عبدالله بن زاحم مع الشيخ عبدالله العنقري رحمهما الله.
والإمام الشوكاني مع شيخه الشيخ أحمد محمد الحرازي رحمهما الله.
والشيخ سليمان بن حمدان مع شيخه عبدالله العنقري رحمهما الله.
والشيخ حسن المانع مع شيخه الشيخ محمد بن إبراهيم رحمهما الله.
وممن لازم شيخه عشرة أعوام:
الإمام ابن عبدالهادي مع شيخه المزي رحمهما الله.
والحافظ ابن حجر العسقلاني مع شيخه الحافظ العراقي رحمهما الله.
والشيخ عبدالعزيز بن باز مع شيخه محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمهما الله.
والشيخ بكر أبو زيد مع شيخه محمد الأمين الشنقيطي رحمهما الله.
الرحلة في طلب العلم:
الرحلة في طلب العلم من أبرز معالم منهج أهل العلم في طلب العلم، ومما تميَّزت به تلك الرحلة أنهم كانوا يرحلون لأكثر من بلد، ومن البلدان التي رحلوا إليها:
مكة، والمدينة، والبصرة، والكوفة، والشام، ومصر، واليمن، وخراسان، وبخارى، وأصبهان، والأحساء، والهند، وبعلبك، وطرابلس.
وممن طالت رحلتهم في طلب العلم:
الحافظ ابن منده رحمه الله بقي في الرحلة بضع وثلاثين سنة.
والحافظ أبو طاهر السلفي رحمه الله بقي في الرحلة بضع عشرة سنة.
والإمام ابن النجار رحمه الله: قال ابن السباعي: كانت رحلته سبع وعشرين سنة، والإمام عبدالملك بن محمد بكر السعدي رحمه الله أقام في رحلته بضعة عشر عامًا.
قال الإمام أبو حاتم محمد إدريس الرازي رحمه الله: أول ما رحلت أقمتُ سبع سنين
وقد واجهوا في هذه الرحلات الشدائد والمصاعب:
فالحافظ عبدالله بن عبدالغني المقدسي رحمه الله رحل ومشِي على رجليه كثيرًا، قال عمر بن الحاجب: سمعتُ الضياء يصف ما قاسى من الشدائد والجوع في رحلته.
والحافظ أبو حاتم الرازي يقول: أول ما رحلتُ, مشيتُ على قدمي زيادةً على ألف فرسخ وخرجتُ من البحرين إلى مصر ثم إلى الرملة ثم إلى طرسوس ماشيًا.
والحافظ عبدالقادر الرُّهاوي رحمه الله رحل إلى الشام ومصر والجزيرة والعراق وأصبهان، وأكثر سفره في طلب العلم والحديث، كان على قدميه.
والشيخ سعد بن حمد بن عتيق رحمه الله سافر إلى بلد الهند طلبًا للعلم، فتارة يسير مع رُكبان الإبل ومرة مع المشاة على الأقدام، ومرة أُخرى مع ركبان السفن.
أُنسهم وسرورهم بطلب العلم:
من أحبَّ شيئًا سُرَّ به وقد كان أُنس وسرور أهل العلم في طلب العلم، قيل للإمام الشافعي رحمه الله: كيف شهوتك للعلم؟ قال: أسمع بالحرف مما لم أسمَعه، فتود أعضائي أن لها أسماعًا تنعم به ما تنعَّمت به الأذنان، فقيل له: كيف حرصُك عليه؟ قال: حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته للمال.
والإمام أحمد بن محمد البرقاني رحمه الله كان حريصًا على العلم منصرف الهمة إليه.
والإمام إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الحراني رحمه الله ليس له كلام في غير العلم.
والإمام أبو عبدلله المروزي رحمه الله جالسه أبو محمد الثقفي أربع سنين، فلم يسمعه طول تلك المدة يتكلم في غير العلم.
والحافظ أبو نعيم أحمد الأصبهاني رحمه الله لم يكن له غذاء سوى التسميع والتصنيف.
والإمام أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري رحمه الله، اشترى جارية وكان يبحث في مسألة، فاشتغل قلبه بالجارية عن المسألة، فأمَر ببيعها، فلما سألته عن سبب بيعها، قال: ما لك عندي عيب غير أنك شغلتني عن علمي، ولما عَلِمَ الخليفة الراضي قال: لا ينبغي أن يكون العلم في قلب أحد أحلى منه في صدر هذا الرجل.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال عنه الحافظ الذهبي: لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه والعمل بمقتضاه.
والإمام علي الأشعري رحمه الله، كان لذته ولَهوه وتنزهه في مذاكرة العلم، وطلب الفائدة من أي نوع كان.
والشيخ عبدالعزيز بن عبدالله باز رحمه الله، كان يقول: الدروس أحبُّ شيء إلى نفسي.
سؤال الله جل جلاله العلمَ النافع:
العلماء الربانيون بعد أن يَبذلوا الأسباب في طلب العلم التي سبق ذكرها، يسألون الله أن يرزقهم العلم النافع؛ لأنهم يعلمون أنهم لا غنى لهم عن خالقهم وربهم الكريم؛ سُئل الإمام ابن خزيمة رحمه الله: من أين أُوتيت العلم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ماء زمزم لِما شُرِب له))، وإنِّي لَمَّا شرِبتُ ماء زمزم سألتُ الله علمًا نافعًا!
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: ربما طالعتُ في تفسير الآية الواحدة مائة تفسير، فلا أفهَمها، ثم أسال الله الفَهم وأقول: يا معلِّم آدم وإبراهيم، علِّمني.
والإمام الشوكاني يقول: سألت الله أن يفتح عليَّ ما يتميَّزُ لي به الراجح من المرجوح.
الاستمرار في طلب العلم وتعليمه حتى الموت:
قيل لابن المبارك رحمه الله: إلى متى تطلب العلم؟ قال: أرجو أن تَرَوْني فيه إلى أن أموت، وقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله: إني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشدَّ مما كنتُ أجده وأنا ابن عشرين سنة.
قال أبو بكر الخلال: قلتُ لأحمد بن حنبل: إلى متى يكتب الرجل؟ قال: حتى يموت.
وجاء في ترجمة الإمام محمد بن عبدالله بن محمد الأدوني أنه كان حريصًا على طلب العلم راغبًا في نشره، لم يترك طلبه إلى آخر عمره، وما خرج من بيته إلا والدفتر في كمِّه.
والحافظ أبو طاهر السِّلفي رحمه الله حدَّث ليلة موته.
والشيخ عبدالرحمن الحصين رحمه الله كان يذهب إلى حِلَق العلم وعُمُرُه ثمانون عامًا.
والشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، حُمل من المستشفى بمدينة جدة، وهو في شدة المرض وألقى كلمة في المسجد الحرام بمكة.