طِب نَفْسًا

منذ 2020-12-23

والإنسان الكبير الذي يتسع قبله للكبير والصَّغير، يتسع قلبه للخلاف معه، يتسع قلبه عند التعدي عليه في حين يمتلك هو القدرة على الرَّد

 

من أبجدية السعادة الزوجية: طِب نَفْسًا

    إن من أعظم ما يمُن الله به على الإنسَان نفسًا صَافية لا تعرف إلا النَّقاء، ولم تمارس إلا الحبّ للآخرين، فالقلب النظيف الذي لا يعرف الحقْد والغِل والحسَد، بل هو يفيضُ بالحبِّ من كل جوانبه مِنَّةً من الله ونعمة بالغة لا يعرف قدرها إلا الصادقون مع أنفسهم، بل إن الإنَسان ليبلغ بصَفاء القلبِ ما لا يبلغه الإنسَان بصلاته وصيامه وقيامه.

     ولعل ما روي عن أنسٍ بن مالك - رضي الله عنه- قال: « كنَّا جلوسًا مع الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنَّة، فطلع رجل من الأنصار، تَنْطِفُ لحيته من وضوئه، قد تَعَلَّق نَعْلَيه في يده الشِّمال، فلمَّا كان الغد، قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك، فطلع ذلك الرَّجل مثل المرَّة الأولى، فلمَّا كان اليوم الثَّالث قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم- مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرَّجل على مثل حاله الأولى، فلمَّا قام النَّبي -صلى الله عليه وسلم- تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: إنِّي لَاحَيْت أبي فأقسمت ألَّا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تُـؤْوِيَني إليك حتَّى تمضي، فَعلتَ. فقال: نعم. قال أنس: وكان عبد الله يحدِّث أنَّه بات معه تلك الليالي الثَّلاث، فلم يره يقوم من اللَّيل شيئًا، غير أنَّه إذا تعارَّ وتقلَّب على فراشه، ذَكَر الله -عزَّ وجلَّ- وكبَّر حتَّى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أنِّي لم أسمعه يقول إلَّا خيرًا. فلمَّا مضت الثَّلاث ليال، وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، إنِّي لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هَجْرٌ، ولكن سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ثلاث مِرَار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنَّة، فطلعت أنت الثَّلاث مِرَار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك، فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عملٍ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أنِّي لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غِشًّا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق» .

     والإنسان الكَبير هو من يملك قلبًا كبيرًا يتسع لجميع الخَلْق على تنوع أجناسهم، ولجميع المِلَل على اختلافها، ولجميع الأخلاق على اختلاف أشكالها، والإنسان الكبير الذي يتسع قبله للكبير والصَّغير، يتسع قلبه للخلاف معه، يتسع قلبه عند التعدي عليه في حين يمتلك هو القدرة على الرَّد، ولذلك كان النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو القدوة والمثل الأعلى نموذجًا في صفاء النفس وطهَارة القلب وسلامة الصَّدر مع الغير حتى وإن كان من غير المسلمين، فكم أُوذِي من أبي لهبٍ وزوجته، وكمْ رأي من عبد الله بن أُبّي بن سَلول الكثير والكثير، وكم مرة تم اتهامه – وهو الصَّادق الأمين – بالسِّحر والكَهانة وغيرها ... ولذا فإن الجِيل الذي ربَّاه النبي – صلى الله عليه وسلم - على سلامَة الصَّدر ونقاء السَّريرة جيلٌ فريدٌ قما يجود الزمان بمثله، ومع ذلك فهم القُدوات والمثلُ العُليا، فعن زيد بن أسلم أنَّه دخل على ابن أبي دُجانة، وهو مَريض، وكان وجْهه يتهلَّل، فقال له: ما لك يتهلَّل وجهك؟ قال: ما من عملِ شيءٍ أوثق عندي من اثنين: أمَّا أحدهما، فكنت لا أتكلَّم بما لا يعنيني، وأما الأُخْرى: فكان قلبي للمسلمين سليمًا".

    وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم- حريصًا على أن يربي هذا الجيل على سلامة الصدر وطيب النفس، فعن عبد الله بن مسْعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: " «لا يُبَلِّغُنِي أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سَلِيم الصَّدر» " 

    وأهل بيتك وأبناؤك هم أولى الناس بهذا الصفاء وطيب النفس وسلامة الصدر، والأسرة السعيدة هي التي تقوم على هذا الصفاء، صفاء في الحب والعطاء، صفاء في حسن الظن، صفاء في التماس الأعذار، صفاء في التوجيه والنصح والإرشاد، ولك أن تتخيل لو ساد سوء الظن وخبث النفس، والمن في كل عطية داخل الأسرة، فلا الزوج يمتلك قلبًا طيبًا ولا الزوجة تبادله قلبًا بقلب وحبًا بحب، أي قطعة من جهنم يكون هذا البيْت وهذه الأسرة، لكنَّ البيت الَّسعيد هو من يملأ الحبُّ جوانبه، وترعاه النفسُ الطيبة، نظيفًا لا يعرف إلا الحب، جوادًا لا يجيد إلا العَطاء والبذل، من طيب نفسه وسلامة صدره يدعو لهم وينسى نفسه، يحرم نفسه من ملذاتها ليقدمها لهم، يبرر لهم الخطأ قبل أن يعتذروا، ويلتمس لهم الأعذار قبل أن يعاتبهم، يحبهم أكثر من ذاته، يسعى على سعادتهم قبل سعادته، يتعهدهم بالتوجيه والنصح بنفس محبة عطوفة مشفقة، تنشأ الأسرة حينئذ طيبةَ القلب محبة للآخرين، يتحقق فيهم ما رواه عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: «قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النَّاس أفضل؟ قال: كلُّ مَخْموم القلب، صدوق اللِّسان. قالوا: صدوق اللِّسان نعرفه، فما مَخْموم القلب؟ قال: هو النَّقيُّ التَّقيُّ، لا إثم عليه، ولا بَغْي ولا غلٌّ ولا حسد» "

    ولقد عرفت بعض الأسر لا يبيت فيها الزوجان ليلة واحدة وأحدها يجِدُ في نفسه على الآخر، فإن لم يبادر أحدهما بالحوار مع الآخر سارع هو للحديث معه، فيتجاذبان أطراف الحديث، فتزول الموجدة، وتصفو النفوس، ويخنس الشيطان، ولقد عهد أناسًا يغرسون في أبنائهم شيمًا نبيلة وأخلاقًا سامية، فينشأ الواحد منهم وقلبه كما الثلج نقاءً وصفاءً، ولعل هذه الصفة من أبر الصفات التي ذكرها الله تعالى – لأهل الجنة، وميزهم بها، قال الله تعالى: "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ" ذكر ابن كثير في تفسيره: روى القاسم ، عن أبي أمامة قال : يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن ، حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غل ، ثم قرأ" :  {ونزعنا ما في صدورهم من غل } " فتعاهد زرعك واغرس في أهل بيتك محبة الناس وربهم على صفاء قلوبهم حينها يسعدون وتسعد أنت معهم، وينشأ الواحد منهم يحب الآخر ويتكيف مع المجتمع، وتهنأ وتهنأ أسرتك بأكملها وتتحقق السعادة الزوجية.
 

  • 9
  • 1
  • 1,929

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً