قوة الإيمان سر تحمل مرارة الفقدان
الإيمان طاقة تمد المرء بالنشاط الدنيوي وكذلك تهيئه للقاء الأخروي وتعين المرء على الاستمرار في هذه الحياة وتحمل دورانها وتقلباتها، وعلوها ودنوها، وأهم لذة تجدها عندما تفقد حبيبًا وعزيزا فترى الإيمان يمدك بقوة لا تستطيع وصفها التي نسميها الرضا بما حصل وتحمل ما وقع.
وتبقى الجبال بعدنا والمصانع كلمات استفتح بها لبيد قصيدته التي ترسم صورة الحياة ونهايتها وبقاء الجبال وأماكن تجمع المياه بعدنا، وكثرة دورانها بنا وأننا كلنا وديعة عائدة إلى صاحبها.
فكم هي رحلة قاسية وجميلة هذه الحياة، جميلةٌ بوجود من حولك من أصوات يتوافدون إلى هذه الحياة فيصنعون لوحةً تُسمّى الأحبة من أب وولد وبنت وأخ وصديق، هكذا هو المجتمع الإنساني الذي يشكِّل لنا ما يُسمى بالحياة بكل مفاتنها وبهرجتها كل ما فيها يكون ذا قيمةٍ مع وجود هؤلاء الناس الذين يكوِّنون لكلّ فردٍ قائمةً من الأحبة بهم يعلو صوت روحه وبهم يكون للحياة معنى.
ولكن كلما فقَدَ واحدًا من هؤلاء الأحبة انهدم ركنٌ من أركان جمال دنياه وباتتِ الحياة بعده كأنها وهمٌ ما كان ولا حصل ولا رأى نورًا ولا طلعت عليه شمس. فمع فقد أحد الأحبة يظن المرء أنّه لن يقوى على الاستمرار، ولا يمكنُ أن يلفت عينه شيءٌ من مفاتن الحياة وأنّ بهجتها آيلةٌ إلى الشحوب وتفاؤلها مائل إلى الاكتئاب.
فما معنى الحياة بدون حبيب تألفه روحك، والحبيب لا ينحصر بالأنثى والعشيقة، بل هو كلّ من ترى روحَكَ ترقص فرحًا برؤيته وعقلك يستثمر كلّ قواه لإسعاده.
وتفاجأ بأنّ منشئ الكون يمدّك بطاقة الرضا التي ما لامست قلب امرئٍ إلا أنارته ولا فارقته إلا أصبح قاحلًا لا يقوى على الاستمرار.
إذن في فقد الأحبة لا بدّ من قوةٍ تفوق حدود الدنيا وهذه القوة لا يمكن تخيلها ولا يمكن وصفها يلمحها المصاب في أحواله التي تتبدّلُ بعد فقد عزيزٍ، فلا شك أنه قبل فقده كان يظنّ أنه لو فارقه فإنه سيفارقه عقله وربما يبادر إلى الانتحار.
وإذ به يعيش الفقد ويتذوّق مرارته، ولكن لا يدري ما هو السر وراء تحمله وتقبلّه لهذا المصاب الجلل إنها هي القوة التي لا يمكن وصفها إنها النور الذي يُقذف في القلب نتيجةً للإيمان بخالق لهذا الكون، فلو لم تكن من نتيجة للإيمان سوى تحصيل هذه القوة على تحمل الأرزاء لكفته أهميةً وقيمة في الحياة.
هكذا تتجلى لنا ضرورةُ الإيمان فلا شك أنّ الإيمان له القيمة الكبرى في الحياة التالية لهذه الرحلة الدنيوية، ولكن أيضا تبرز أهميته الكبرى في المحن والابتلاءات؛ لأن المحن والابتلاءات تلغي نبض الحياة وتوقفه، لولا وجود الإيمان بالخالق سبحانه؛ ولهذا ترى الناس تتعدد اختيارات إيمانهم فمنهم من يؤمن بأشياء ومنهم من يؤمن بالطبيعة، ومنهم من يؤمن بخالق واحدٍ لهذا الكون؛ لكي يقوى كل امرئ على إيجاد مفهوم يعينه على البقاء والاستمرار.
ولكن فطرة البشر تراها تميل إلى الخالق الواحد لوجود أدلةٍ كونيةٍ وعقلية على أن هذا الموجود الذي هو الكون بكل ما فيه وسيره وفق نظام واحد وكذلك السمة الموحَّدة للخلق تدل على أنّ هناك خالقًا واحدًا أوْجد هذا النظام الثابت غير المتحول القائم على سُنّةٍ لا تتغير ولا تتبدل.
ومما يزيد في اقتناع من آمن بهذا الخالق، هو أنّ مبادئ الإيمان به تجعلك تعيش الحياة بمنطقية وتجعل تعلقك بقوة لا تُرى، وهذا يعني ترفعك عن الخضوع لأي قوةٍ بشريةٍ أو غير بشرية مخلوقة مثلك، وكذلك تجعلك ترتبط به وحدك وتصارحه وحدك وتبثُّ إليه همومك وحدك لا وساطة بينكما ولا تعليمات يجب عليك اتباعها قبل أن تتواصل معه.
ويضاف إلى ذلك أنه يُمكِّنك من السعادة في هذه الدنيا وأن تعيشها وَفق رؤيتك العقلية التي تتوافقُ مع محرماته وتتفق مع ما أحلّه لك. ويمتد جمال الإيمان به إلى أنك تدرك تفاصيلَ ما بعد هذه الحياة اللغز الذي أرهق عقول الفلاسفة والمفكرين والعلماء المشغولين بالكون وما فيه من غموض وأسرار وعلماء الإنسان المهتمين بوجوده وتحركاته وتنقلاته.
ترى الإيمانَ بهذا الخالق الواحد قد هوَّن عليك هذا السر ودعاك إلى التفكر فيه دون حَيرة بل ليزداد إيمانك ويطمئن قلبك. فتعرف أنّ هذه الحياة ضمن رحلة متنوعة من عالم الذر إلى عالم الرحم إلى عالم الأرض إلى عالم القبر إلى عالم الآخرة التي يكون فيها الاستقرار ونهاية الرحلة.
هذا الإيمان رأيناه في شعر أمية بن أبي الصلت وكذلك من شاركه في ما يسمى بالأحناف أو الحنفاء الذين أبو السجود لحجرٍ أو الطواف حوله ورأوا أنّ دين إبراهيم لا يمكن أن يكون وفق الشاكلة التي وصل إليها القرشيون، بل هو القائم على التوحيد ولم يكن أولئك الحنفاء ممن لا يُحترمون أو لا يُقدَّرون بل كانوا أهل مكانةٍ مرموقةٍ، وكأنّ صوت من حولهم يقبل كلامهم ولكنّ الخضوع للعادة والتقاليد يمنعهم من اتّباع دعواهم، ولهذا وجدنا سرعةً في الانتقال إلى الإسلام عندما أتى به النبي -عليه الصلاة والسلام- وكأنّ القلوب عطشى وبانتظار قطرة تحييها فكانت بدعوة الإسلام.
فانتشار الإيمان بالخالق في المجتمع القرشي ثم المدني من بعده ثم القبائل والدول ما هو إلا دليل على أنّ الناس بفطرتها قابلةٌ لهذه الدعوة مستريحةٌ إليها روحيًّا وعقليًّا، وهذا ما سهّل انتشارها واتساعها حتى أيامنا التي نعيشها.
فالإيمان طاقة تمد المرء بالنشاط الدنيوي وكذلك تهيئه للقاء الأخروي وتعين المرء على الاستمرار في هذه الحياة وتحمل دورانها وتقلباتها، وعلوها ودنوها، وأهم لذة تجدها عندما تفقد حبيبًا وعزيزا فترى الإيمان يمدك بقوة لا تستطيع وصفها التي نسميها الرضا بما حصل وتحمل ما وقع. وأيُّ كريم لم تصبه القوارعُ.
[1] أكاديمي وكاتب سوري.
_______________________
د. محمد خالد الفجر
- التصنيف:
- المصدر: