حفظ اللسان عن الكلام فيما لا يعني
وحيد عبد السلام بالي
لا تتعرض لما لا يعنيك، واعتزل عدوَّك، واحذر صديقك من القوم إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشي الله تعالى، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى.
- التصنيفات: تزكية النفس - الآداب والأخلاق -
وذلك لأنه تضييع للوقت الذي هو رأس مال المسلم، فقد كان بإمكانه أن يستغله في ذكر الله تعالى، فينال به الأجر الكثير، فالكلام فيما لا يعني - إن لم يكن فيه ضرر ففيه الخسارة وتضييع الأجر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» [1]، رواه الترمذي وحسنه النووي[2]، وقال أيضًا: «مَنْ صَمَتَ نَجَا» رواه الطبراني بسند جيد قاله الحافظ العراقي[3].
وقال مجاهد: سمعت ابن عباس يقول: خمس لهن أحب إلي من الدُّهم الموقوفة:
1) لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنه فضل، ولا آمن عليك الوزر.
2) لا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعًا، فإنه رُبَّ متكلم من أمرٍ يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت.
3) ولا تمار حليمًا ولا سفيهًا، فإن الحليم يقليك، والسفيه يؤذيك.
4) واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، واعفه مما تحب أن يعفيك منه، وعامل أخاك بما تحب أن يعاملك به.
5) واعمل عمل رجلٍ يعلم أنه مجازى بالإحسان، مأخوذ بالاحترام.
وقيل للقمان الحكيم: ما حكمتك؟ قال: لا أسألك عما كفيت، ولا أتكلف ما لا يعنيني.
وقال عمر رضي الله عنه: لا تتعرض لما لا يعنيك، واعتزل عدوَّك، واحذر صديقك من القوم إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشي الله تعالى، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى.
قال الغزالي رحمه الله: وحد الكلام فيما لا يعنيك أن تتكلم بكلام لو سكت عنه لن تأثم، ولم تستضر به في حال ولا مآل، مثاله: أن تجلس مع قوم، فتذكر لهم أسفارك، وما رأيت فيها من جبال وأنهار، وما وقع لك من الوقائع، وما استحسنته من الأطعمة والثياب، وما تعجبت منه من مشايخ البلاد ووقائعهم، فهذه أمور لو سكت عنها، لم تأثم ولم تستضر.
وإذا بالغت في الجهاد حتى لم يمتزج بحكايتك زيادة ولا نقصان، ولا تزكية نفس من حيث التفاخر بمشاهدة الأحوال العظيمة، ولا اغتياب لشخص، ولا مذمة لشيء مما خلقه الله تعالى، فأنت مع ذلك كله مضيع زمانك، وأنى تسلم من الآفات التي ذكرناها؟!
ومن جملتها: أن تسأل غيرك عما لا يعنيك، فأنت بالسؤال مضيع وقتك، وقد ألجأت صاحبك أيضًا بالجواب إلى التضييع، هذا إذا كان الشيء مما لا يتطرق إلى السؤال عنه آفة، وأكثر الأسئلة فيها آفات، فإنك تسأل غيرك عن عبادته مثلًا، فتقول له: هل أنت صائم؟ فإن قال: نعم، كان مظهرًا لعبادته، فيدخل عليه الرياء، وإن لم يدخل سقطت عبادته من ديوان السِّرِّ، وعبادة السر تفضل عبادة الجهر بدرجات، وإن قال: لا، كان كاذبًا، وإن سكت كان مستحقرًا لك وتأذيت به، وإن احتال لمدافعة الجواب، افتقر إلى جهد وتعب فيه، فقد عرضته بالسؤال إما للرياء، أو للكذب، أو للاستحقار، أو للتعب؛ اهـ[4].
وكذلك السؤال عن المعاصي، وعن كل ما يخفيه المسلم ويستحيي منه، وكذلك إذا قابلت أخاك في الطريق، وسألته: أين كنت؟ فربما يمنعه مانع من الجواب، فإن ذكره تأذى، وإن لم يصدق وقع في الكذب، وكنت السبب في ذلك، فيجب عليك أخي المسلم أن تتجنب الكلام فيما لا يعنيك، واعلم أن ذلك صعب على النفس.
يقول مورق العجلي: أمر أنا في طلبه منذ عشرين سنة لم أقدر عليه، ولست بتارك طلبه، قالوا ما هو؟ قال: السكوت عما لا يعنيني.
ولكن ما العلاج لمن ابتلي بذلك؟
يقول الغزالي رحمه الله: وعلاج ذلك أن يعلم أن الموت بين يديه، وأنه مسؤول عن كل كلمة، وأن أنفاسه رأس ماله، وأن لسانه شبكة يقدر أن يقتنص بها الحور العين، فإهماله ذلك وتضييعه خسران مبين؛ اهـ[5].
قلت: ويستعين على ذلك بالتفكير في معنى الكلمة قبل النطق بها، فإن كانت لمصلحة أطلقها، وإلا أمسكها، والأمر في بدايته شديد، ثم يتيسر بعون الله وتوفيقه، ويستعين على ذلك أيضًا بالدعاء: (اللهم ارزُقني لسانًا ذاكرًا وقلبًا خاشعًا).
[1] صحيح: الترمذي (2317) في «الزهد»، وابن ماجه رقم (3976) في «الفتن» باب كف اللسان في الفتنة، ورواه مالك في «الموطأ» (347) في «حسن الخلق»، وأحمد في «المسند» (1 /201)، وصحح إسناده أحمد شاكر والألباني في «صحيح ابن ماجه».
[2] رياض الصالحين (1 /99).
[3] صحيح: الترمذي رقم (2501) في «صفة القيامة»، ورواه أحمد في «المسند» (2 /159-177)، والدارمي (2 /299)، وهو في «السلسلة الصحيحة» للألباني رقم (536).
[4] تخريج إحياء علوم الدين (1546).
[5] تخريج إحياء علوم الدين (1547).