من أجواد العرب : عروة بن الورد
المعتز بالله الكامل محمد علي
كان عروة يقول :
فراشى فراش الضيف والبيت بيته
ولم يُلهنى عنه غزال مُقنع
- التصنيفات: الآداب والأخلاق -
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه .
أمَّا بعد:
قلت لصاحبى :
هلمَّ نتابع الحديث عن الأجواد والمؤْثِرين فى العرب قبل الإسلام .
قال صاحبى : على شريطة أن لا تُفرط فى الإعجاب بهم ، وأن لاتذهب فى مدحهم المذاهب .
قلت : لك ذلك ، وسأدع لك أنت التعليق على ما أذكره ، ولك الحريَّة فى أن تُبدى إعجابك أو أن تُظهر سخطك مما تسمع .
قال صاحبى : أنا معك مادمت على ذلك .
قلت لصاحبى : قد حدَّثتك فى اللقاء الماضى عن قصة الغلام اليتيم الذى شهد له حاتم الطَّائى بأنه أكرم منه ، واليوم أواصل ما بدأته فأقول :
من أراد أن يتتبع الكرماء فى العرب فلن يُعييَه تطلُّبهم ، فالأجواد والكرماء أكثر من أن يحصيهم العدُّ ، ولا تحسبن أنه ساقنى إلى هذه الأحاديث حب الحصر ، أو التأريخ لحقبة من الزمان ، وإنما ساقنى إليها الإعجاب بهؤلاء القوم .
فقاطعنى صاحبى قائلا : أعى ذلك جيداً وقد ذكرتَه فى محاضرتك الأولى فلا حاجة لإعادته هنا .
قلت : صدقت ، فهلُمَّ نستأنف الحديث .
وليكن أول من نبدأ به ( أبو الصَّعاليك ) .
قال لى صاحبى : على رِسلك ، من هم الصعاليك ؟ ومن أبوهم ؟
قلت : ياسيدى
الصعاليك قوم من العرب خلعهم قومهم لخروجهم على تقاليد قبائلهم وعاداتها ، فتبرَّأ منهم قومهم ، وأشاعوا بين الناس براءتهم منهم ، وأنهم لا يُسألون عن أفعالهم ، ولا يُطالِبون بدمائهم إن قُتلوا .
قال لى صاحبى : ومن أبوهم ؟
قلت : هو عروة بن الورد .
قال : الشاعر الذائع الصيت ؟
قلت : نعم .
قال صاحبى : وماذا كان من خبره ؟
قلت : سأنبئك بخبره ، فأعِرنى سمعك .
قال صاحبى : كلى آذان صاغية .
ثم استقبلت الحديث أسوقه ، فقلت :
كان مِن شأن عروة بن الورد أنه كان إذا أصاب الناس شدة ، وخرجوا للغزو ، وتركوا فى ديارهم المريض والكهل المُسِنَّ ، والعاجز الواهن ، يقوم فيجمعهم ثم يبنى لهم خيمة كبيرة ، فيداوى مرضاهم ، ويكسوا فقيرهم ، ويُطعم جائعهم ، فإذا شُفى مريضهم ، وقوى ضعيفهم ، غزا بهم ، فما غنموه من غنيمة اقتسموه بينهم ، ويجعل لغير القادرين على الغزو ممن تركه فى الخيمة نصيباً من الغنيمة ، وكان يؤثر غيره على نفسه فى القِسمة ، فيرجع غيره موفور الحظ من الغنيمة ويرجع هو بأقل القليل منها .
ولقد ذاع خبر عروة وامتدَّ عبر الأجيال حتى شهد له عبد الملك بن مروان الخليفة الأموى فقال : مَن قال إن حاتم الطائى أسمح من عروة فقد ظلم عروة .
وقال أيضا : ما أُحب أنَّ أحداً ممن لم يلدنى قد ولدنى إلا عروة بن الورد .
وقال عنه معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه : لوأنِّ لعروة أبناء لأحببت أن أنكح إليهم .
قال صاحبى : لقد شوَّقتنى للحديث عن عروة ، حتى أنى أتمنَّى أن تسرد الحديث سردا خوفا من نهاية المجلس .
قلت : لا تخف ، فلن أقطع الحديث قبل أن أُشبع نهمتك من الكلام حول عروة بن الورد ، فاطمئنَّ وقرَّ عيناً .
كان مِن كرم عروة أنَّه كان يقول :
وإنِّى امرؤ عافى إنائى شِركةُ
وأنت امرؤ عافى إنائك واحد
أُقَسِّم جسمى فى جسوم كثيرةِ
وأحسوا قراح الماء والماء بارد
يريد عروة أن يقول إن من يأتى للأكل من طعامه (شركة ) أى : عدد كبير ، ثم هو يضيف إلى هذا الوصف وصفاً آخر أجمل وأفضل وهو قوله : أقَسِّم جسمى ، وانظر إلى جمال التعبير فى تقسيم الجسم فى جسوم كثيرة ، إنه يجعل جسمه كأنَّه شئ يُقسَّم ، فهو يُقسمه فى جسوم كثيرة .
أرءيت معى يا صاحبى جمال نفسه ، وحلاوة كرمه ؟
قال صاحبى : أجل رأيت ذلك وأعجبنى تحليلك لأبياته ، لكن الوقت يمُرُّ سريعاً فهلم ألق علىَّ من أخباره ما يُشبع نهمتى إلى معرفته .
قلت : على الرحب والسعة .
كان عروة يقول :
فراشى فراش الضيف والبيت بيته
ولم يُلهنى عنه غزال مُقنع
أحدِّثه إن الحديث من القِرى
وتعلم نفسى أنه سوف يهجع
أسر عروة امرأة فى بعض غزواته فتزوجها عن رضا منها ورأت من شمائله ونُبل أخلاقه ما حبَّبه إليها ، إلا أنها كان يؤذيها تلقيب قومه لها بسبية عروة ، وهى الحُرَّة الكريمة بنت الكرام ، فاحتالت عليه رغم حبها له ، حتى سمح لها بأن تحج معه ، فلما تيقنت من خروجه بها أرسلت إلى قومها ليأتوا المدينة ، ويلقوا عروة ، ويطلبوا منه أن يفدوها بما شاء من مال ، وأخبرتهم بأنَّه سيوافق ، لأنه على يقين من حبها له .
ولما أتى عروة المدينة سقوه خمرا حتى لعبت الخمر برأسه ، ثم طلبوا منه مفاداتها ، فواعدهم الغد ، فلما كان الغد جاءوا لمفاداتها ، فأنكر أن يكون قد وعدهم بمفاداتها ، فشهد من كان هنالك بأنَّه قد وعدهم بذلك .
فأجابهم قائلا : خيروها فإن اختارتكم فهى لكم .
فاختارتهم .
لكنها قالت : يا عروة أما إني أقول فيك وإن فارقتك الحق والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك، وأغض طرفًا وأقل فحشًا، وأجود يدًا، وأحمى لحقيقة، وما مر علي يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إلي من الحياة بين قومك؛ لأني لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من قومك تقول قالت أمة عروة كذا وكذا إلا سمعته ووالله لا أنظر في وجه غطفانية أبدًا فارجع راشدًا، إلى ولدك وأحسن إليهم .
هذا ثناء امرأته عليه ، رغم أنها كانت أسيرة عنده ، إلا أن شخصيته العظيمة جعلتها لا تملك إلا أن تُبدى الإعجاب بهذه الشخصية الآسرة .
ولقد ذاع هذا الثناء فى العرب حتى سارت به الرُّكبان ،
ولقد تزوجت المرأة بعد أن عادت إلى ديار قومها من ابن عمٍّ لها ، وعاشت معه مدَّة من الزمان ثم طلب منها أن تثني عليه كما أثنت على عروة، فأخبرته أنها لا تقول سوى الحق، وأنها لن تكذب، لذا فمن الأفضل أن لا تقول فيه شيئًا ..
فصمم على ذلك وجمع القوم، ليسمعوا ثناء سلمى عليه، فإذا بها تقول :”أنعموا صباحا إن هذا عزم علي أن أثني عليه بما أعلم .
ثم أقبلت عليه، فقالت: والله إن شملتك لالتحاف ، وإن شُربك لاشتفاف ، وإنك لتنام ليلة تخاف ، وتشبع ليلة تضاف ، وما تُرضي الأهل ولا الجانب .
فلامه القوم على ذلك .
هكذا كان عروة ، فهل أعجبك شأنه ؟
قال صاحبى : نعم لكنه قطعنا عن حديث الجود والكرم ، فهل تراك ستترك الحديث عن الجود والكرم ؟ أم ستواصل الحديث عنهما ؟
قلت : لك ما أحببت .
قال أحب أن تواصل الحديث فى اللقاء القادم عن الجود والكرم عند العرب قبل الإسلا م .
قلت : لك ذلك .
ثم انصرفت مودعا صاحبى ، على وعد بلقاء مع الكرماء فى اللقاء القادم .
كتبه
أبو أحمد
المعتز بالله الكامل .
أمَّا بعد:
قلت لصاحبى :
هلمَّ نتابع الحديث عن الأجواد والمؤْثِرين فى العرب قبل الإسلام .
قال صاحبى : على شريطة أن لا تُفرط فى الإعجاب بهم ، وأن لاتذهب فى مدحهم المذاهب .
قلت : لك ذلك ، وسأدع لك أنت التعليق على ما أذكره ، ولك الحريَّة فى أن تُبدى إعجابك أو أن تُظهر سخطك مما تسمع .
قال صاحبى : أنا معك مادمت على ذلك .
قلت لصاحبى : قد حدَّثتك فى اللقاء الماضى عن قصة الغلام اليتيم الذى شهد له حاتم الطَّائى بأنه أكرم منه ، واليوم أواصل ما بدأته فأقول :
من أراد أن يتتبع الكرماء فى العرب فلن يُعييَه تطلُّبهم ، فالأجواد والكرماء أكثر من أن يحصيهم العدُّ ، ولا تحسبن أنه ساقنى إلى هذه الأحاديث حب الحصر ، أو التأريخ لحقبة من الزمان ، وإنما ساقنى إليها الإعجاب بهؤلاء القوم .
فقاطعنى صاحبى قائلا : أعى ذلك جيداً وقد ذكرتَه فى محاضرتك الأولى فلا حاجة لإعادته هنا .
قلت : صدقت ، فهلُمَّ نستأنف الحديث .
وليكن أول من نبدأ به ( أبو الصَّعاليك ) .
قال لى صاحبى : على رِسلك ، من هم الصعاليك ؟ ومن أبوهم ؟
قلت : ياسيدى
الصعاليك قوم من العرب خلعهم قومهم لخروجهم على تقاليد قبائلهم وعاداتها ، فتبرَّأ منهم قومهم ، وأشاعوا بين الناس براءتهم منهم ، وأنهم لا يُسألون عن أفعالهم ، ولا يُطالِبون بدمائهم إن قُتلوا .
قال لى صاحبى : ومن أبوهم ؟
قلت : هو عروة بن الورد .
قال : الشاعر الذائع الصيت ؟
قلت : نعم .
قال صاحبى : وماذا كان من خبره ؟
قلت : سأنبئك بخبره ، فأعِرنى سمعك .
قال صاحبى : كلى آذان صاغية .
ثم استقبلت الحديث أسوقه ، فقلت :
كان مِن شأن عروة بن الورد أنه كان إذا أصاب الناس شدة ، وخرجوا للغزو ، وتركوا فى ديارهم المريض والكهل المُسِنَّ ، والعاجز الواهن ، يقوم فيجمعهم ثم يبنى لهم خيمة كبيرة ، فيداوى مرضاهم ، ويكسوا فقيرهم ، ويُطعم جائعهم ، فإذا شُفى مريضهم ، وقوى ضعيفهم ، غزا بهم ، فما غنموه من غنيمة اقتسموه بينهم ، ويجعل لغير القادرين على الغزو ممن تركه فى الخيمة نصيباً من الغنيمة ، وكان يؤثر غيره على نفسه فى القِسمة ، فيرجع غيره موفور الحظ من الغنيمة ويرجع هو بأقل القليل منها .
ولقد ذاع خبر عروة وامتدَّ عبر الأجيال حتى شهد له عبد الملك بن مروان الخليفة الأموى فقال : مَن قال إن حاتم الطائى أسمح من عروة فقد ظلم عروة .
وقال أيضا : ما أُحب أنَّ أحداً ممن لم يلدنى قد ولدنى إلا عروة بن الورد .
وقال عنه معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه : لوأنِّ لعروة أبناء لأحببت أن أنكح إليهم .
قال صاحبى : لقد شوَّقتنى للحديث عن عروة ، حتى أنى أتمنَّى أن تسرد الحديث سردا خوفا من نهاية المجلس .
قلت : لا تخف ، فلن أقطع الحديث قبل أن أُشبع نهمتك من الكلام حول عروة بن الورد ، فاطمئنَّ وقرَّ عيناً .
كان مِن كرم عروة أنَّه كان يقول :
وإنِّى امرؤ عافى إنائى شِركةُ
وأنت امرؤ عافى إنائك واحد
أُقَسِّم جسمى فى جسوم كثيرةِ
وأحسوا قراح الماء والماء بارد
يريد عروة أن يقول إن من يأتى للأكل من طعامه (شركة ) أى : عدد كبير ، ثم هو يضيف إلى هذا الوصف وصفاً آخر أجمل وأفضل وهو قوله : أقَسِّم جسمى ، وانظر إلى جمال التعبير فى تقسيم الجسم فى جسوم كثيرة ، إنه يجعل جسمه كأنَّه شئ يُقسَّم ، فهو يُقسمه فى جسوم كثيرة .
أرءيت معى يا صاحبى جمال نفسه ، وحلاوة كرمه ؟
قال صاحبى : أجل رأيت ذلك وأعجبنى تحليلك لأبياته ، لكن الوقت يمُرُّ سريعاً فهلم ألق علىَّ من أخباره ما يُشبع نهمتى إلى معرفته .
قلت : على الرحب والسعة .
كان عروة يقول :
فراشى فراش الضيف والبيت بيته
ولم يُلهنى عنه غزال مُقنع
أحدِّثه إن الحديث من القِرى
وتعلم نفسى أنه سوف يهجع
أسر عروة امرأة فى بعض غزواته فتزوجها عن رضا منها ورأت من شمائله ونُبل أخلاقه ما حبَّبه إليها ، إلا أنها كان يؤذيها تلقيب قومه لها بسبية عروة ، وهى الحُرَّة الكريمة بنت الكرام ، فاحتالت عليه رغم حبها له ، حتى سمح لها بأن تحج معه ، فلما تيقنت من خروجه بها أرسلت إلى قومها ليأتوا المدينة ، ويلقوا عروة ، ويطلبوا منه أن يفدوها بما شاء من مال ، وأخبرتهم بأنَّه سيوافق ، لأنه على يقين من حبها له .
ولما أتى عروة المدينة سقوه خمرا حتى لعبت الخمر برأسه ، ثم طلبوا منه مفاداتها ، فواعدهم الغد ، فلما كان الغد جاءوا لمفاداتها ، فأنكر أن يكون قد وعدهم بمفاداتها ، فشهد من كان هنالك بأنَّه قد وعدهم بذلك .
فأجابهم قائلا : خيروها فإن اختارتكم فهى لكم .
فاختارتهم .
لكنها قالت : يا عروة أما إني أقول فيك وإن فارقتك الحق والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك، وأغض طرفًا وأقل فحشًا، وأجود يدًا، وأحمى لحقيقة، وما مر علي يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إلي من الحياة بين قومك؛ لأني لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من قومك تقول قالت أمة عروة كذا وكذا إلا سمعته ووالله لا أنظر في وجه غطفانية أبدًا فارجع راشدًا، إلى ولدك وأحسن إليهم .
هذا ثناء امرأته عليه ، رغم أنها كانت أسيرة عنده ، إلا أن شخصيته العظيمة جعلتها لا تملك إلا أن تُبدى الإعجاب بهذه الشخصية الآسرة .
ولقد ذاع هذا الثناء فى العرب حتى سارت به الرُّكبان ،
ولقد تزوجت المرأة بعد أن عادت إلى ديار قومها من ابن عمٍّ لها ، وعاشت معه مدَّة من الزمان ثم طلب منها أن تثني عليه كما أثنت على عروة، فأخبرته أنها لا تقول سوى الحق، وأنها لن تكذب، لذا فمن الأفضل أن لا تقول فيه شيئًا ..
فصمم على ذلك وجمع القوم، ليسمعوا ثناء سلمى عليه، فإذا بها تقول :”أنعموا صباحا إن هذا عزم علي أن أثني عليه بما أعلم .
ثم أقبلت عليه، فقالت: والله إن شملتك لالتحاف ، وإن شُربك لاشتفاف ، وإنك لتنام ليلة تخاف ، وتشبع ليلة تضاف ، وما تُرضي الأهل ولا الجانب .
فلامه القوم على ذلك .
هكذا كان عروة ، فهل أعجبك شأنه ؟
قال صاحبى : نعم لكنه قطعنا عن حديث الجود والكرم ، فهل تراك ستترك الحديث عن الجود والكرم ؟ أم ستواصل الحديث عنهما ؟
قلت : لك ما أحببت .
قال أحب أن تواصل الحديث فى اللقاء القادم عن الجود والكرم عند العرب قبل الإسلا م .
قلت : لك ذلك .
ثم انصرفت مودعا صاحبى ، على وعد بلقاء مع الكرماء فى اللقاء القادم .
كتبه
أبو أحمد
المعتز بالله الكامل .