دروس من فتح القسطنطينية
ومع محاولة كل مستشاري الفاتح إقناعه بالرجوع عن المدينة، إلا أن يقينه كان مذهلاً. ويقينه لم يكن يقين غطرسة القواد المعروفة، ممن لا يملكون قوة غير غرورهم الواهم أو كبريائهم الزائفة، بل كان يقين من يستشعر معية الله، ويأخذ بالأسباب حتى تتحقق.
أول ما يظهر من هذه الدروس هو اليقين. فمع أن الحصار استمر لما يزيد على خمسين يوماً، عانى فيها المسلمون الأهوال، وسقط كثير من الشهداء قتلا، أو حرقا، أو غرقا، أو دفنا تحت التراب، فإنّ ذلك كله لم يهزم يقين السلطان الفاتح في أنه سوف يكون المعني بحديث بشارة النبي بفتح المدينة.
ومع محاولة كل مستشاري الفاتح إقناعه بالرجوع عن المدينة، إلا أن يقينه كان مذهلاً. ويقينه لم يكن يقين غطرسة القواد المعروفة، ممن لا يملكون قوة غير غرورهم الواهم أو كبريائهم الزائفة، بل كان يقين من يستشعر معية الله، ويأخذ بالأسباب حتى تتحقق.
وتظهر كذلك عبادة التوكل. فقد استفرغ جيش المسلمين جميع الأسباب؛ من استعداد معنوي ومادي. ومع ذلك، لم يركنوا إلى هذه الأسباب من قوة السلاح والمدافع التي امتلكوها، وعلى رأسها المدفع السلطاني المشهور الذي كان أحدث وأقوى سلاح في ذلك الوقت، بل كان توكلهم على الله وحده، مؤمنين بأن النصر لا يكون إلا من عند الله.
كما يتضح درس استفراغ الوسع. فقد حاصر المسلمون المدينة من جميع جهاتها، وحاولوا بشتى الطرق منع الإمدادات التي كانت تأتي من أوربا عن طريق البحر. واستشهد في سبيل ذلك كثير من المسلمين، فأحكم المسلمون جميع منافذ المدينة، واستمر القصف ليلا ونهارا، وبذل المسلمون كل الأسباب واستفرغوا وسعهم في سبيل النصر.
والدرس الأعمق هو أن الإلهام من الله. فمع كل ما وقع من أهوال وخطوب في هذا الحصار، كان النصر عن طريق فكرة ألهمها الله للسلطان. وهي فكرة عبقرية لم يعرف التاريخ لها مثيلا، حين نُقلت السفن على تلة ترتفع عن البحر في الصحراء مسيرة ثلاثة أميال! ففي نهاية المطاف، لا يكون النصر إلا من عند الله، ولا يكون إلا بسبب من الله.
وتجلى الصبر في تضحية المسلمين بأرواحهم رخيصة في سبيل نشر الإسلام وتحقيق بشارة النبي. فمع سقوط المسلمين شهداء في البر والبحر، وخارج المدينة وداخلها، سقطوا تحت الأرض في السراديب التي كانوا يحفرونها ويحرقها البيزنطيون بالنار عليهم، وسقطوا فوق الأرض حينما كانوا يتسلقون الأسوار فيلقي البيزنطيون الزيت الحارق عليهم. لقد أعطوا أروع مثال في التضحية وبذل الروح، ندر مثله على مر التاريخ.
والثبات على المبدأ درس آخر يعلمنا إياه السلطان، حين عرض عليه الإمبراطور البيزنطي الرجوع عن المدينة في مقابل دفع الجزية. لكن لم تكن الدنيا هي ما يريده السلطان ولا جنوده. فهم أصحاب مبدأ، يهبون حياتهم في سبيله.
وظهرت الاستعانة بالله وتقوى الله والصلة به في شخص السلطان وجنوده. فقد عُرف عنه أنه كان صاحب دين وقيام بالليل واستعانة بالعلماء، لا يتجاوز قولهم! كما عُرف عنه بث العلماء وسط جنوده، ليعلموهم ويحثوهم على الجهاد وعلى الاستعانة بالله وتقواه. فهي الزاد وهي السند وهي سبب النصر الوثيق.
وظهر التسامح بعد فتح المدينة وإعطاء الأمان لأهلها! فلم يفعلوا فعل الصليبيين أو التتار أو غيرهم! لقد فتحوا القلوب قبل الحصون، ونالوا العقول قبل القلاع. فكانوا فاتحين متسامحين وليسوا غزاة طامعين.
- التصنيف: