شرح حديث أبي هريرة: "لا تحاسدوا"
محمد بن صالح العثيمين
- التصنيفات: شرح الأحاديث وبيان فقهها -
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَحاسَدوا، ولا تَناجَشوا، ولا تَباغَضوا، ولا تَدابَروا، ولا يَبِعْ بعضُكم على بيع بعض، وكُونوا عبادَ اللهِ إخوانًا، المسلم أخو المسلم: لا يَظلِمُه ولا يَحقِرُه، ولا يخذُلُه، التقوى ها هنا - [ويشير إلى صدره ثلاث مرات] - بحسْبِ امرئ من الشر أن يَحقِرَ أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعِرضُه»؛ (رواه مسلم).
"النجش": أن يزيد في ثمن سلعة ينادى عليها في السوق ونحوه، ولا رغبة له في شرائها، بل يقصد أن يغُرَّ غيره، وهذا حرامٌ. "والتدابر": أن يُعرِضَ عن الإنسان ويهجره، ويجعله كالشيء الذي وراء الظَّهر والدبر.
قال سَماحة العلَّامةِ الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:
قال المؤلِّف رحمه الله تعالى فيما نقله عن أبي هريرة رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تحاسدوا))؛ أي: لا يحسُدْ بعضُكم بعضًا.
والحسد: أن يَكرَهَ الإنسان ما أنعَمَ الله به على غيره، هذا الحسد، ومثاله: أن تكره أن الله أنعَمَ على هذا الرجل بالمال، أو البنين، أو بالزوجة، أو بالعلم أو بالعبادة، أو بغير ذلك من النعم، سواء تمنَّيتَ أن تزول أم لم تَتمنَّ.
وإن كان بعض العلماء يقول: إن الحسد أن يَتمنَّى زوال نعمة الله على غيره، ولكن هذا أخبَثُه وأشَدُّه، وإلا فمجرد كراهة الإنسان أن يُنعِمَ الله على الشخص فهو حسد.
والحسد من خِصال اليهود، فمَن حسد فهو متشبِّهٌ بهم، والعياذ بالله؛ قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109]، وقال تعالى فيهم: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54]، ولا فَرْقَ بين أن تكره ما أنعَمَ الله به على غيرك ليعود هذا الشيءُ إليك، أو ليرتفع عن أخيك وإن لم يعُدْ إليك.
واعلم أن في الحسد مفاسدَ كثيرةً:
منها: أنه تَشبُّهٌ باليهود أخبَثِ عباد الله، وأخَسِّ عباد الله، الذين جعل الله منهم القِرَدةَ والخنازير وعبَدَ الطاغوتَ.
ومنها: أن فيه دليلًا على خُبثِ نفس الحاسد، وأنه لا يُحِبُّ لإخوانه ما يحب لنفسه؛ لأن من أحَبَّ لإخوانه ما يحب لنفسه، لم يحسُدِ الناسَ على شيء؛ بل يفرح إذا أنعَمَ الله على غيره بنعمة ويقول: اللهم آتِنِي مِثلَها، كما قال الله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32].
ومنها: أن فيه اعتراضًا على قدَرِ الله عزَّ وجلَّ وقضائه، وإلا فمن الذي أنعَمَ على هذا الرجل؟ اللهُ عزَّ وجلَّ، فإذا كرهتَ ذلك فقد كرهتَ قضاء الله وقدَرَه، ومعلوم أن الإنسان إذا كره قضاء الله وقدره فإنه على خطر في دينه، نسأل الله العافية؛ لأنه يريد أن يزاحم ربَّ الأرباب جلَّ وعلا في تدبيره وتقديره.
ومن مفاسد الحسد: أنه كلما أنعَمَ الله على عباده نعمة، التهَبَتْ نار الحسد في قلبه، فصار دائمًا في حسرةٍ وفي غمٍّ؛ لأن نِعَمَ الله على العباد لا تُحصى، وهو رجلٌ خبيث، كلما أنعم الله على عبده نعمةً غلى ذلك الحسدُ في قلبه حتى يحرقه.
ومن مفاسد الحسد: أنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والحسدَ؛ فإنه يأكل الحسناتِ كما تأكل النار الحطَبَ».
ومن مفاسده: أنه يعرقل الإنسان عن السعي في الأشياء النافعة؛ لأنه دائمًا يفكِّر ويكون في غمٍّ؛ كيف جاء هذا الرجلَ مالٌ؟ كيف جاءه عِلمٌ؟ كيف جاءه ولد؟ كيف جاءه زوجة؟ وما أشبه ذلك، فتجده دائمًا منحسرًا منطويًا على نفسه، ليس له همٌّ إلا تتبُّعَ نِعَمِ الله على العباد واغتمامه بها، نسأل الله العافية.
ومن مفاسد الحسد: أنه ينبئ عن نفس شريرة ضيقة، لا تحب الخير؛ وإنما هي نفس أنانية تريد أن يكون كلُّ شيء لها.
ومن مفاسد الحسد أيضًا: أنه لا يمكن أن يغيِّر شيئًا مما قضاه الله عزَّ وجلَّ أبدًا، مهما عَمِلتَ، ومهما كرهتَ، ومهما سعيتَ لإخوانك في إزالة نعم الله عليهم، فإنك لا تستطيع شيئًا.
ومن مفاسده: أنه ربما يتدرَّج بالإنسان إلى أن يصل إلى درجة الذي يحسد الناس؛ لأن العائن نفسُه شريرة حاسدة حاقدة، فإذا رأى ما يُعجِبُه انطلَقَ من هذه النفسِ الخبيثة مثلُ السهم حتى يصيب بالعين، فالإنسان إذا حسد وصار فيه نوعٌ من الحسد، فإنه يترقَّى به الأمر حتى يكون من أهل العيون الذين يؤذون الناسَ بأعيُنِهم، ولا شك أن العائن عليه من الوبال والنقمة بقدر ما ضرَّ العباد؛ إنْ ضَرَّهم بأموالهم فعليه من ذلك إثم، أو بأبدانهم، أو بمجتمعهم؛ ولهذا ذهب كثيرٌ من أهل العلم إلى تضمين العائن كلَّ ما أتلف، يعني إذا عان أحدًا وأتلَفَ شيئًا من ماله أو أولاده أو غيرهم، فإنه يَضمَن، كما أنهم قالوا: إن من اشتهر بذلك، فإنه يجب أن يُحبَس إلا أن يتوب، يُحبَس اتقاءَ شرِّه؛ لأنه يؤذى الناس ويضرُّهم، فيُحبس كفًّا لشره.
ومن مفاسد الحسد: أنه يؤدي إلى تفرُّق المسلمين؛ لأن الحاسد مكروهٌ عند الناس مبغَض، والإنسان الطيِّبُ القلبِ الذي يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، تجده محبوبًا من الناس، الكل يُحِبُّه؛ ولهذا دائمًا نقول: والله فلان هذا طيِّب ما في قلبه حسدٌ، وفلان رجلٌ خبيثٌ حسودٌ وحقود، وما أشبه ذلك.
فهذه عَشْرُ مفاسدَ كلُّها في الحسد، وبهذا نعرف حكمة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((لا تَحاسَدوا))؛ أي: لا يحسُدْ بعضكم بعضًا.
فإن قال قائل: ربما يجد الإنسان في نفسه أنه يحب أن يتقدم على غيره في الخير، فهل هذا من الحسد؟ فالجواب: أن ذلك ليس من الحسد؛ بل هذا من التنافس في الخيرات، قال الله تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61]، فإذا أَحَبَّ الإنسان أن يتقدم على غيره في الخير، فهذا ليس من الحسد في شيء، الحسدُ أن يكره الخيرَ لغيره.
واعلم أن للحسد علاماتٍ: منها أن الحاسد يحب دائمًا أن يُخفِيَ فضائلَ غيره، فإذا كان إنسان ذا مال، ينفق ماله في الخير من صدقات، وبناء مساجد، وإصلاح طرق، وشراء كتب يُوقِفُها على طلبة العلم، وغير ذلك، فتجد هذا الرجل الحسود إذا تحدَّثَ الناس على هذا المحسن، يسكت وكأنه لم يسمع شيئًا، هذا لا شك أن عنده حسدًا؛ لأن الذي يحب الخير يحب نشرَ الخير للغير، فإذا رأيت الرجل إذا تَكلَّمَ عن أهل الخير بإنصاف وأثنى عليهم وقال: هذا فيه خيرٌ، وهذا محسن، وهذا كريم، فهذا يدل على طيب قلبه وسلامته من الحسد.
نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الحسد، ومن منكَرات الأخلاق والأعمال.
المصدر: «شرح رياض الصالحين» (2/ 575 - 579)