الزكاة وأثرها في تحقيق التوازن المجتمعي

منذ 2021-02-09

الإسلام يَحرِص على إزالة الفوارق وتحقيق التوازن قدر المستطاع، حتى لا يبقى غني يعيش فوق الثُّريا، وفقير يتلوى فوق الثرى.

الزكاة وأثرها في تحقيق التوازن المجتمعي

الحمد لله رب العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله ربه بين يدي الساعة هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فقد اقتضت حكمة الله عز وجل تقسيم خلقه إلى أغنياء وفقراء، هذا موسَّعٌ عليه في الرزق، وهذا مضيق عليه، قال صالح بن عبدالقدوس:

والنـاس في طلـب المعاشِ وإنما  ***  بالـجد يُرزَقُ منهم من يُرزَق 

لو يرزقون الناس حسب عقولهم  ***  ألفيتَ أكثر مَن ترى يتصدَّق 

لكــنه فضــلُ المـلـيـك عـلـيـهــم  ***   هـذا عليـه مـوسَّـع ومضيَّق 

 

 

فالله عز وجل قد فاوَت بين خلقه في الرزق ليبلوَ الأغنياء، كيف سيفعلون في أموالهم، هل سيأسى الغني إذا رأى فقيرًا يتلوَّى من الجوع، يُلصق كبده بالأرض من المسغبة، لا يجد ثمنَ دواء لمرض أقعده عن السَّعي على مَن يعول، ولا يَملِك ما يعطيه لطبيب يكشف له سببَ ألَمِه، أم أن الغني سينطلق وكأنَّ شيئًا لا يعنيه، يهزُّ كتفيه، وينظر في عِطَفيه، وكأنه لم ير شيئًا ذا بال.

 

إن الغني حينما يفعل ذلك ينحدر إلى مرتبة أحطَّ من مرتبة البهائم العجماوات، ذلك أن البهائم فيها من الرحمة ما يجعلها تحنو على بعضها، ولقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تُصيبه».

 

فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أودَع في قلوب البهائم ما يَجعلها تخشى من إصابة أولادها بالأذى، فكيف ببني آدم إذا رأيناهم لا يتأثرون بمناظر البؤس والحرمان، ولا يسعون في إزالة كرب المكروبين، وآلام المتألمين، إنهم ولا شك أحطُّ رُتبة من البهائم.

 

إنَّ المؤمن الحق، بل الإنسان الحق أيًّا كان دينه لا يستطيع أن يرى مناظر البؤس والحرمان، ثم لا يتأثر قلبه، ولا تدمَع عينه، وحين يفعل ذلك يكون قد خلَع رِبقة الآدمية مِن عُنقه، وانحط إلى دركة أقل من دركات البهائم.

 

تذكُر النوار زوجةُ حاتم الطائي شيئًا من حال حاتم، فتقول:

أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض، واغبرَّ لها أُفق السماء، وراحت الإبل حدبًا حدابير، وضنَّت المراضع عن أولادها، فما تبضُّ بقطرة، وجلفت السنة المال، وأيقنَّا أنه الهلاك، فوالله إني لفي ليلة صنَّبر، بعيدة ما بين الطرفين، إذ تضاغى الأصبية من الجوع، عبدالله وعدي وسفانة، فقام حاتم إلى الصبيين، وقمت إلى الصبيَّة، فوالله ما سكنوا إلا بعد هدأة من الليل، ثم ناموا ونمت أنا معه، وأقبل يعلِّلني بالحديث، فعرَفت ما يريد فتناومت، فلما تهورت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت، فقال: من هذا؟ فولَّى ثم عاد، فقال: من هذا؟ فولى ثم عاد آخر الليل، فقال: من هذا؟ فقالت: جارتك فلانة، أتيتك من عند صبية يتعاوون عواء الذئاب من الجوع، فما وجدت معولًا إلا عليك أبا عدي، فقال: والله لأشبعنَّهم، فقلت: من أين؟ قال: لا عليك، فقال: أعجليهم، فقد أشبعك الله وإياهم، فأقبلت المرأة تحمل ابنين ويمشي جانبها أربعة، كأنها نعامة حولها رئالها، فقام إلى فرسه فوجأ لبتها بمديته، فخر، ثم كشطه، ودفع المدية إلى المرأة فقال: شأنك الآن، فاجتمعنا على اللحم، فقال: سوأة، تأكلون دون الصرم؟ ثم جعل يأتيهم بيتًا بيتًا، ويقول: هبوا أيها القوم، عليكم بالنار، فاجتمعوا، والتفع بثوبه ناحية ينظر إلينا لا والله ما ذاق منه مزعة، وإنه لأحوج إليه منا، فأصبحنا وما على الأرض من الفرس إلا عظم، أو حافر.

 

أرأيتم؟!

ألم أقل لكم: إن الإنسان الحق أيًّا كان دينه يأسى لِما يصيب إخوانه، ويَحزن لِما أصابهم من فاقة ومسغبة، ويسعى في إدخال السرور عليهم.

 

ها هو حاتم الطائي لم يُدرك الإسلام، ولم تتنعَّم عينه برؤية خير الأنام، ولم تتشنف أذنه بسماع أطيب الكلام، لكنها الإنسانية، الإنسانية فقط التي جعلت حاتمًا يسعى لرسم البسمة على الوجوه الحزينة، وإزالة الجوع عن الأبدان المعذبة، إنها الإنسانية، ما حلَّت قلبًا إلا ملأته بالرحمة، وما خلا منها قلب إلا غدا خرابًا تنعق فيه البوم، وتصيح فيه الغربان.

 

إن الإسلام قد عُنِيَ بالمجتمع الإنساني، وعلاج مشكلاته وأدوائه، وذلك لأنه دين إنساني، جاء بتكريم الإنسان، ففيه تتعانق المعاني الروحية والمعاني الإنسانية جنبًا إلى جنب.

 

والإسلام لا يتصور الإنسان فردًا منقطعًا في فَلاة، أو منعزلًا في كهف أو دير، بل يتصوَّره دائمًا في مجتمع يتأثر به ويؤثر فيه، ويعطيه كما يأخذ منه، لهذا خاطب الله عز وجل بالتكاليف الجماعة المؤمنة، لا الفرد المؤمن: (يا أيها الذين آمنوا)، وكانت مناجاة المؤمن في صلاته: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].

 

وإذا كان الإسلام قد عُني بالمجتمع كله، فقد عُني عناية خاصة بالفئات الضعيفة، كالفقراء واليتامى والمساكين، وذلك لأن كل واحد من هذه الأصناف يشكو ضعفًا في ناحية، فاليتيم ضعفه من فقد الأب، والمسكين ضعفه مِن فقْد المال، وإذا كانت بعض المجتمعات تُهمل هذه الفئات الضعيفة، ولا تُلقي لها بالًا، ولا تكاد تعترف لها بحق؛ لأنها لا تُرجى ولا تُخشى، وليس بيدها مقاليد السلطان، فإن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم قد نبَّه على قيمة هذه الفئات ومكانها في المجتمع، فهي عدة النصر في الحرب، وصانعة الإنتاج في السِّلم، فبجهادها وإخلاصها يتنزَّل نصر الله على الأمَّة كلها، وبجهودها وكدحها في سبيل الإنتاج، يتوفر الرزق لها.

 

وإلى هذه الحقيقة يشير حديث النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص فيما رواه الإمام البخاري: «هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم».

 

ومن هنا حرَص الإسلام على أن تكون هذه الفئات مستريحة في حياتها، مطمئنة إلى أنَّ معيشتها مكفولة، بحيث يجب أن يوفَّر لكل فردٍ فيها ما يضمَن له عيشة كريمة، وجعل لذلك فريضة معينة، وركنًا من أركان الإسلام، لا يقوم الإسلام إلا به، هذا الركن الأساسي هو الزكاة.

 

وقد فُرضت الزكاة في السنة الثانية للهجرة، وقد قيل: إنها فُرضت في مكة، لكن تحديد أنصبائها ومقاديرها إنما كان بالمدينة بعد فرض الصيام، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم فرضية الزكاة في أحاديث كثيرة؛ منها حديث ابن عمر المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا».

فأعلن رسول الله في هذا الحديث أركان الإسلام، فبدأها بالشهادتين، وثنى بالصلاة، وثلَّث بالزكاة، وفي ذلك بيان عظيم لأهميتها.

 

وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من منعها، فقال فيما رواه البخاري عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( «من آتاه الله مالًا فلم يؤدِّ زكاته، مُثِّل له يوم القيامة شجاعًا أقرعَ له زبيبتان، يطوِّقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلِهْزمتيه (يعني شدقيه) ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك» ، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180].

 

وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقَّها إلا جُعلت له يوم القيامة صفائحَ، ثم أُحمي عليها في نار جهنم، فيُكوى بها جنبه وجبهته وظهرُه، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار....» الحديث.

 

ولم تقف السنة النبوية عند العقوبة الأخروية لمانع الزكاة، وإنما هدَّدت بالعقوبة الدنيوية القدرية والشرعية كلَّ مَن يبخل بحق الله وحق الفقير في ماله، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما منَع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين» رواه الطبراني في الأوسط.

 

والسنين: جمع سنة وهي المجاعة والقحط.

وفي حديث آخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولم يَمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا»  رواه ابن ماجه والبزار من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

 

وأما العقوبة الشرعية، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الزكاة: «مَن أعطاها مؤتجرًا فله أجره، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربِّنا، لا يحل لآل محمد منها شيء»  (رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه).

 

ولم يقف الإسلام عند عقوبة مانع الزكاة بالغرامة المالية، أو بغيرها من العقوبات التعزيرية، بل أوجب إعلان الحرب على مانعي الزكاة، إذا كانوا ذوي شوكة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله»  (رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر) .

 

وللزكاة أهداف سامية، إضافة إلى كونها ركنًا من أركان الإسلام، وقربة يتقرَّب بها المسلم إلى ربه سبحانه وتعالى، هذه الأهداف بعضها خاص بالمعطي، وبعضها خاص بالآخذ، وبعضها عام للمجتمع.

 

فمن أهداف الزكاة بالنسبة للمُعطي أنها تطهر المزكي من الشح الذي أحضرته الأنفس، وابتُليَ به الإنسان، فقد شاء الله عز وجل أن يغرس في الإنسان مجموعة من الدوافع النفسية والغرائز تسوقه سوقًا إلى السعي في الأرض وعمارتها، منها حب التملك وحب البقاء، وكان من أثر هذه الغرائز شحُّ الإنسان بما في يده: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100].

 

فالزكاة تطهِّر صاحبها من خبث البخل المهلك، وإنما طهارته بقدر بذله، وفرحه بإخراجه.

والزكاة كما تحقِّق معنى التطهير للنفس، تحقق التحرير لها من ذل العبودية للمال، والتعلق بالدينار والدرهم، فإن الإسلام يحرِص على أن يكون الإنسان عبدًا لله وحده، متحررًا من الخضوع لأي شيء سواه.

 

والزكاة تدريب على الإنفاق والبذل، فللعادة أثرُها العميق في توجيه سلوك الإنسان، والمسلم الذي يتعود الإنفاق والبذل، يصبح الإنفاق عنده صفة أصيلة من صفاته، وخلقًا عريقًا من أخلاقه.

 

والزكاة شكر لنعمة الله، فالزكاة توقظ في نفس معطيها معنى الشكر لله، والاعتراف بفضله وإحسانه، فإن لله عز وجل - كما قال الإمام الغزالي رحمه الله - نعمة على عبده في نفسه وماله، فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن، والمالية شكر لنعمة المال، وما أخسَّ مَن ينظر إلى الفقير وقد ضُيِّق عليه الرزق وأُحوجَ إليه، ثم لا تسمح نفسه بشكر نعمة الله على إعفائه من السؤال، وإحواج غيره إليه برُبع العشر أو العشر من ماله؛ الإحياء، ج1، ص193.

 

الزكاة علاج للقلب من حب الدنيا:

فإن الاستغراق في حب الدنيا يقطع القلب عن حب الله والسير إليه، فاقتضت حكمة الله عز وجل تكليف مالك المال بإخراج جزءٍ منه كسرًا لشدة الميل إلى المال، ومنعًا من انصراف النفس بالكلية إليه، وتنبيهًا على أن السعادة لا تحصُل بانشغال النفس بطلب المال، وإنما تحصل بإسعاد الآخرين، ورسم البسمة على وجوههم.

 

إن المال في نظر الإسلام نعمة وخير، لكنه خير يُبتلى به الإنسان، كما يبتلى بالشر؛ قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}  [الأنبياء: 35].

 

والسعيد مَن عدَّ نفسه أمينًا على المال، ومستخلَفًا فيه، فأنفقه حيث أمره الله؛ قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7].

 

الزكاة مَجلبة للمحبة:

فالزكاة تربط بين الغني والفقير برباط متين، سُداه المحبة، ولُحمته الإخاء، فإن الناس إذا علموا في الإنسان رغبته في نفعهم، وسعيه في جلب الخير لهم، أحبوه، ومالت قلوبهم إليه، ففي الأثر (جُبلت القلوب على حبِّ مَن أحسن إليها)؛ رواه أبو نعيم في الحلية.

 

الزكاة تطهير للمال:

فإنَّ تعلق حقُّ الغير بالمال يجعله ملوثًا، لا يُطهَّر إلا بإخراجها منه، وفي مثل هذا المعنى يقول بعض السلف: (الحجر المغصوب في الدار رهنٌ بخرابها)، وكذلك الدرهم الذي استحقه الفقير في المال رهن بتلويثه كله، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا أدَّيت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شرَّه»  (رواه ابن خزيمة).

 

الزكاة نماء للمال:

فالزكاة وإن كانت في ظاهرها تنقص المال، إلا أن هذا القدر القليل الذي يدفعه الغني يعود عليه أضعافًا من حيث يدري أو لا يدري، فإن المؤمن يعلم أن الله عز وجل بيده خزائن السماوات والأرض، وهو مالك كل شيء، وقد وعد الله عز وجل المنفقين بالخلف؛ فقال سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].

 

ثم إن الجزء الذي يؤخذ من مال المسلم في كل حول يكون دافعًا له لتثمير ماله، ليعوض النقص الذي نتج عن أداء الزكاة، وهذا التثمير يعود على رب المال بأضعاف ما أُخِذ منه، وأما بالنسبة للآخذ، فإن الزكاة تحرِّر آخذها من ذل الحاجة، إن الإسلام يريد للناس أن يَحيوا حياة طيبة، ينعمون فيها بالعيش الرغد، ويُحسون بالسعادة تَغمُر جوانحهم، والشعور بنعمة الله يملأ عليهم أنفسهم وحياتهم.

 

إن الإسلام يحب للناس أن يسعدوا بالغنى، ويكره لهم أن يشقوا بالفقر، وتشتد كراهيته للفقر إذا كان ناشئًا عن سوء توزيع الثروة، والظلم في المجتمع، وبغْي الناس بعضِهم على بعض.

 

وليس أدلُّ على حب الإسلام للغنى وكراهيته للفقر من أن الله تعالى امتنَّ على رسوله بالغنى، فقال سبحانه: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى } [الضحى: 8].

 

وامتنَّ الله على المسلمين بعد الهجرة، فقال: {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26].

 

وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى»  (رواه مسلم عن ابن مسعود).

 

ومن هنا فرَض الله الزكاة، وجعَلها من دعائم الإسلام ليحرِّر الفقير من ذل الحاجة، وليتفرغ لعبادة ربِّه، ويشارك في نهضة مجتمعه.

 

الزكاة تطهير لنفس الفقير من الحسد والبغضاء:

فإن الإنسان إذا عضتْه أنياب الفقر، ودهته داهية الحاجة، ورأى من حوله ينعمون بالخير، ولا يمدون له يد العون، بل يتركونه لمخالب الفقر وأنيابه، لا يسلم هذا الإنسان من البغضاء والحقد على المجتمع الظالم الذي لم يَأْسَ لحزنه، ولم يسعَ لإزالة أسباب تعاسته.

 

إن الحسد والبغضاء داءٌ فتاك، وآفة قاتلة، متى ما تفشَّت في مجتمع تقطعت فيه أواصرَ الرحم، ونزعت منه الرحمة، وساد التقاطع والتدابر، وانتشر القتل والنهب وسفك الدماء.

 

لهذا شرعت الزكاة ليحس الفقير بحب الغني له، وسعيه فيما ينفعه، فتحل المحبة في قلوب الفقراء للساعين في سعادتهم من الأغنياء، ويصبحون حرسًا لمال الأغنياء؛ لأنه سببٌ لنعمتهم وسعادتهم.

 

أهداف الزكاة وآثارها في المجتمع:

فمن هذه الأهداف أنها تحيي قيمة الضمان الاجتماعي، ذلك أن الزكاة جزءٌ من التكافل الاجتماعي في الإسلام، ذلك التكافل الذي لم يعرفه الغرب إلا في حدود ضيقة، هي دائرة التكافل المعيشي بمساعدة الفئات العاجزة والفقيرة، وعرفه الإسلام في دائرة أعمق وأوسع.

 

إن الذين يؤدون الزكاة هذا العام قد يصبحون فقراءَ في العام القادم بنقص ما في أيديهم عن حاجاتهم الأساسية، أو حلول كوارث تجعلهم يستدينون، فيصبحون من الغارمين، أو يتعرضون لسفر بعيد، فيصبحون من أبناء السبيل، فيُعطون من الزكاة، فكأنهم حينما أعطوا في العام الماضي حُفِظت أموالهم لهم إلى حين حاجتهم إليها، وهذه صورة من صور الضمان الاجتماعي.

 

من أهداف الزكاة:

إحداث التوازن المجتمعي:

ليس هدف الزكاة قاصرًا على محاربة الفقر، ولكن من أهداف الزكاة توسيع قاعدة التملك، وتكثير عدد الملاك، وتحويل أكبر عدد من الفقراء المعوزين إلى أغنياء مالكين لِما يكفيهم.

 

ذلك أن من أهداف الزكاة إغناء الفقير قدرَ المستطاع، وإخراجه من دائرة الحاجة إلى دائرة الكفاية الدائمة.

 

ومن هنا يعمل الإسلام على عدالة التوزيع، وتقارب الملكيات في المجتمع، وهو بنظام الزكاة يعمل على إعادة التوازن، وتقريب المستويات بعضها من بعض، كما نصَّ على ذلك كتاب الله؛ قال تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}  [الحشر: 7].

 

وإذا كان الإسلام قد أقرَّ التفاوت بين الناس في المعايش والأرزاق؛ لأنه بلا شك نتيجة حتمية لتفاوت الناس في المواهب والملكات، فليس معنى ذلك أن يدع الإسلام الغني يزداد غنًى، والفقير يزداد فقرًا، فتتَّسع الشُّقة بين الفريقين، ويصبح الأغنياء طبقة كُتب لها أن تعيش في أبراج من العاج تتوارث النعيم، ويُمسي الفقراء طبقة كُتب عليها أن تموت في أكواخ من البؤس والحرمان،

 

بل تدخَّل الإسلام بتشريعه للزكاة لتقريب المسافة بين هؤلاء وأولئك، فعمِل على الحد من طغيان الأغنياء، والرفع من مستوى الفقراء.

 

إن أعظم آفة تُصيب المجتمع وتَهُزُّ كِيانه هزًّا، وتَنخِرُ في عظامه - أن يوجد الثراء الفاحش إلى جانب الفقر المدقع، أن يوجد من يملك القناطير المقنطرة، ومن لا يملك قوت يومه، أن يوجد من يضع يده على بطنه يشكو التُّخمة، وبجواره من يضع يده على بطنه يشكو عضة الجوع.

 

يقول الأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي معبرًا عن هذه الحالة:

مررت ليلة أمس برجل بائس فرأيتُه واضعًا يده على بطنه كأنما يشكو ألَمًا، فرثيت لحاله وسألته: ما باله؟ فشكا إليَّ الجوع، ففثأْتُه عنه ببعض ما قدرتُ عليه، ثم تركته وذهبت إلى زيارة صديق لي من أرباب الثراء والنعمة، فأدهشني أني رأيته واضعًا يده على بطنه، وأنه يشكو من الألم ما يشكو ذلك البائس الفقير، فسألته عما به فشكا إليَّ البِطنة، فقلت: يا للعجب لو أعطى ذلك الغني ذلك الفقير ما فضل عن حاجته من الطعام، ما شكا واحد منهما سقمًا ولا ألَمًا.

 

وصدق المنفلوطي رحمه الله.

وما دعا إليه هو بعينه ما دعا إليه الإسلام من عدم التفاوت الشاسع بين طبقات المجتمع، وأقل ما يَطمَح إليه الإسلام هو أن تختفي الفئة التي لا تجد ما يَسُدُّ رَمَقَها، ويُشبع جوعتها ويُواري سَوْءَتها، ولا يبقى إلا الفئتان المتقاربتان بعد أن ترتفع تلك الفئة لتكون قريبة من أعلى الفئات وأغناها وأوسعها ثراءً.

 

فالإسلام يَحرِص على إزالة الفوارق وتحقيق التوازن قدر المستطاع، حتى لا يبقى غني يعيش فوق الثُّريا، وفقير يتلوى فوق الثرى.

 

لذلك شُرعت الزكاة لإحداث التقارب بين فئات المجتمع، ويوم أن تُطبَّق الزكاة تطبيقًا صحيحًا، ويوم أن يؤدي كلُّ غني ما عليه من زكاة، سيبقى اسم الفقر أثرًا بعد عين، وسيوجد جيلٌ يقرأ اسم الفقر في الكتب، ولا يَعرِف معناه؛ لأنه لم يرَ مَن يَنطبق عليه هذا الوصف.

{وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 51].

 

أسأل الله أن يعلِّمنا وإياكم ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علَّمنا، وأن يجعل ما قلناه وما علِمناه زادًا إلى حسن المصير إليه، وعتادًا إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

المعتز بالله الكامل محمد علي

إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية

  • 6
  • 0
  • 2,943

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً