{وقالوا سمعنا وأَطعنا}

منذ 2021-02-11

هذه إحدى أهم منطلقات النهوض: الثقة المطلقة بالوحي، والإذعان غير المشروط لإرشاده وهداياته.

{وقالوا سمعنا وأَطعنا}

لقد كانت حادثة غريبة، أو على الأقل يعتبرها بعض الناس في زماننا هذا غريبة، وصدقاً إنني أول مرة قرأتها دهشتُ وهالتني طريقة الصحابة الكرام في تلقيهم للوحي. تلك الحادثة التي جرت في عصر النبوة بين النبي صلى الله عليه وسلم  وأصحابه الكرام، والتي أخبرنا بها أبو هريرة رضي الله عنه، حيث قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِـمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]، قال: فاشتدَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم  ثم بركوا على الرُّكب، فقالوا: أيْ رسول الله! كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أنْ تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.

فلما اقترأَها القوم؛ ذلَّتْ بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْـمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ الْـمَصِيرُ} [البقرة: 285]، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (قال: نعم) {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} (قال: نعم) {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (قال: نعم) {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] (قال: نعم)»[1].

كان القوم يسمعون الآية فيحملونها على الفور على محمل الطاعة والامتثال، لا وقت لتأجيل طلب الفهم ولا مندوحة عن المبادرة بتنفيذ المطلوب، كيف وقد ترسخ في عقولهم المستنيرة بنور النبوة أنَّ القرآن إنما نزل لتُطاع أوامره وليُعمَل به وليتحول إلى واقع وليكون سلطاناً على القلوب والعقول والمشاعر والسلوك والعلاقات، وعلى كل سكون وحركة، بل ليكون سلطاناً على كل ذي سلطان، هذا التصور عن القرآن الكريم هو الذي جعلهم يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم  في قوله تعالى: {وَإن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّه} مبدين مشقَّة التحكم في الخواطر والأفكار العارضة والميول القلبية، فهي أشد مجاهدة من مجاهدة النفس على أعمال الإسلام العظيمة كالصلاة والصيام والجهاد، إنهم يُبدون للنبي صلى الله عليه وسلم  انعدام فرص النجاح في هذه النقطة بالذات، وهم بذلك لا يعترضون (حاشاهم)؛  وإنما يطلبـون التخفيف مراعاة للحالة البشرية التي لا تكون فيها الأحوال النفسية في حيز التحكم والسيطرة.

وهنا يقِفُهم النبي صلى الله عليه وسلم  على ما هو أعظم من خلجات النفس التي سيحاسبون عليها، يقفهم على قضية القضايا وروح الإسلام ومِفْصل العبودية، وينقلهم من الفرع إلى الأصل ومن الأطراف إلى القلب، ويأخذ بأيديهم إلى مسألة الخضوع التام لنصوص الوحي الكريم، ولو كانت مشقتها مما لا يطاق.

تسليمٌ غير مشروط:

كل سمع وطاعة لغير الله تعالى ولغير رسوله صلى الله عليه وسلم  فهما مقيَّدان ومشروطان، أما السمع والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم  فهما بإطلاق وبلا قيود ولا شروط {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِـمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْـمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: ٤٢]، وهذا الفارق العظيم والمحوري بين عبودية غير الله وعبادة الله.

حقيقة الإسلام أنْ تُسلِم قلبك لله ولرسوله، أيْ تجعله تحت أمر الوحي ونصوص القرآن والسنة وتوجيهها وإرشادها، فلا تفعل شيئاً إلا بدليل - كما يعبِّر السلف أحياناً بذلك - ولا تسير في حياتك إلا بنور النصوص، وأنْ توقن أنها هداية مطلقة وصواب مطلق ورشاد مطلق، وأنْ تجعلها حاكمة على أفكارك وتصوراتك وسلوكك وعلاقاتك وحركاتك، وأنْ تكون مصدر تقويمك لكل شيء: الناس والكيانات والأعمال والأحداث والمواقف والتصورات، وأنْ تخضع لله ولأمره ولدينه ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم. والخضوع معنى يحمل في طياته الذل والاستخذاء وانحناء الجسد وتطامن الرأس لهذا الذي تخضع له، وميل الرقبة على هيئة الذليل المترقب والمسكين الذي يشعر بافتقاره وحاجته لذلك الذي يخضع له، وهو هنا كلام الله تعالى وقرآنه ووحيه. تلك حقيقة الإسلام وروح الإيمان وفرقان العبودية.

وقد امتثل الصحابة الكرام هذا الخضوع والتسليم، حين التفت بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى هذا الأمر، فقالوا كما علَّمهم: سمعنا وأطعنا. قال القرطبي: «فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم  على ما فهموه، وبيَّن لهم أنَّ لله تعالى أنْ يكلف عباده بما يطيقونه وبما لا يطيقونه، ونهاهم عن أنْ يقع لهم شيء مما وقع لضُّلال أهل الكتاب من المخالفة، وأمَرهم بالسمع والطاعة، والتسليم لأمر الله تعالى على ما فهموه، فسلَّم القوم لذلك وأذعنوا، ووطنوا أنفسهم على أنهم كُلفوا في الآية بما لا يطيقونه، واعتقدوا ذلك، فقد عملوا بمقتضى ذلك العموم وثبتَ ووَرَد، فإنْ قُدِّر رافعٌ لشيء منه فذلك الرفع نسخٌ لا تخصيص. وعلى هذا فقول الصحابي: (فلما فعلوا نسخها الله) على حقيقة النسخ، لا على جهة التخصيص»[2]. والفرق بين النسخ والتخصيص هنا، هو التراخي والمدة الزمنية التي تكون بين الحكم وناسخه، بخلاف التخصيص الذي يقترن فيه الحكم مع ما يخصصه في آن معاً، وهذا يقتضي بقاؤهم فترة من الزمن على الحال التي وصفهم الراوي عليها من التسليم لله والوجل من الحساب.

وهنا ظهرت علامة الإيمان في ذلك المجتمع الصالح، حين مزجوا شعور الوجل والخشية من الله تعالى في مسألة الحساب على الأفكار والخواطر، الذي لازمهم... مزجوه بتكرار القول: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. كان التكرار سلوكاً ملحوظاً متكرراً في مختلف الأحوال إلى الدرجة التي خلدها القرآن، حيث قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْـمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ الْـمَصِيرُ} [البقرة: ٥٨٢]. خلَّد القرآن إيمانهم بالقرآن بما فيه من التكليف بما يطاق وبما لا يطاق، وخلَّد قولهم: سمعنا وأطعنا، ثم نسخ الله تعالى التكليف بما لا يطاق. ولذلك قال ابن عطية: «وقوله تعالى {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} مدحٌ يقتضي الحضَّ على هذه المقالة، وأنْ يكون المؤمن يمتثلها غابرَ الدهر، والطاعةُ قبولُ الأوامر»[3].

والله عز وجل يبين في موضع آخر من كتابه أنَّ هذا الإذعان والانقياد التام للوحي هو الفرض الذي يلزم المسلم لصحة إيمانه فيقول جل شأنه: {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْـمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} [النور: ١٥]. فهو سبحانه يقصر حالة المؤمنين حين دعوتهم إلى حكمه وقوله على الإذعان التام والقبول التام، ولاحِظ أداة الحصر (إنما) أيْ لا توجد حالة غير هذه الحال لدى المؤمن.

ولذلك فأنت تجد سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  والتابعين وأئمة السلف وعلمائهم وصلحائهم على هذا الهدي.

أما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  فقد تكرر عليهم التعرض لهذا المفهوم في الفترة التي قضوها في صحبة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ؛ سواء كان تنزيلاً من السماء أو مواقف يربيهم فيها نبينا صلى الله عليه وسلم  عليه، مرات كثيرة؛ ففي العهد المكي المبارك كانوا يصطلون بنار الإذعان الذي لم تألفه نفوسهم من قبل والذي عاداهم عليه قومهم فصبروا على الطاعة المطلقة لله ورسوله صبراً لا يشبهه إلا رسوخ الجبال أمام العواصف والأمطار، وأما في العهد المدني الميمون فقد كانوا يلقَّنُون هذا المفهـوم في كثير من المواقف والأحداث، منها ما حصل لهم في سياق أواخر سورة البقرة، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم  لحذيفة في الخندق: «قم يا حذيفة». ومنها ما حصل لعمر وسائر الصحابة في الحديبية، ومنها كثرة الآيات التي نزلت بهذا الشأن في أوقات متفرقة وفي ظروف مختلفة، كقوله جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36] ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 1 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ 2 إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: ١ - ٣].

كان القرآن يؤكد على هذا الأمر باعتباره لب العبودية، وروح الإيمان، والفرقان بين النفاق والإيمان طوال فترة التنزيل، وهو كما يبدو لي سرَّ تفوق الأمة حينها وسر صلاح المجتمع حينها وسر استعلاء الأمة على أعدائها، وأنَّ الأمة حين تضعف عن الالتزام غير المشروط بنصوص الوحي والإذعان لها فإنها تعرِّض نفسها للمخاطر وتلقي بيدها إلى التهلكة، لأنَّ الوحي هو المصدر الوحيد للهداية، وهو المصدر الوحيد للرشاد، وهو المصدر الوحيد للخروج من الأزمات، وهو المصدر الوحيد لاستلهام معاني القوة وركائز التمكين.

والأمة اليوم تواجه امتحاناً في الوصول إلى هذه القناعة، امتحاناً صعباً للغاية، في ظل الهيمنة الأجنبية على الحضارة والانتفاش الغربي للعلوم وتعدد المرجعيات، تواجه امتحان العبودية في القرن الخامس عشر والذي يكمن في الإذعان للنص، والتسليم لأحكامه، والرضا بتوجيهه، والاقتناع بهداياته.

وإذا كانت الأمة متخلفـة في المجالات التصنيعيـة والاقتصادية، فإنها أشد تخلفاً في تمسكها بهدايات الوحي وإرشاداته، وإنها لن تستطيع منافسة الأمم وهي مُعرِضة عن الحبل الممدود بين السماء والأرض، عن الوحي الذي يصلنا بالله تعالى القادر على كل شيء والقاهر فوق كل شيء.

هذه إحدى أهم منطلقات النهوض: الثقة المطلقة بالوحي، والإذعان غير المشروط لإرشاده وهداياته.

قصة الانتكاسة:

هذا الوصف لحالة المؤمنين الإذعانية تجاه الوحي مسبوق في العرض القرآني بوصف الذين غضب الله عليهم من بني إسرائيل، الذين وجههم أنبياؤهم إلى الاستسلام لوحي الله تعالى؛ فكان لهم موقف مغاير، قال تعالى: {وَإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمَانُكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 93]. قال الطبري: «وأما قوله:  {وَاسْمَعُوا}  فإن معناه: واسمعوا ما أمرتكم به وتقبلوه بالطاعة، كقول الرجل للرجل يأمره بالأمر: سمعت وأطعت، يعني بذلك: سمعت قولك، وأطعت أمرك. وأما قوله: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} فإنه خبر من الله - عن اليهود الذين أخذ ميثاقهم أنْ يعملوا بما في التوراة، وأنْ يطيعوا الله فيما يسمعون منها - أنهم قالوا حين قيل لهم ذلك: سمعنا قولك، وعصينا أمرك»[4].

والبغوي وغيره من أهل التفسير يشيرون إلى كون هذا القول تعبيراً عن حالة مسلكية لدى القوم، فيقول: «قال أهل المعاني: إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم ولكنْ لما سمعوه وتلقوه بالعصيان، فنُسب ذلك إلى القول اتساعاً»[5].

وهذه الحال أودت ببني إسرائيل في مهاوي التيه والضلال، وألقت بهم في سفوح الخسائر الحضارية، لقد أصبح اليهود بعد رفضهم القلبي للوحي واعتدادهم بذواتهم نشازاً بين الأمم، أصبحوا حواشي في متون الحضارات والدول، وقد كانوا من قبل محل الاصطفاء والتكريم قال تعالى: {وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20].

وهي رسالة من الله تعالى بأنَّ مصير منْ تكون هذه حاله فسيناله المصير نفسه، فهو سبحانه يدلُّ الأمة على مصير بني إسرائيل حين أعرضت عن الوحي، وسنة الله تعالى لا تحابي أحداً.

لكن ما هي الأسباب الكامنة خلف هذه الانتكاسة؟

هناك عدد من الحيثيات والأسباب التي تحدَّث عنها القرآن، ولعل من أهمها الاستخفاف بحق الله تعالى وعدم إعطائه حق قدره من التعظيم والإجلال والرغبة والرهبة؛ فهم الذين قالو: إنَّ الله فقير ونحن أغنياء، وهم الذين قالوا: إنَّ الله لما خلق السماوات والأرض تعب فاستراح. وهذه المقولات تنبئ عن انتقاص في تعريف الذات الإلهية وتشبيهها بالمخلوقين وعدم اعتقاد الكمال المطلق لله تعالى وصفاته، وهذا ما استجلبوا به التشنيع والغضب منه تعالى فقد قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّـمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].

قال السعدي: «هذا تشنيع على من نفى الرسالة من اليهود والمشركين، وزعم أنَّ الله ما أنزل على بشرٍ من شيء، فمن قال هذا فما قدر الله حق قدره، ولا عظمه حق عظمته؛ إذ هذا قدْح في حكمته، وزعْم أنه يترك عباده هملاً لا يأمرهم ولا ينهاهم، ونفْي لأعظم منَّة امتن الله بها على عباده، وهي الرسالة، التي لا طريق للعباد إلى نيل السعادة والكرامة والفلاح إلا بها، فأيُّ قدح في الله أعظم من هذا»[6].

بل وصل بهم الحال إلى طلب عبادة الأوثان، والوقوع في عبادة العجل من دون الله تعالى وموسى عليه السلام ما يزال حيّاً، وقد رأوا من آيات الله العظيمة ما ينبغي أنْ يستيقنوا معها بعظمة الله وقوَّته.

وهذا الأمر المجتمِع في مسألة معرفة الله تعالى وتعظيمه وإجلاله حق التعظيم والإجلال هو ركن ركين في مسألة السمع والطاعة، ألا ترى أن الصحابة الكرام حين نزلت الآية الأولى ذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم  وجثوا على الركب خشية ورهبة من الله وعرفاناً بقصور ذواتهم في حقه سبحانه، ألا ترى أنَّ عبودية الخضوع والإذعان للنص متولدة عن توحيدٍ نقي واعتقاد صافٍ في الله تعالى وربوبيته وإلهيته.

نحن بحاجة إلى غرس هذا الاعتقاد في نفوسنا وتوكيده، عبر كل وسيلة ومن خلال أي برنامج، لنصل  - أو نقارب - المنزلة التي يقول الله تعالى فيها عنا: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}.

 


[1] أخرجه مسلم، حـ (199).

[2] المفهم: 1/337.

[3] التفسير: 1/392.

[4] تفسير الطبري: 2/365.

[5]  معالم التنزيل: 1/122.

[6] تفسير السعدي: 1/264.

_________________________________
الكاتب: فايز بن سعيد الزهراني

 

  • 6
  • 0
  • 4,216

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً