الفرق بين الرجل والمرأة في الحداد على الميت
انَّ الإحداد حرام في حقِّ الرِّجال، واجب في حقِّ الزَّوجة، جائز في حقِّ المرأة عمومًا على مَنْ يَعُزُّ عليها فَقْدُه، بشرط: ألاَّ يزيد عن ثلاث ليالٍ.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمَّا بعد:
الحداد لغة: الحداد في اللُّغة:
مأخوذ من التَّرك، فالحادُّ والمحدُّ من النِّساء التي تترك الزِّينة والطِّيب بعد زوجها. يُقال: حَدَّتْ تَحِدُّ وَتَحُدُّ حَدًّا وحِدادًا وَأحَدَّتْ.
قال أبو عبيدة رحمه الله: الحداد مأخوذ من المنع؛ لأنَّها مُنِعت من الزِّينة، ومنه قيل للبوَّاب: حدَّاد؛ لأنَّه يمنع النَّاس من الدُّخول [1].
الحداد اصطلاحًا: عُرِّف الحداد بتعريفات متقاربة مدارها على منع المتوفَّى عنها زوجها من أشياء مخصوصة، في مدَّة مخصوصة. فتمنع المعتدَّة من الزِّينة والطِّيب والتَّعرُّض للخطَّاب ونحو ذلك في مدَّة شرعيَّة هي أربعة أشهر وعشر [2].
وفي هذا البحث مسألتان:
المسألة الأولى: حداد الرَّجل على الميِّت.
المسألة الثانية: حداد المرأة على الميِّت.
المسألة الأولى: حداد الرَّجل على الميِّت
دلَّت النُّصوص الشَّرعية أنَّ الحداد لا يُشرع في حقِّ الرِّجال البتَّة، وإنَّما هو مشروع في حقِّ النِّساء؛ لأنَّ الخِطاب فيه ورد بصيغة لا تحتمل دخول الرِّجال فيها بحال.
والمتأمِّل في أقوال أهل العلم عن الحداد يلحظ أنَّهم يذكرون مشروعيَّة الحداد في حقِّ النِّساء، ولم يقل أحد منهم بمشروعيَّته في حقِّ الرِّجال، وربَّما صرَّح بعضهم - أحيانًا - بعدم مشروعيته لهم [3].
الأدلَّة:
1- ما جاء عن أمِّ حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»[4]. وجه الدَّلالة: أنَّ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ» يخصُّ النِّساء، ولا يدخل فيه الرِّجال، كما هو معروف عند الأصوليِّين [5].
2- مات في حياة النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم خَلْقٌ كثير ممن يُحِبُّهم كإبراهيمَ ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وشهداءِ أُحد، وغيرهم، فلم يفعل هذا الحداد، ولا أرشد الرِّجالَ إليه - كما أرشد النِّساء، وبيَّن ضوابطه في حقِّهنَّ - ولو كان مشروعًا للرِّجال لبيَّنه لهم [6].
3- أنَّ الصَّحابة الكرام رضي الله عنهم هم أسبقُ النَّاس إلى كلِّ خيرٍ، وهم أقربُ إلى النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم من عامَّة النِّساء، فلو كان مشروعًا في حقِّهم لمَا تردَّدوا في فعله.
المسألة الثانية: حداد المرأة على الميِّت
أولًا: إحداد المرأة على زوجها:
ذهب كافَّة أهل العلم إلى وجوب الحداد على الزَّوجة المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا، وهو مذهب الأئمَّة الأربعة [7].
الأدلة:
1- {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [البقرة: 234].
وجه الدَّلالة: وجوب الإحداد على المرأة المتوفَّى عنها زوجها مدَّة عدَّتها، بالامتناع عن الزِّينة والتَّعرُّض للخُطَّاب، فإذا انقضت العِدَّة، فلا حرج عليها أن تتزيَّن، وتتعرَّض للخطَّاب [8].
2- ما جاء عن أمِّ حبيبة رضي الله عنها لمَّا تُوفِّي أبوها أبو سفيان بنُ حَرْبٍ دَعَتْ بِطيبٍ فيه صُفْرَةٌ في اليَوْمِ الثَّالثِ، فَمَسحَتْ عارِضَيْهَا وذِرَاعَيْهَا، وَقَالَتْ: إنِّي كُنْتُ عَنْ هَذَا لَغَنِيَّةً، لَوْلاَ أنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إلاَّ عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشَرًا»[9]. فقوله: (لاَ يَحِلُّ): يدلُّ على تحريم الإحداد على غير الزَّوج، وعلى وجوب الإحداد المدَّة المذكورة على الزَّوج [10].
3- ما جاء من حديث زينب بنتِ جحشٍ رضي الله عنها حِيْنَ تُوُفِّيَ أُخُوها، فَدَعَتْ بِطيبٍ فَمَسَّتْ، ثُمَّ قَالَتْ: ما لِي بالطِّيبِ مِنْ حاجَةٍ، غَيْرَ أنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى المِنْبَرِ يقولُ: «لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَة تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إلاَّ عَلَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»[11]. قال النَّووي رحمه الله: «فيه دليل على وجوب الإحداد على المعتدَّة من وفاة زوجها، وهو مُجمع عليه في الجملة، وإن اختلفوا في تفصيله، فيجب على كلِّ معتدةٍ عن وفاةٍ، سواء المدخول بها وغيرها»[12].
ثانيًا: إحداد المرأة على غير زوجها: يجوز للمرأة أن تُحِدَّ على مَنْ يَعُزُّ عليها فقده غير زوجها؛ كأبيها وأخيها وغيرهم من الموتى ثلاثة أيام، وتحرم الزِّيادة على ذلك [13].
الأدلَّة:
1- ما تقدَّم من حديث أمِّ حبيبة رضي الله عنها لمَّا تُوفِّي أبوها أبو سفيان بنُ حَرْبٍ دَعَتْ بِطِيْبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ، فمَسَحَتْ عارِضَيْهَا وذِرَاعَيْهَا، وَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ عَنْ هَذَا لَغَنِيَّةً، لَوْلاَ أَنَّي سَمِعْتُ النَّبيَّ يَقُولُ: «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إلاَّ عَلَى زَوْجٍ، فَإنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشَرًا»[14].
2- ومثله ورد من حديث زينب بنت جحشٍ رضي الله عنها حيث تُوفِّي أخوها [15]. وما أجملَ كلام ابن حجر - رحمه الله - معلِّقًا على الحديثين بقوله: «اسْتُدِلَّ به على جوازِ الإحداد على غير الزَّوج من قريبٍ ونحوه، ثلاث ليالٍ فما دونها، وتحريمِه فيما زاد عليها، وكأنَّ هذا القَدْرَ أُبيح؛ لأجل حظِّ النَّفْس، ومراعاتها، وغلبة الطِّباع البشريَّة.
ولهذا؛ تناولتْ أمُّ حبيبةَ وزينبُ بنتُ جحشٍ رضي الله عنهما الطِّيبَ لِتَخْرُجا عن عهدة الإحداد، وصرَّحتْ كلٌّ منهما: بأنَّها لم تتطيَّب لحاجة، إشارة إلى أنَّ آثار الحزن باقيةٌ عندها، لكنَّها لم يَسَعْها إلاَّ امتثال الأمر»[16].
3- ما جاء عن أمِّ عطيَّة رضي الله عنها لمَّا توفِّي ابنٌ لها، فَلَمَّا كانَ اليَوْمُ الثَّالِثُ، دَعَتْ بصُفْرَةٍ فتَمَسَّحَتْ بِهِ، وَقَالَتْ: «نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ إلاَّ بِزَوْجٍ»[17].
الخلاصة: أنَّ الإحداد حرام في حقِّ الرِّجال، واجب في حقِّ الزَّوجة، جائز في حقِّ المرأة عمومًا على مَنْ يَعُزُّ عليها فَقْدُه، بشرط: ألاَّ يزيد عن ثلاث ليالٍ.
وفي الإحداد مراعاةٌ لمشاعر المرأة وما جُبِلت عليه من عاطفة جيَّاشة تجعلها أكثر حُزْنًا وتألُّمًا عند الموت من الرَّجل، فناسبها الإحداد تنفيسًا عن مشاعر الحزن والألم.
[1] انظر: لسان العرب، مادة: (حدد) (3/ 82).
[2] انظر: فتح الباري (9/ 485)؛ المنتقى، للباجي (4/ 144)؛ بدائع الصنائع (2/ 208)؛ المغني (7/ 517).
[3] انظر: مغني المحتاج (3/ 401).
[4] رواه البخاري، (1/ 382)، (ح1281)؛ ومسلم، (2/ 1123)، (ح1486).
[5] انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 234).
[6] انظر: الإمداد بأحكام الحداد (ص49).
[7] انظر: المبسوط (6/ 58)؛ بدائع الصنائع (3/ 208)؛ المدونة (2/ 431)؛ المنتقى (4/ 144)؛ المنهاج ومغني المحتاج (3/ 398)؛ فتح الباري (9/ 485)؛ المغني (7/ 517).
[8] انظر: تفسير البغوي (1/ 213)؛ تفسير ابن كثير (1/ 287).
[9] تقدم تخريجه، هامش رقم (4).
[10] انظر: فتح الباري (9/ 485).
[11] رواه البخاري، (1/ 382)، (ح1282)؛ ومسلم، (2/ 1154)، (ح1487).
[12] صحيح مسلم بشرح النووي (10/ 112).
[13] انظر: عمدة القاري (6/ 428)؛ المنتقى، للباجي (4/ 144)؛ فتح الباري (9/ 487)؛ المحلى (10/ 280).
[14] تقدم تخريجه، هامش رقم (4).
[15] تقدَّم تخريجه، هامش رقم (11).
[16] فتح الباري (9/ 487).
[17] رواه البخاري، (1/ 382)، (ح1279).
- التصنيف:
- المصدر: