ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها لغير ضرورة
محمد بن صالح العثيمين
الإنسان من طبيعته التقصيرُ والنقص والعيب؛ فإن الواجب على المسلم نحو أخيه أن يستر عورته ولا يشيعها إلا من ضرورة. فإذا دعت الضرورة إلى ذلك فلا بد منه، لكن بدون ضرورة فالأَولى والأفضل أن يستر عورة أخيه؛ لأن الإنسان بشرٌ ربما يخطئ عن شهوة...
- التصنيفات: الآداب والأخلاق - آداب عامة -
قال النووي – رحمه الله -: باب ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها لغير ضرورة.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19].
قال سَماحة العلَّامةِ الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:
قال المؤلف رحمه الله: باب ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها.
العورة هنا هي العورة المعنوية؛ لأن العورة نوعان: عورة حسية، وعورة معنوية.
فالعورة الحسية: هي ما يحرُم النظر إليه؛ كالقُبُل والدُّبُر، وما أشبه ذلك مما هو معروف في الفقه.
والعورة المعنوية: وهي العيب والسُّوء الخلُقي أو العملي.
ولا شك أن الإنسان كما وصفه الله عز وجل في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
فالإنسان موصوف بهذين الوصفين: الظلم والجهل؛ فإما أن يرتكب الخطأ عن عمد؛ فيكون ظالما، وإما أن يرتكب الخطأ عن جهل؛ فيكون جهولًا، هذه حال الإنسان إلا من عصم الله عزَّ وجلَّ ووفقه للعلم والعدل، فإنه يمشي بالحق ويهدي إلى الحق.
وإذا كان الإنسان من طبيعته التقصيرُ والنقص والعيب؛ فإن الواجب على المسلم نحو أخيه أن يستر عورته ولا يشيعها إلا من ضرورة. فإذا دعت الضرورة إلى ذلك فلا بد منه، لكن بدون ضرورة فالأَولى والأفضل أن يستر عورة أخيه؛ لأن الإنسان بشرٌ ربما يخطئ عن شهوة - يعني عن إرادة سيئة - أو عن شُبهة، حيث يشتبه عليه الحقُّ فيقول بالباطل أو يعمل به، والمؤمن مأمور بأن يستر عورة أخيه.
هَبْ أنك رأيت رجلًا على كذب وغش في البيع والشراء، فلا تُفشِ ذلك بين الناس، بل انصحه واستُر عليه، فإنْ توفق واهتدى وترك ما هو عليه، كان ذلك هو المراد، وإلا وجب عليك أن تُبيِّن أمره للناس؛ لئلا يغترُّوا به.
وهب أنك وجدت إنسانًا مُبتلًى بالنظر إلى النساء، ولا يغض بصره، فاستُرْ عليه، وانصحه وبيِّنْ له أن هذا سهم من سهام إبليس؛ لأن النظر - والعياذ بالله - سهم من سهام إبليس يصيب به قلبَ العبد، فإن كان عنده مناعة، اعتصَم بالله من هذا السهم الذي ألقاه الشيطان في قلبه، وإن لم يكن عنده مناعة، أصابه السهم، وتدرَّج به إلى أن يصل إلى الفحشاء والمنكر والعياذ بالله فيكون أشد عذابًا.
فما دام الستر ممكنًا، ولم يكن في الكشف عن عورة أخيك مصلحةٌ راجحة أو ضرورة ملحة، فاستر عليه ولا تفضحه.
ثم استدلَّ المؤلف رحمه الله بقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19].
ولمحبة شيوع الفاحشة في الذين آمنوا معنيان:
المعنى الأول: أن يُحِبَّ شيوعَ الفاحشة في المجتمع المسلم، ومن ذلك من يبثُّون الأفلام الخليعة، والصحف الخبيثة الداعرة، فإن هؤلاء - لا شك - يحبون أن تشيع الفاحشة في المجتمع المسلم، ويريدون أن يفتتن المسلمُ في دينه بسبب ما يشاع من هذه المجلات، والأفلام الخليعة الفاسدة، أو ما أشبه ذلك.
وكذلك تمكين هؤلاء مع القدرة على منعهم داخلٌ في محبة {أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور: 19]، فالذي يقدر على منع هذه المجلات وهذه الأفلام الخليعة، ويمكِّن من شيوعها في المجتمع المسلم، فهو ممن يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}؛ أي: عذاب مؤلم في الدنيا والآخرة.
ونقول: إنه يحب على كل مسلم أن يحذر من هذه الصحف وأن يتجنبها، وألا يدخلها في البيت؛ لما فيها من الفساد: فساد الخلُق، ويتبعه فساد الدِّين؛ لأن الأخلاق إذا فسَدتْ، فسدت الأديان، نسأل الله العافية.
المعنى الثاني: أن يحب أن تشيع الفاحشة في شخص معيَّن، وليس في المجتمع الإسلامي كلِّه، فهذا أيضًا له عذاب أليم في الدنيا والآخرة، مثل أن يحب أن تشيع الفاحشة في زيدٍ من الناس لسببٍ ما، فهذا أيضًا له عذاب أليم في الدنيا الآخرة، لا سيما فيمن نزلت الآية في سياق الدفع عنه، وهي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ لأن هذه الآية في سياق آيات الإفك، والإفك هو الكذب الذي افتراه من يكرهون النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ومن يحبون أن يتدنَّس فراشه، ومن يحبون أن يُعيَّرَ بأهله من المنافقين وأمثالهم.
وقضية الإفك مشهورة، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرًا، أقرَعَ بين نسائه، وذلك من عدله عليه الصلاة السلام، فأيتهن خرج سهمُها خرَجَ بها، فأقرع بين نسائه ذات سفرة، فخرج السهم لعائشة، فخرج بها.
وفي أثناء رجوعهم عرَّسوا في أرضٍ، يعني ناموا في آخر الليل، فلما ناموا احتاجت عائشة رضي الله عنها أن تبرز لتقضي حاجتها، فأمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم بالرحيل في آخر الليل، فجاء القوم فحمَلوا هَوْدَجَها ولم يشعُروا أنها ليست فيه؛ لأنها كانت صغيرة لم يأخُذْها اللحم، فقد تزوَّجَها النبي صلى الله عليه وسلم ولها ستُّ سنين، ودخل عليها ولها تسع سنين، ومات عنها ولها ثماني عشرة سنة، فحمَلوا الهودج وظنوا أنها فيه ثم ساروا.
ولما رجعت لم تجد القوم في مكانهم، ولكن مِن عقلها وذكائها لم تذهب يمينًا وشمالًا تطلبهم؛ بل بقيت في مكانها وقالت: سيفقدونني ويرجعون إلى مكاني.
ولما طلعت الشمس إذا برجل يقال له: صفوان بن المُعَطِّل، وكان من قوم إذا ناموا لم يستيقظوا، كما هو حال بعض الناس الذين إذا ناموا لا يستيقظون، حتى ولو علت الأصوات من حوله، فكان صفوان من جملة هؤلاء القوم، فكان إذا نام تعمَّق في النوم، فلا يمكن أن يستيقظ إلا إذا أيقظه الله عز وجل كأنه ميِّت.
فلما استيقظ وجاء وإذا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وحدها في مكان في البَرِّ، وكان يعرفها قبل أن ينزل الحجاب، فما كان منه إلا أن أناخ بعيره ولم يكلِّمها بكلمة، لم يقل لها: ما الذي أقعَدَكِ؟ أو لماذا؟
والسبب في أنه لم يتكلم هو احترامه لفراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يريد أن يتكلم مع أهله بغيبته رضي الله عنه، فأناخ البعير ووضع يده على ركبة البعير، ولم يقل: اركبي، ولا تكلَّمَ بشيء، فركبتْ ثم ذهب بالبعير يقودها، ولم يكن يسوقها حتى لا ينظر إليها رضي الله عنه.
ولما أقبَلَ على القوم ضحًى وقد ارتفع النهار، فرح المنافقون أعظم فرح أن يجدوا مدخلًا للطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتهَموا الرجلَ بالعفاف الرَّزانِ الطاهرة النقية فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتهَموه بها وصاروا يشيعون الفاحشة بأن هذا الرجل فعَلَ ما فعل، وسقط في ذلك أيضًا ثلاثة من الصحابة الخُلَّص، وقعوا فيما وقع فيه المنافقون، وهم: مِسطحُ بن أُثاثةَ ابن خالة أبي بكر، وحسان بن ثابت رضي الله عنهما، وحَمْنة بنت جحش.
فصارت ضجة، وصار الناس يتكلمون: ما هذا؟ وكيف يكون؟ مِن مشتبهٍ عليه الأمر، ومن منكِر غاية الإنكار، وقالوا: لا يمكن أن يتدنَّس فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أطهر الفراش على وجه الأرض.
وأراد الله بعِزَّتِه وقدرته وحكمته لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أن تمرض عائشة رضي الله عنها، وبقيت حبيسةَ البيت لا تخرُج، وكان النبي صلى الله عليه وسلم من عادته إذا عادها في مرضها سأل وتكلَّم وتحفَّى، أما في ذلك الوقت فكان عليه الصلاة والسلام لا يتكلم، يأتي ويدخل ويقول: (كيف تيكم؟)؛ أي: كيف هذه؟ ثم ينصرف، وقد استنكرت ذلك منه رضي الله عنها، ولكنها ما كان يخطر ببالها أن أحدًا يتكلم في عِرضها بما فيه دنس فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد أشاع المنافقون هذه الفِريةَ على الصدِّيقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا كراهة لذاتها؛ ولكن كراهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبغضًا له، ومحبة في إيذائه وأن يدنَّس فراشه، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
ولكن الله تعالى أنزل في هذه القصةِ عشرَ آيات من القرآن، ابتدأها بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11]، والذي تَوَلَّى كِبْرَهُ هو رأس المنافقين عبد الله بن أُبَيٍّ المنافقُ، فإنه هو الذي كان يشيع الخبر.
لكنه خبيث لا يشيعه بلفظ صريح فيقول مثلًا: إن فلانًا زنى بفلانة، لكنه يشيع ذلك بالتعريض والتلميح؛ كأن يقول: يُذكَر، يُقال، يقولون، وما أشبه ذلك؛ لأن المنافقين جبناء يتسترون ولا يصرحون بما في نفوسهم، فيقول عز وجل: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 11، 12].
وفي هذا توبيخ من الله عز وجل للذين تكلَّموا في هذا الأمر، يقول: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا }؛ وذلك أن أمَّ المؤمنين أمُّهم، فكيف يظنون ما لا يليق بها رضي الله عنها؟! وكان الواجب عليهم لما سمعوا هذا الخبر أنْ ظنوا بأنفسهم خيرًا وتبرَّؤوا منه وممن قاله.
{لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]، يعني هلا جاؤوا عليه بأربعة شهداء يشهدون على هذا الأمر.
{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ولو صدَقوا؛ ولهذا لو أن شخصًا شاهد إنسانًا يزني، وجاء إلى القاضي وقال: أنا أشهد أن فلانًا يزني، قلنا: هاتِ أربعةَ شهداء، فإذا لم يأتِ بأربعة شهداء، جلَدْناه ثمانين جَلْدةً، فإن جاء برجل ثانٍ معه، جلَدْناهم كلَّ واحد ثمانين جلدة، وثالث أيضًا نجلد كلَّ واحد ثمانين جلدة.
فمثلًا لو جاءنا ثلاثة يشهدون بأنهم رأوا فلانًا يزني بفلانة، ولم يثبت ذلك، فإننا نجلد كلَّ واحد ثمانين جلدة؛ ولهذا قال الله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 13، 14].
لولا الفضل والرحمة من الله، لأصابكم فيما أفضتم فيه العقاب المذكور، وفي قوله: ﴿ {أَفَضْتُمْ فِيهِ} ﴾ دليل على أن الحديث انتشر وفاض واستفاض واشتهر؛ لأنه أمرٌ جلل عظيم خطير، وقد جَرَتِ العادة بأن الأمور الكبيرة تنتشر بسرعة، وتملأ البيوت، وتملأ الأفواه والآذان {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 14، 15].
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} من غير رَوِيَّه، ومن غير بيِّنة، ومن غير يقين، {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}؛ لأنه قذف لأطهَرِ امرأة على وجه الأرض، هي وصاحباتها زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأمر صعب وعظيم.
وفي ذلك أيضًا تدنيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى يقول: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26].
فإذا كانت عائشة أم المؤمنين زوجُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحصل منها هذا الأمر - وحاشاها منه - فإن ذلك يدلُّ على خبث زوجها والعياذ بالله؛ لأن الخبيثات للخبيثين، ولكنها رضي الله عنها طيِّبة، وزوجها طيِّب؛ فزوجُها محمدٌ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهي الصدِّيقة بنت الصدِّيق رضي الله عنها وعن أبيها.
ولهذا يقول تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]، ثم قال تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} يعني: هلا إذ سمعتموه {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، وهذا هو الواجب عليك؛ أن تُنزِّهَ الله أن يقع مثلُ هذا من زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}.
وتأمَّل كيف جاءت هذه الكلمة التي تتضمن تنزيهَ الله عز وجل؛ إذ إنه لا يليق بحكمة الله ورحمته وفضله وإحسانه أن يقع مثلُ هذا من زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 17]، يعني لا تعودوا لمثل هذا أبدًا إن كنتم مؤمنين.
ثم قال تعالى: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 18]، والحمد لله على بيانه؛ ولهذا أجمَعَ العلماء على أن من رمى أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما جاء في حديث الإفك، فإنه كافر مرتدٌّ، كافر كالذي يسجد للصنم، فإن تاب وأكْذَبَ نفسَه، وإلا قُتِل كافرًا؛ لأنه كذَّب القرآن.
مع أن الصحيح أن من رمى زوجةً من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذا، فإنه كافر؛ لأنه منتقص لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كل من رمى زوجة من زوجات الرسول بما برَّأ الله منه عائشة، فإنه يكون كافرًا مرتدًّا، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل بالسيف، وأُلقيتْ جيفته في حفرة من الأرض، بدون تغسيل، ولا تكفين، ولا صلاة؛ لأن الأمر خطير.
ثم قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النور: 19، 20].
وسبق أن أشرنا إلى أن ثلاثة من الصحابة الخُلَّص تورَّطوا في هذه القضية، وهم: حسان بن ثابت رضي الله عنه، ومسطح بن أثاثة، وهو ابن خالة أبي بكر، وحَمْنةُ بنت جحش، أختُ زينب بنت جحش، وزينبُ بنت جحش زوجُ الرسول صلى الله عليه وسلم وضَرَّةُ عائشة، ومع ذلك حماها الله، لكنَّ أختها تورَّطت، ولما أنزل الله براءتها، أمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يُحَدَّ الثلاثة حدَّ القذف، فجُلِد كلُّ واحد ثمانين جلدة.
أما المنافقون، فلم يُقِمِ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم الحدَّ، واختلف العلماء في ذلك:
فقيل: لأن المنافقين لا يصرِّحون وإنما يقولون: يُقال، أو يُذكر، أو سمعنا، أو ما أشبه ذلك.
وقيل: لأن المنافق ليس أهلًا للتطهير؛ فالحدُّ طُهرةٌ للمحدود، وهؤلاء المنافقون ليسوا بأهل للتطهير؛ ولهذا لم يَجلِدْهم الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لو جلَدَهم لَطهَّرَهم من موبق هذا الشيء، لكنهم ليسوا أهلًا للتطهير، فهم في الدَّرْك الأسفل من النار، فتركهم وذنوبَهم، فليس فيهم خير، وقيل غير ذلك.
وعلى كل حال، فإن هذه القصة قصة عظيمة، فيها عِبَرٌ كثيرة، والله الموفق.
المصدر: «شرح رياض الصالحين» (3/ 5 - 14)