عدالة الفيروس تهزم عنصرية اللقاح في إسرائيل
لم يكن مُستغربًا على الإطلاق قرار سلطات الاحتلال الإسرائيلي حين قررت منع اللقاحات المضادة لفيروس كورونا المستجد عن الفلسطينيين، فتلك مجرد جريمة جديدة ضمن سجل طويل لجرائم التمييز العنصري الذي يمارسه الاحتلال في فلسطين..
لم يكن مُستغربًا على الإطلاق قرار سلطات الاحتلال الإسرائيلي حين قررت منع اللقاحات المضادة لفيروس كورونا المستجد عن الفلسطينيين، فتلك مجرد جريمة جديدة ضمن سجل طويل لجرائم التمييز العنصري الذي يمارسه الاحتلال في فلسطين، فبالرغم من أن اتفاقية أوسلو الموقعة في عام 1993، تنص على أن السلطة الفلسطينية هي وحدها المسؤولة عن تقديم الرعاية الصحية للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة بما يضمن سلامتهم وأمنهم الصحي، إلا أنه بعد مرور ما يقرب من 3 عقود على هذه الاتفاقية، لا تزال إسرائيل ترسّخ من هيمنتها على قطاع الصحة الفلسطيني وتنتهك القانون الدولي وتتهرب من التزاماتها كقوة محتلة، بل سعت أيضا للترويج لنفسها على أنها الأسرع في العالم في إعطاء اللقاح بحيث فاقت نسبة الذين تناولوا اللقاح في مناطق العالم المختلفة، بنسبة تصل حاليًا إلى 24% من مجموع السكان، إلا أن هذا الادعاء يخفي وراءه عنصرية مقيتة، حين ألغت سلطات الإحتلال من حساباتها الفلسطينيين، وفيما تتواصل عنصرية الإسرائيليين بشأن اللقاحات، فإن إصابات الفيروس كانت أكثر عدالةً وإنصافًا.
تضج وسائل الإعلام خلال الأسابيع الماضية بعناوين تكيل المديح لإسرائيل بوصفها الرائدة الأولى عالميًا في التطعيم ضد الفيروس المستجد، ويستشهد الإعلام بنظام الرعاية الصحية الإسرائيلي الذي يتميز بالرقمنة الحديثة والتطور العلمي والمرونة الاجتماعية، نهايك عن تفاخر الإعلام العبري المستمر بسرعة وصول اللقاحات إلى إسرائيل بحيث سبقت باقي دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة نفسها، وهو الأمر الذي أثار استغراب الجميع، خاصةً مع تكتم إسرائيل في البداية على بنود الاتفاق مع شركتَي فايزر وموديرنا، لكن سرعان ما تكشفا لبحقيقة، فإسرائيل تدفع 28 دولارًا للجرعة الواحدة من لقاح فايزر، مقارنة بـ19.50 دولارًا تدفعها الولايات المتحدة للجرعة، و14.76 دولارًا يدفعها الاتحاد الأوروبي، إذن المال هو السر فيما يحدث وهو الذي حدد من له أسبقية الحصول على اللقاح، وليس العبقرية الإسرائيلية كما يصوّر الإعلام العبري للجميع، لكن هذا الإنجاز الظاهر تكمن خلفه قصة أكثر قتامة، تفضح اللامساواة الصحية التي يمارسها الاحتلال. فمنذ عام 1967، تضاعف عدد المستوطنين اليهود في المناطق الفلسطينية، حتى أصبح عددهم حوالي 9 ملايين نسمة، إلا أن نحو 20% من السكان هم مواطنون فلسطينيون يعيشون في الأراضي الواقعة تحت سلطة الاحتلال، ويستطيع هؤلاء التصويت في الانتخابات، كما أن لهم تمثيل تشريعي في الكنيست، وفي حين أن هؤلاء سيحظون بإمكانية التطعيم ضد الوباء، هناك حوالي 5 ملايين فلسطيني آخرين يعيشون في مناطق خارج السلطة المباشرة للاحتلال، لكنهم بلا حقوق في التطعيم، ويعانون أيضا من الوباء مثل بقية مناطق العالم.
قبل أيام؛ قرر الكيان الإسرائيلي رفض دخول آلاف الجرعات من اللقاحات المضادة لفيروس كورونا إلى قطاع غزة، حيث يعيش حوالى مليوني فلسطيني تحت حصار خانق منذ 15 عامًا تقريبًا، وبالرغم من أن اللقاحات المرسلة كانت مخصصة للطواقم الطبية العاملة في غرف العناية المشددة والعاملين في أقسام الطوارئ بالقطاع، إلا أن الاحتلال لم يأبه لكل ذلك، وفضّل أن يمارس عنصريته التمييزية التي لا يجيد سواها. وبالرغم أنه من المفترض أن تكون السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحركة حماس في قطاع غزة، هما الجهتان الفاعلتان بحكم الأمر الواقع في إدارة أزمة الوباء في مناطقهما، إلا أن إسرائيل هي المسؤولة عن كل شيء فعليًا، فهى التي تسيطر على الحدود والعملة والبنك المركزي، بل وتجمع الضرائب بدلًا من السلطة الفلسطينية، وتتحكم في الصادرات والواردات، لكونها هى المتحكمة في جميع الموانئ والمعابر التجارية المؤدية من وإلى الأراضى المحتلة، فالسلطات الإسرائيلية الجمركية والأمنية تسيطر على 100% من التدفقات التجارية الفلسطينية الفعلية، وإذا كان الاحتكار الإسرائيلي يمتد إلى مختلف القطاعات التي تمس حياة المواطن الفلسطيني، فلا عجب إذا رأينا الظلم الإسرائيلي في منع اللقاحات، أو احتكارها وحرمان الفلسطينيين منها، بالرغم من أن الفيروس لا يفرّق بين فلسطيني أو إسرائيلي. وفي ظل هذا الظلم البيّن لا داعي للسؤال عن إمكانية تلقيح الأسرى الفلسطينيين بالسجون والمعتقلات الإسرائيلية، والذين يبلغ عددهم حوالي 5000 أسيرًا، من بينهم 42 أسيرة وحوالي 200 طفل و450 معتقلًا إداريًا، خاصةً بعد أن كشفت وسائل إعلامٍ إسرائيلية عن إصدار وزير الأمن الداخلي، أمير أوحانا، أمرًا تنفيذيًا لمصلحة سجون الإحتلال بمنع الأسرى من استعمال اللقاح إلا بإذن خاص ووفق ظروف واشترطات محددة، وهو ما نهج لا يختلف مطلقًا عن التعامل الإسرائيلي غير الإنساني وغير القانوني بحق الأسرى الفلسطينيين على مر التاريخ.
بالرغم من أن انتشار الفيروس بين الفلسطينيين في الضفة الغربية بالذات، قد يؤدي إلى سرعة انتشاره داخل الأراضي المحتلة، وبين المستوطنين اليهود الذين يصعب فصلهم عن مناطق المواطنين الفلسطينيين، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا ينظر إلى الأمر من هذه الزاوية، وإنما هو يركز على الانتخابات الإسرائيلية التي ستجري في أواخر شهر مارس المقبل، ويحاول استثمار قضية اللقاحات لصالحه، من خلال إظهار حرصه على تلقيح الإسرائيليين أولًا وبالكامل، خاصةً وأن إسرائيل كانت من أسوأ مناطق العالم في نسب انتشار المرض بالنسبة لعدد السكان، وقد شهد نظامها الصحي ـ الذي تتباهى به ـ انهيارًا أدى إلى خروجه عن السيطرة بسبب كثرة الإصابات وارتفاع نسب الدخول إلى المستشفيات، وهو ما أدى إلى تنفيذ الإغلاق التام مرتين لمحاولة السيطرة على المرض، وقد أهملت إسرائيل متعمدةً مسؤوليتها عن الشأن الصحي للفلسطينيين في ظل الجائحة، والتي يفرضها القانون الدولي عليها بحكم كونها قوة احتلال، من أجل أن تظهر للعالم ارتفاع نسب التلقيح لديها، وتتفاخر بذلك، لكن إذا جمعنا عدد السكان الذين ينبغي على إسرائيل توفير اللقاح لهم حسب القانون الدولي، فإن العدد الإجمالي هو 15 مليون نسمة، مما يعني أن النسبة الحقيقية لإعطاء اللقاح أقل ما تذكره وتتباهى به إسرائيل أمام العالم.
في الأسبوع الأول من العام الجاري، استفسرت السلطة الفلسطينية عما إذا كانت إسرائيل ستساعدهم على الحصول على اللقاحات، مسؤولو الاحتلال ردوا بأنهم قد يقدمون ما سيتبقى لديهم من لقاحات للضفة الغربية، لكن بأيّ حال فإن هذا لن يحدث إلا بعد تطعيم الإسرائيليين بالكامل، لكن الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة يحتاجون بشدة إلى اللقاح، فمعدلات العدوى والوفيات آخذة في الارتفاع بشكل خطير، والوضع مقلق للغاية، لا سيّما في غزة، حيث يعاني القطاع من مشكلات أخرى جسيمة، أبرزها انقطاع التيار الكهربائي الذي يستمر في بعض الأحيان إلى 12 ساعة في اليوم، فضلًا عن ضعف القطاع الصحي وإجراءات الحجر الصحي، والنقص الحاد في الأدوية والمعدات الطبية، وانتشار الفقر والبطالة، نتيجة للحصار الجوي والبري والبحري الإسرائيلي. وبعيدًا عن ذلك؛ فإن وزارة الصحة الفلسطينية تعاني من أزمة مالية خانقة، تتركها بلا أموال لشراء جرعات كافية من الشركات المنتجة للقاحات المضادة للفيروس، ويبقى الأمر الأكبر للفلسطينيين الآن هو برنامج (كوفاكس)، الذي تقوده منظمة الصحة العالمية لمساعدة البلدان الفقيرة في الوصول إلى اللقاحات، والذي تعهد القائمون عليه بتوفير اللقاح لـ20% من الفلسطينيين، لكن اللقاحات لن تكون متاحة للتوزيع في فلسطين قبل منتصف العام الجاري. سينتظر الفلسطينيون هذا الموعد.. ببساطة لأن المجتمع الدولي الذي لم يأبه من قبل لجرائم الاحتلال من قتلٍ وتخريبٍ وتعذيبٍ بحق الفلسطينيين، لن يأبه اليوم لجريمة منع لقاحات كورونا عنهم.
_______________________________________
الكاتب: أحمد مصطفى الغر
- التصنيف:
- المصدر: