حديث القرآن عن بغاة الفتنة والمفسدين
المعتز بالله الكامل محمد علي
أنزل الله تعالى منهجا للحياة الطيبة للإنسان على الأرض، وهؤلاء المنافقون بذلوا كل ما في جهدهم لإفساد هذا المنهج، بأن تآمروا ضده وادعوا أنهم مؤمنون به ليطعنوا الإسلام في داخله.
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
الحمد لله رب العالمين ، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله ربه بين يدى الساعة هادياً ومبشراً ونذيراً , وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً .
أما بعد
فإن القرآن حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، والنور المبين ، هو رسالة الله الأخيرة وكلمته الباقية ، وهو الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، فيه نبأ من قبلنا ، وخبر من بعدنا ، جعله الله عزوجل تبياناً لكل شئ ، قال تعالى {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} [النحل 89]
قال الإمام الشافعى رحمه الله : فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفى كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها.
وقال تعالى { ما فرطنا فى الكتاب من شئ } [الأنعام 38]
فكتاب الله قد حوى كل شئ ، وجمع بين دفتيه البيان التام لكل مايحتاجه المجتمع المسلم ، لكن على المسلمين أن يثيروا هذا القرآن ، حتى يعلموا ما أودعه الله من أسرار ، وماجعل فيه من شفاء لكل العلل التى تصيب المجتمع المسلم ، قال تعالى { وننزل من القرآن ماهو شفاء ورحمة المؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا} [الإسراء]
إن القرآن الكريم يذكر لنا العلة ودواءها معا ، ويعالج القضية من جميع جوانبها .
فلو أردنا أن نتتبع ما ذكره القرآن فى شأن بغاة الفتنة والمفسدين فى الأرض سنجد أن الحق تبارك وتعالى ذكر بغاة الفتنة فى سورة التوبة فى معرض حديثه عن المنافقين ، وسورة التوبة تدور فى معظم آياتها حول غزوة تبوك ، تلكم الغزوة التى فضحت المنافقين حيث وقعت فى شدة الحر وأوان جنى الثمار ، فالنفوس كانت نافرة من الخروج فى الحر ، مائلة إلى الإقامة بالمدينة لجنى الثمار التى طال انتظارها ، ثم إن الجيش المقاتل كان متوجها لقتال الروم ، وقتال الروم ليس صداما مع قبيلة محدودة العدد والعدة ، بل هو كفاح مرير مع دولة تبسط سلطانها على مجموعة قارات ، وتملك موارد ثرَّة من الرجال والأموال ، فاجتمع فى هذه الغزوة من الأسباب ما يجعل ضعيف الإيمان يلتمس المعاذير ، ويتعلق بواهى الحجج ، حتى يفر من الصدام مع الحر الشديد ، وبُعد الشُّقة ، وقتال العدو الشديد البأس .
وهذا ما حدث بالفعل فقد جاءت طائفة من أهل النفاق يعتذرون للنبى صلى الله عليه وسلم عن عدم الخروج ، ويتعللون بعلل واهية فأذن النبى صلى الله عليه وسلم لهم، فعاتبه الله عتابا رقيقا بدأه بالعفو قبل العتاب ، قال تعالى { عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} [التوبة 43]
ثم بينت الآيات أن المؤمن الحق لا يلتمس عذرا فى ترك الجهاد { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم فى ريبهم يترددون} .
ثم استمرت الآيات تقيم الدلائل على كذب هؤلاء المنافقين {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة}
يقول صاحب تفسير المنار
كَانَ دَأْبُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَادَتُهُمْ إِذَا اسْتَنْفَرَهُمُ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلْقِتَالِ أَنْ يَنْفِرُوا بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ، وَلَمَّا اسْتَنْفَرَهُمْ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ تَثَاقَلُوا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَلِلتَّثَاقُلِ دَرَجَاتٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِهِ، وَيُسْرِ الْأَسْبَابِ وَعُسْرِهَا، وَكَثْرَةِ الْأَعْذَارِ وَقِلَّتِهَا، وَلَكِنْ نَفَرَ الْأَكْثَرُونَ طَائِعِينَ، وَتَخَلَّفَ الْأَقَلُّونَ عَاجِزِينَ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَقَدْ كَبُرَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ، وَعَظُمَ فِيهِمُ الْخَطْبُ، وَطَفِقُوا يَنْتَحِلُونَ الْأَعْذَارَ الْوَاهِيَةَ، وَيَسْتَأْذِنُونَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ فَيَأْذَنُ لَهُمْ .
فنزلت الآيات تعاتب النبى صلى الله عليه وسلم وتبين أن الأولى كان عدم الإذن لهم حتى يتبين للمجتمع المسلم كذب هؤلاء المنافقين وتدليسهم ، ثم سلَّت الآيات نبى الله وأصحابه بأن خروج هؤلاء المنافقين ، لو خرجوا لم يكن فيه فائدة تعود على الجيش المسلم ، بل العكس ، فخروجهم لن يزيد المسلمين إلا خَبَالًا، أَيْ: اضْطِرَابًا فِي الرَّأْيِ، وَفَسَادًا فِي الْعَمَلِ، وَضَعْفًا فِي الْقِتَالِ، وَخَلَلًا فِي النِّظَامِ؛ فَإِنَّ الْخَبَالَ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ الْفَسَادُ الَّذِي يَلْحَقُ الْحَيَوَانَ فَيُورِثُهُ اضْطِرَابًا كَالْجُنُونِ، وَالْمَرَضِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ. وَالْمُرَادُ: مَا زَادُوكُمْ قُوَّةً وَمَنَعَةً وَإِقْدَامًا، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْقُوَّةِ الْعَدَدِيَّةِ الْمُتَّحِدَةِ فِي الْعَقِيدَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، بَلْ ضَعْفًا وَفَشَلًا وَمَفْسَدَةً (المنار)، وأمر آخر وهو أن خروجهم كان سينجم عنه فتنة واضطراب فى الجيش المسلم ( {ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة } )
أى لَأَسْرَعُوا فِي الدُّخُولِ فِي خِلَالِكُمْ وَمَا بَيْنَكُمْ سَعْيًا بِالنَّمِيمَةِ، وَتَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ يَبْغُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَفْتِنُوكُمْ بِالتَّشْكِيكِ فِي الدِّينِ، وَالتَّثْبِيطِ عَنِ الْقِتَالِ، وَالتَّخْوِيفِ مِنْ قُوَّةِ الْأَعْدَاءِ
يقول الشيخ المراغى رحمه الله :
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن استئذانهم فى التخلف عن القتال إنما كان سترا لنفاقهم وتغطية لعصيانهم- قفّى على ذلك ببيان المفاسد التي كانت تنجم من خروجهم لو خرجوا وحصرها فى أمور ثلاثة:
(1) الاضطراب فى الرأى وفساد النظام (2) تفريق الكلمة بالسعي فيما بينكم بالميمة.
(3) إن فيكم ناسا من ضعفاء الإيمان يسمعون كلامهم ويقبلون قولهم.
ثم قال رحمه الله :
لو خرج هؤلاء المنافقون المستأذنون فى القعود معكم، ما زادوكم قوة ومنعة وإقداما كما هو الشأن فى القوى المتحدة فى العقيدة والمصلحة، بل زادوكم اضطرابا فى الرأى وضعفا فى القتال ومفسدة للنظام، كما حدث مثل ذلك فى غزوة حنين، فقد ولّى المنافقون الأدبار فى أول المعركة وولى على إثرهم ضعفاء الإيمان من طلقاء فتح مكة، ومن ثم اضطرب نظام الجيش، فولّى أكثر المؤمنين معهم بلا تدبر ولا تفكير كما هو الشأن فى مثل هذه الأحوال.
{وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي ولأسرعوا فى الدخول فيما بينكم سعيا فى النميمة وتفريق الكلمة، يبغون بذلك تثبيطكم عن القتال وتهويل أمر العدو وإيقاع الرعب فى قلوبكم.
فبغاة الفتنة فى هذه الآية مقصود بهم أهل النفاق والريب ، والمشاءون بالنميمة فى المجتمع المسلم .
والموضع الثانى الذى ذكر الحق تبارك وتعالى فيه بغاة الفتنة هو قوله تبارك وتعالى فى سورة التوبة { لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون} [التوبة 48]
يقول العلامة الطاهربن عاشور رحمه الله :
الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التَّوْبَة: 47] لِأَنَّهَا دَلِيلٌ بِأَنَّ ذَلِكَ دَيْدَنٌ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ، إِذِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ لِلْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ إِذِ انْخَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ أَنْ وَصَلُوا إِلَى أُحُدٍ، وَكَانُوا ثُلُثَ الْجَيْشِ قَصَدُوا إِلْقَاءَ الْخَوْفِ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ حِينَ يَرَوْنَ انْخِزَالَ بَعْضِ جَيْشِهِمْ .
فالآيتان توضحان أن بغاة الفتنة فى هذه السورة قد أريد بهما ( والله أعلم بمراده ) أهل الزيغ والنفاق الذين يثبطون الصف المسلم عن الجهاد وبذل النفس فى سبيل الله ، وقريب من هذا كل من يحاول منع المسلمين من فعل خير ، أو عمل صالح ، فهو أيضا من بغاة الفتنة ، الذين يجب الحذر منهم ، وعدم الإنخداع بهم .
فكل من يحاول أن يثنى المسلمين عن فعل الخير , وعن الإصلاح فى الارض فهو من بغاة الفتنة , وفيه شبه بالمنافقين .
وأما عن المفسدين فى الأرض :
فقد جاء ذكر المفسدين فى مطلع سورة البقرة فى الحديث عن أهل النفاق ، حيث ذكر الحق تبارك وتعالى إنكار أهل الصلاح عليهم ونهيهم عن الفساد فى الأرض ، وبين رد هؤلاء المنافقين عليهم بأنهم مصلحون
قال تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}
يقول الشيخ الشعراوى رحمه الله :
أنزل الله تعالى منهجا للحياة الطيبة للإنسان على الأرض، وهؤلاء المنافقون بذلوا كل ما في جهدهم لإفساد هذا المنهج، بأن تآمروا ضده وادعوا أنهم مؤمنون به ليطعنوا الإسلام في داخله.
ولقد تنبه أعداء الإسلام، إلى أن هذا الدين القوي الحق، لا يمكن أن يتأثر بطعنات الكفر، بل يواجهها ويتغلب عليها. فما قامت معركة بين حق وباطل إلا انتصر الحق، ولقد حاول أعداء الإسلام أن يواجهوه سنوات طويلة، ولكنهم عجزوا، ثم تنبهوا إلى أن هذا الدين لا يمكن أن يهزم إلا من داخله، وأن استخدام المنافقين في الإفساد، هو الطريقة الحقيقية لتفريق المسلمين، فانطلقوا إلى المسلمين اسما ليتخذوا منهم الحربة التى يوجهونها ضد الإسلام.... إلى أن قال : وإذا لفت المسلمون نظرهم إلى أنهم يفسدون فى الأرض ، وطلبوا منهم أن يمتنعوا عن الإفساد ، ادعوا أنهم لا يفسدون ، وأى صلاح فى عدم اتباع منهج الله والخروج عليه بأى حجة من الحجج .
فهذه صفة أخرى قد أضيفت إلى الصفة الأولى التى سبق الحديث عنها وهى صفة الفساد فى الأرض ، فقد اجتمعت الصفتان فى أهل النفاق ، الذين يسعون فى الأرض فسادا ويبغون فتنة الناس عن فعل الخير والعمل الصالح .
فالواجب على المجتمع المسلم أن لا يركن إلى المثبطين الذين يبغون الفتنة للمسلمين ، ويلقون بسمومهم فى المجتمع المسلم ويسعون فى الأرض فسادا ، يريدون أن يخرقوا سفينة المسلمين ، وأن يهلكوا الزرع والنسل ، وهم لا يتوانون عن بث سمومهم ليلا ونهارا ، سرا وإعلانا ، فينبغى على المسلمين أن يحذروهم على دينهم ووطنهم ، وأن يفوتوا الفرصة على أعداء الإسلام والوطن ، الذين يتربصون بنا ليلا ونهارا ، حتى لا يضيع وطننا من بين أيدينا ، ونندم ولات حين مندم .
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما علمنا ، وأن يعلمنا ماينفعنا .
كتبه
المعتزبالله الكامل
أما بعد
فإن القرآن حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، والنور المبين ، هو رسالة الله الأخيرة وكلمته الباقية ، وهو الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، فيه نبأ من قبلنا ، وخبر من بعدنا ، جعله الله عزوجل تبياناً لكل شئ ، قال تعالى {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} [النحل 89]
قال الإمام الشافعى رحمه الله : فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفى كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها.
وقال تعالى { ما فرطنا فى الكتاب من شئ } [الأنعام 38]
فكتاب الله قد حوى كل شئ ، وجمع بين دفتيه البيان التام لكل مايحتاجه المجتمع المسلم ، لكن على المسلمين أن يثيروا هذا القرآن ، حتى يعلموا ما أودعه الله من أسرار ، وماجعل فيه من شفاء لكل العلل التى تصيب المجتمع المسلم ، قال تعالى { وننزل من القرآن ماهو شفاء ورحمة المؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا} [الإسراء]
إن القرآن الكريم يذكر لنا العلة ودواءها معا ، ويعالج القضية من جميع جوانبها .
فلو أردنا أن نتتبع ما ذكره القرآن فى شأن بغاة الفتنة والمفسدين فى الأرض سنجد أن الحق تبارك وتعالى ذكر بغاة الفتنة فى سورة التوبة فى معرض حديثه عن المنافقين ، وسورة التوبة تدور فى معظم آياتها حول غزوة تبوك ، تلكم الغزوة التى فضحت المنافقين حيث وقعت فى شدة الحر وأوان جنى الثمار ، فالنفوس كانت نافرة من الخروج فى الحر ، مائلة إلى الإقامة بالمدينة لجنى الثمار التى طال انتظارها ، ثم إن الجيش المقاتل كان متوجها لقتال الروم ، وقتال الروم ليس صداما مع قبيلة محدودة العدد والعدة ، بل هو كفاح مرير مع دولة تبسط سلطانها على مجموعة قارات ، وتملك موارد ثرَّة من الرجال والأموال ، فاجتمع فى هذه الغزوة من الأسباب ما يجعل ضعيف الإيمان يلتمس المعاذير ، ويتعلق بواهى الحجج ، حتى يفر من الصدام مع الحر الشديد ، وبُعد الشُّقة ، وقتال العدو الشديد البأس .
وهذا ما حدث بالفعل فقد جاءت طائفة من أهل النفاق يعتذرون للنبى صلى الله عليه وسلم عن عدم الخروج ، ويتعللون بعلل واهية فأذن النبى صلى الله عليه وسلم لهم، فعاتبه الله عتابا رقيقا بدأه بالعفو قبل العتاب ، قال تعالى { عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} [التوبة 43]
ثم بينت الآيات أن المؤمن الحق لا يلتمس عذرا فى ترك الجهاد { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم فى ريبهم يترددون} .
ثم استمرت الآيات تقيم الدلائل على كذب هؤلاء المنافقين {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة}
يقول صاحب تفسير المنار
كَانَ دَأْبُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَادَتُهُمْ إِذَا اسْتَنْفَرَهُمُ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلْقِتَالِ أَنْ يَنْفِرُوا بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ، وَلَمَّا اسْتَنْفَرَهُمْ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ تَثَاقَلُوا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَلِلتَّثَاقُلِ دَرَجَاتٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِهِ، وَيُسْرِ الْأَسْبَابِ وَعُسْرِهَا، وَكَثْرَةِ الْأَعْذَارِ وَقِلَّتِهَا، وَلَكِنْ نَفَرَ الْأَكْثَرُونَ طَائِعِينَ، وَتَخَلَّفَ الْأَقَلُّونَ عَاجِزِينَ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَقَدْ كَبُرَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ، وَعَظُمَ فِيهِمُ الْخَطْبُ، وَطَفِقُوا يَنْتَحِلُونَ الْأَعْذَارَ الْوَاهِيَةَ، وَيَسْتَأْذِنُونَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ فَيَأْذَنُ لَهُمْ .
فنزلت الآيات تعاتب النبى صلى الله عليه وسلم وتبين أن الأولى كان عدم الإذن لهم حتى يتبين للمجتمع المسلم كذب هؤلاء المنافقين وتدليسهم ، ثم سلَّت الآيات نبى الله وأصحابه بأن خروج هؤلاء المنافقين ، لو خرجوا لم يكن فيه فائدة تعود على الجيش المسلم ، بل العكس ، فخروجهم لن يزيد المسلمين إلا خَبَالًا، أَيْ: اضْطِرَابًا فِي الرَّأْيِ، وَفَسَادًا فِي الْعَمَلِ، وَضَعْفًا فِي الْقِتَالِ، وَخَلَلًا فِي النِّظَامِ؛ فَإِنَّ الْخَبَالَ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ الْفَسَادُ الَّذِي يَلْحَقُ الْحَيَوَانَ فَيُورِثُهُ اضْطِرَابًا كَالْجُنُونِ، وَالْمَرَضِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ. وَالْمُرَادُ: مَا زَادُوكُمْ قُوَّةً وَمَنَعَةً وَإِقْدَامًا، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْقُوَّةِ الْعَدَدِيَّةِ الْمُتَّحِدَةِ فِي الْعَقِيدَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، بَلْ ضَعْفًا وَفَشَلًا وَمَفْسَدَةً (المنار)، وأمر آخر وهو أن خروجهم كان سينجم عنه فتنة واضطراب فى الجيش المسلم ( {ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة } )
أى لَأَسْرَعُوا فِي الدُّخُولِ فِي خِلَالِكُمْ وَمَا بَيْنَكُمْ سَعْيًا بِالنَّمِيمَةِ، وَتَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ يَبْغُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَفْتِنُوكُمْ بِالتَّشْكِيكِ فِي الدِّينِ، وَالتَّثْبِيطِ عَنِ الْقِتَالِ، وَالتَّخْوِيفِ مِنْ قُوَّةِ الْأَعْدَاءِ
يقول الشيخ المراغى رحمه الله :
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن استئذانهم فى التخلف عن القتال إنما كان سترا لنفاقهم وتغطية لعصيانهم- قفّى على ذلك ببيان المفاسد التي كانت تنجم من خروجهم لو خرجوا وحصرها فى أمور ثلاثة:
(1) الاضطراب فى الرأى وفساد النظام (2) تفريق الكلمة بالسعي فيما بينكم بالميمة.
(3) إن فيكم ناسا من ضعفاء الإيمان يسمعون كلامهم ويقبلون قولهم.
ثم قال رحمه الله :
لو خرج هؤلاء المنافقون المستأذنون فى القعود معكم، ما زادوكم قوة ومنعة وإقداما كما هو الشأن فى القوى المتحدة فى العقيدة والمصلحة، بل زادوكم اضطرابا فى الرأى وضعفا فى القتال ومفسدة للنظام، كما حدث مثل ذلك فى غزوة حنين، فقد ولّى المنافقون الأدبار فى أول المعركة وولى على إثرهم ضعفاء الإيمان من طلقاء فتح مكة، ومن ثم اضطرب نظام الجيش، فولّى أكثر المؤمنين معهم بلا تدبر ولا تفكير كما هو الشأن فى مثل هذه الأحوال.
{وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي ولأسرعوا فى الدخول فيما بينكم سعيا فى النميمة وتفريق الكلمة، يبغون بذلك تثبيطكم عن القتال وتهويل أمر العدو وإيقاع الرعب فى قلوبكم.
فبغاة الفتنة فى هذه الآية مقصود بهم أهل النفاق والريب ، والمشاءون بالنميمة فى المجتمع المسلم .
والموضع الثانى الذى ذكر الحق تبارك وتعالى فيه بغاة الفتنة هو قوله تبارك وتعالى فى سورة التوبة { لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون} [التوبة 48]
يقول العلامة الطاهربن عاشور رحمه الله :
الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التَّوْبَة: 47] لِأَنَّهَا دَلِيلٌ بِأَنَّ ذَلِكَ دَيْدَنٌ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ، إِذِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ لِلْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ إِذِ انْخَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ أَنْ وَصَلُوا إِلَى أُحُدٍ، وَكَانُوا ثُلُثَ الْجَيْشِ قَصَدُوا إِلْقَاءَ الْخَوْفِ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ حِينَ يَرَوْنَ انْخِزَالَ بَعْضِ جَيْشِهِمْ .
فالآيتان توضحان أن بغاة الفتنة فى هذه السورة قد أريد بهما ( والله أعلم بمراده ) أهل الزيغ والنفاق الذين يثبطون الصف المسلم عن الجهاد وبذل النفس فى سبيل الله ، وقريب من هذا كل من يحاول منع المسلمين من فعل خير ، أو عمل صالح ، فهو أيضا من بغاة الفتنة ، الذين يجب الحذر منهم ، وعدم الإنخداع بهم .
فكل من يحاول أن يثنى المسلمين عن فعل الخير , وعن الإصلاح فى الارض فهو من بغاة الفتنة , وفيه شبه بالمنافقين .
وأما عن المفسدين فى الأرض :
فقد جاء ذكر المفسدين فى مطلع سورة البقرة فى الحديث عن أهل النفاق ، حيث ذكر الحق تبارك وتعالى إنكار أهل الصلاح عليهم ونهيهم عن الفساد فى الأرض ، وبين رد هؤلاء المنافقين عليهم بأنهم مصلحون
قال تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}
يقول الشيخ الشعراوى رحمه الله :
أنزل الله تعالى منهجا للحياة الطيبة للإنسان على الأرض، وهؤلاء المنافقون بذلوا كل ما في جهدهم لإفساد هذا المنهج، بأن تآمروا ضده وادعوا أنهم مؤمنون به ليطعنوا الإسلام في داخله.
ولقد تنبه أعداء الإسلام، إلى أن هذا الدين القوي الحق، لا يمكن أن يتأثر بطعنات الكفر، بل يواجهها ويتغلب عليها. فما قامت معركة بين حق وباطل إلا انتصر الحق، ولقد حاول أعداء الإسلام أن يواجهوه سنوات طويلة، ولكنهم عجزوا، ثم تنبهوا إلى أن هذا الدين لا يمكن أن يهزم إلا من داخله، وأن استخدام المنافقين في الإفساد، هو الطريقة الحقيقية لتفريق المسلمين، فانطلقوا إلى المسلمين اسما ليتخذوا منهم الحربة التى يوجهونها ضد الإسلام.... إلى أن قال : وإذا لفت المسلمون نظرهم إلى أنهم يفسدون فى الأرض ، وطلبوا منهم أن يمتنعوا عن الإفساد ، ادعوا أنهم لا يفسدون ، وأى صلاح فى عدم اتباع منهج الله والخروج عليه بأى حجة من الحجج .
فهذه صفة أخرى قد أضيفت إلى الصفة الأولى التى سبق الحديث عنها وهى صفة الفساد فى الأرض ، فقد اجتمعت الصفتان فى أهل النفاق ، الذين يسعون فى الأرض فسادا ويبغون فتنة الناس عن فعل الخير والعمل الصالح .
فالواجب على المجتمع المسلم أن لا يركن إلى المثبطين الذين يبغون الفتنة للمسلمين ، ويلقون بسمومهم فى المجتمع المسلم ويسعون فى الأرض فسادا ، يريدون أن يخرقوا سفينة المسلمين ، وأن يهلكوا الزرع والنسل ، وهم لا يتوانون عن بث سمومهم ليلا ونهارا ، سرا وإعلانا ، فينبغى على المسلمين أن يحذروهم على دينهم ووطنهم ، وأن يفوتوا الفرصة على أعداء الإسلام والوطن ، الذين يتربصون بنا ليلا ونهارا ، حتى لا يضيع وطننا من بين أيدينا ، ونندم ولات حين مندم .
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما علمنا ، وأن يعلمنا ماينفعنا .
كتبه
المعتزبالله الكامل