أدب التعامل مع وسائل التواصل
الخاسر من وظَّفَ هذه الوسائلَ في نشر الباطل، وترويج المنكر، ولم يكتفِ برؤية أو سماع الحرام، بل ينشره من خلال هذه الوسائل، ليراه الآلاف أو الملايين فيتحمّل آثامَهم، وربما بقي بعد موته يجري عليه وِزْرُه..وليحذر الإنسان من نشر أسرار بيته وتفاصيل حياته، لما يترتب على ذلك من آثار سيئة.
ان من مُسْتَجِدَّاتِ هذا العصرِ ومُشْغِلَاتِهِ ومُغْرِيَاتِهِ ما يُسَمَّى بوسائل التواصُلِ الاجتماعي، التي دخلت كلَّ بيت، وعمَّت كل مجلس، واستهلكت الأوقات، وغَيَّرتِ العلاقات، حتى أضحت عند بعض الناس وسيلةً للتقاطع وليس للتواصل، وربما أشغلت الإنسان عن صلاته وعبادته، ووظيفته وعمله، فضلاً عن مؤانسة والديه، والإقبالِ على أهله وإخوانه وجلسائه، كما هو مشاهد.
يُمْضِي بعضُ الناس قرابةَ ثماني ساعات يوميا، عاكفاً على هذه الوسائل، حيث يَهْرَعُ إليها حالَ قيامه، وينام وهي في يده، حتى في بيوت الله، تجد بعض الناس قد حَمْلَقَ فيها، وبادر إليها بعد سلام الإمام، للاطلاع على ما ورد خلال صلاته، وكأن العالم سيتغير حينما يَغْفُلُ عنها لحظة.
إنها نعمةٌ كبيرة حينما يوظِّفُها الإنسانُ في توظيفاً نافعاً سليماً، وأداةٌ خطيرة إذا لم تُضبط بالضوابط الشرعية، والأخلاقِ المرعيَّة.
عباد الله:
لقد قرّبتِ هذه الوسائلُ البعيدَ، وأَدْنَتِ الغريب، وجعلت العالم قَرْيَةً واحدة، يسهل من خلالها بثُّ الأفكار الفاسدة، وبناءُ العلاقات المشبوهة، ونشرُ الشائعات الكاذبة، حيث يستطيع الرجل أو المرأة بل الطفلُ أن يحادث من شاء في أي مكان من العالم، بل يتبادل معهم الصور والمقاطع والألعاب والأخبار والمعلومات، خيرَها وشرَّها.
وقد حصلت بسبب الاستخدام السيئ لهذه الوسائل جرائمُ، وتُهَمٌ، وخِصَامٌ وشقاق وفراق، نسأل الله العافية.
ولم يقتصر هذا الخطرُ على فتن الشهوات، بل تعدى ذلك إلى فتن الشبهات حيث أضحى بعضُ الملحدين والزنادقة يبثُّون إلحادهم وشبهاتهم صراحةً من خلالها، كما استغلها أهلُ الغلو والتطرف في نشر أفكارهم والدعوة إليها.
فكم من ضحية لهذه الوسائل دخل أول عتبة فيها ثم أدمن استعمالها، وتاه في مساربها، واستدرجته شياطينها حتى وقع في حبائلهم، أوصار فريسة لابتزازهم.
أيها المسلمون:
لقد أضحت هذه الوسائلُ أسرعَ الأدوات لبث الشائعات والأخبار الكاذبة والأراجيف، والفضائح، حيث يَعْمِدُ كثيرٌ من الناس إلى نشر كلِّ ما يسمعه، أو يَرِدُ إليه دون تثبت وتبين، وكم وَرَدَنا بواسطة هذه الوسائلِ من أخبار، ثم بعدها بدقائق يصل تكذيبها، وربما من نفس المصدر!.
وقد أمر الله تعالى بالتثبت والتبين في الأخبار فقال سبحانه وتعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، وفي قراءة: {فَتَثَبَّتُوا}.
كما ثبت في السنة الوعيدُ على من كذب الكَذْبة فانتشرت عنه، كما في حديث سَمُرَةَ بنِ جُنْدَب الطويل في الرؤيا وفيه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "مَرَّ على رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وإذا آخَرُ قَائِمٌ عليه بِكَلُّوبٍ من حديد، وإذا هو يأتي أَحَدَ شِقَّي وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إلى قَفَاَهُ، وَمَنْخِرَهُ إلى قَفَاَهُ، وَعَيْنَه إِلَى قَفَاَهُ... قال: ثم يَتَحَوَّلُ إِلى الجانِب الآخرِ فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يَفْرُغُ من ذلك الجانِب حتى يَصِحَّ ذلك الجانبُ كما كان، ثم يعود عليهِ فيفعل به مثل ما فعل المرَّة الأولى...". وقد فُسِّرَ في الحديث بأنه "الرَّجُلُ يَغْدُو من بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الْآفاقَ". (أخرجه البخاري).
والموفق يا عباد الله من استغل هذه الوسائلَ في الدعوة إلى الله، ونشر الخير والعلم النافع، والأخلاق العالية، والقيم السامية، والفوائد المتنوعة، والرد على أهل التوجهات الفاسدة، والمذاهب المنحرفة، والبدع الغالية، بعلم وحكمة، والتواصل الجيد النافع مع الأهل والأصحاب، وقضاء الحوائج، ونفع الناس.
وقد وَرَدَ الفضل الكبير لمن دعا إلى الله وبَلَّغَ دينه بأي وسيلة مشروعة، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَعَا إلى هُدى كان له من الأجر مثلُ أُجورِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذلك من أُجورهِم شيئًا، ومن دَعَا إلى ضَلَالَةٍ كان عليه من الْإِثْمِ مِثْلُ آثام مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذلك من آثامهم شيئا» (أخرجه مسلم).
وقد نفع الله بهذه الوسائل نفعاً عظيما، حيث كانت سبباً للدعوة إلى الإسلام ونشر العقيدة السليمة، والسُنَّةِ الصحية، وكشف الشبهات والبدع والانحرافات، دون عوائق، أو تكاليف ماديَّة، فجزى الله كلَّ من استغلها في نشر والخير، والتحذير من الشر، خير الجزاء.
لكن لا بُدَّ من التثبت من صحة المعلومة، وحسن الاختيار، وعدم الإكثار وإملال الناس بكثرة المواعظ والوصايا، فإن هذا خلاف السُّنة.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَتَخَوَّلُنَا بالموعظة في الأيام، مخافةَ السآمة علينا" متفق عليه.
والخاسر عبادَ الله من وظَّفَ هذه الوسائلَ في نشر الباطل، وترويج المنكر، ولم يكتفِ برؤية أو سماع الحرام، بل ينشره من خلال هذه الوسائل، ليراه الآلاف أو الملايين فيتحمّل آثامَهم، وربما بقي بعد موته يجري عليه وِزْرُه، نسأل الله العافية، قال الله تعالى:
{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].
إن من الظواهر السيئة لوسائل التواصُلِ الاجتماعي تصديرَ بعض الجُهَّال والتافهين، وإشهارَ بعض الحمقى أو البسطاء، الذين ليس لديهم علم أو ثقافة أو خبرة أو مهارة يُستفاد منها، بل استغلوا هذه الوسائل للثرثرة، ونشرِ الأخبار الشخصية التي لا حاجة للناس بها، من أكل وشرب وزيارةٍ للمطاعم والمنتزهات والأسواق وغيرها، والمتابعُ المسكين يركض وراءهم ويتابع حياتهم وذهابهم وإيابهم يوما بيوم!
وقد ورد النهيُ عن تَتَبُعِ ما لا يعني من أخبار الناس، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عزَّ وجلَّ حرَّم عليكم: عقوقَ الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكَرِهَ لكم ثلاثا: قِيْلَ وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» (متفق عليه).
قال النَّووي: "وأما قِيْلَ وقال، فهو الخوض في أخبار الناس وحكايات مالا يعني من أحوالهم وتصرفاتهم".
عباد الله:
الواجب على من دخل هذا الفضاءَ الواسع وهذه الوسائل المتعددة التي تزيد وتتطور يوماً بعد يوم، أن يراقب الله تعالى فيها، ويحذر من غوائلها، قال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10، 11].
إذا ما خَلَوْتَ الدّهرَ يوْماً فلا تَقُلْ *** خَلَوْتُ، ولكنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
كذلك ينبغي أن يبحث عن الحسابات والمواقع الهادفة المفيدة، التي تزيد معارفه، وتنمي مهاراته، وترفع همته، وتصلح سلوكه، وهي كثيرة جداً ولله الحمد.
وليحذر الإنسان من نشر أسرار بيته وتفاصيل حياته، لما يترتب على ذلك من آثار سيئة.
فاتقوا الله عباد الله، وراقبوا الله تعالى في تعاملكم مع هذه الوسائل، وانتبهوا لأولادكم ومن تحت أيديكم، ووجهوهم إلى حسن استخدامها، وحذروهم من الإفراط فيها وإدمانها، ومتابعة من لا نفع فيه فيها.
- التصنيف: