منزلة الأخلاق في الإسلام
محمد سيد حسين عبد الواحد
الذين يصلحون ولا يفسدون , يجمعون ولا يفرقون , الذين يألفون ويُؤلفون , الذين يحبون الخير للناس ولا يحقدون ولا يحسدون
- التصنيفات: الآداب والأخلاق -
ورد فى مسند الإمام أحمد من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ »
أيها الإخوة المؤمنون يطيب لنا فى مثل هذه الأيام المباركة من كل عام ونحن نحدث الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن دعوته ورسالته أن نقول :
إن رسول الله جاء إلى أهل الأرض يحمل بين يديه رسالة عظيمة جمعت بين جنبيها الخير لجميع الخلائق , جمعت بين العبادة التى تقوى الصلة فيما بينه وبين ربه وبين حسن المعاملة التي تقوى الصلة فيما بينه وبين الناس جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحمل بين يديه رسالة تجمع بين الدين والدنيا جمعت بين الأخلاق الكريمة وبين القيم النبيلة وربطت بينهما برباط متين وميثاق غليظ ..
ولهذا يوم امتدح الله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بمدح جامع مانع أقسم له وقال { {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } }
ويوم تكلم سبحانه عن مضمون الرسالة التي بعث بها المصطفى صلى الله عليه وسلم قال له { { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} }
وتكلم سيد الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم عن دعوته وعن المهمة التى كلفه بها ربه بعد قول لا إله إلا الله محمد رسول الله فحصرها وقصرها في قوله « «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ» »
الغاية العظمى من رسالة كل رسول ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم هى العمل على التقويم والعمل على الإصلاح من أخلاق أمته الهدف الأسمى من بعثة كل نبى ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم هي العمل على تهذيب الطباع وإيقاظ الضمائر فى نفوس الناس ..
حدثتنا آيات القرآن أيها المؤمنون :
أن الذمم فسدت وأن النفوس اشتهت أكل الحرام في أهل مدين فأرسل الله إليهم النبي شعيباَ عليه السلام حتى يأخذ على أيديهم ويصدهم ويردهم عن كل أبواب الكسب الحرام
حدثتنا آيات القرآن أن الأخلاق ساءت وأن الضمائر ماتت واستساغت النفوس رؤية الدماء وألفت الظلم والقهر والعدوان واستشرى الفساد فأرسل الله إلى الناس موسى عليه السلام ليجفف أنهار الدماء وليقف في وجه كل جبار عنيد ..
ويوم اجتمع الناس على أذية الضعفاء وعلى التعرض للفقراء بالغمز واللمز والسخرية والاستهزاء وجرهم هذا إلى الوقوع فى المنكر والفحشاء فأرسل الله إلى الناس لوطاَ عليه السلام يأمرهم بالكف عن أذية الناس وينهاهم عن الفحشاء والمنكر
ويوم عُبدت الأصنام وأُكلت الميتة وسَاء الجوار وشُربت الخمر وضَاعت الأمانة وأكل الأقوياء الضعفاء أرسل الله إلى الناس خاتم الرسل محمداَ صلى الله عليه وسلم
بعثه ربه برسالة عظيمة لها جناحان الجناح الأول يحمل عنواناَ يقول يأيها الناس اعبدوا ربكم ما لكم من إله غيره , والجناح الآخر يحمل عنواناَ يقول لكل مؤمن ومؤمنة خالقوا الناس بخلق حسن .
الإسلام الذى أكرمنا الله به قولٌ وعملٌ:
دينٌ ودنيا عباداتٌ ومعاملاتٌ ...
والعبادة بلا أخلاق محمودة لا تفيد صاحبها فى قليل ولا كثير , والأخلاق بلا عبادة لا تنفع صاحبها فى قبيل ولا دبير حتى تجتمع العبادة مع جمال الأخلاق فى ثوب واحد ..
ولهذا جاءت نصوص القرآن والسنة تقول للمصلين حافظوا على صلواتكم :وتقول للمتصدقين حافظوا على صدقاتكم وتقول لأهل الخير والمعروف حافظوا على خيراتكم وحسناتكم وزينوها وجملوها وحصنوها وحافظوا عليها بمكارم الأخلاق .. لا تتعرضوا للناس بالمن والأذى حتى لا تفسد حسناتكم وأنتم لا تعلمون , لا تتكبروا على الناس لا تتعالوا على من هو أقل منكم مالاَ وولداَ حتى لا تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى}
جاءت نصوص فى شرعنا تقول للمؤمنين
{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وجاءت نصوص أخرى نفهم منها أن من السيئات ما يحبط الحسنات , من السيئات ما يفسد الأعمال ويأتى على رأس السيئات التى تقضى على الحسنات سوء معاملة الناس , سبهم , شتمهم , غصب أموالهم , الوقوع فى أعراضهم , سفك دماءهم , كل سيئة من هذه السيئات كفيلة بأن تجعل من حسناتنا يوم القيامة هَبَاء مَّنثُورًا ..
وحديث المفلس الذى يحفظه الصغير منا قبل الكبير على ما أقول من الشاهدين قَالَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم «أتدرونَ مَنِ المُفْلِسُ ؟ قالوا المفْلسُ فِينَا مَنْ لا دِرهَمَ لَهُ ولا مَتَاع ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم إنَّ المُفْلسَ مِنْ أُمَّتي مَنْ يأتي يَومَ القيامَةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزَكاةٍ ، ويأتي وقَدْ شَتَمَ هَذَا ، وقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مالَ هَذَا ، وسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، قَالَ صلى الله عليه وسلم فيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وهَذَا مِنْ حَسناتهِ ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُه قَبْل أنْ يُقضى مَا عَلَيهِ ، أُخِذَ منْ خَطَاياهُم فَطُرِحَتْ عَلَيهِ ، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ »
يفترض بالمسلم الذى يشهد أن لا إله إلا الله ويشهد أن محمداَ رسول الله :
ويعلم أن الله حق وأن الموت حق وأن البعث حق وأن الحساب حق وأن الجنة حق وأن النار حق أن يكون بحسن معاملته وبجمال أخلاقه داعياَ إلى الله تعالى يفترض بكل مسلم أن يعطى صورة حسنة عن الإسلام وعن المسلمين يفترض به أن يرغب الناس ويحببهم فى الإسلام بصدقه وأمانته وبكرمه وسماحته ..
أتعرفون أيها المؤمنون صفوان بن أمية ؟؟
هو ابن أمية بن خلف عدو الله ورسوله ورث صفوان عداوة الله ورسوله من أبيه ومن شابه أباه فما ظلم كما يقولون عادى صفوان رسول الله سنين عدداَ حتى ورد أنه ما غاب عن معركة واحدة تحارب فيها المشركون مع رسول الله والذين آمنوا بعد غزوة بدر ..
بذل صفوان بن أمية من ما له ما أنفق ودبر مكيدة لقتل رسول الله لكنه لم يفلح فشارك فى غزوة أحد وكان له نصيب الأسد من شهداء المسلمين فى ذلك اليوم وشارك بماله ونفسه فى غزوة الأحزاب وشارك فى صد المسلمين عن البيت الحرام عام الحديبية ..
سنوات طوال قضاها صفوان فى عداوة الله ورسوله تاريخ أسود يقول بصريح العبارة لن يتغير صفوان ولن يؤمن صفوان إلا إذا شاب الغراب ..
لكن إذا تدخلت رحمة الله .. لكن إذا تعامل صفوان عن قرب مع رسول الله فأحسب أننا سنقول كلاماَ آخر .. لما كان فتح مكة ودخلها رسول الله تذكر صفوان عداوته لله ورسوله فخرج من مكة هارباَ وقد عزم على أن يلقى نفسه فى البحر فراراَ من محمد صلى الله عليه وسلم يومها جاء عمير بن وهب وقال يا نبى الله إن صفوان سيد قومه وقد هرب ليلقى نفسه فى البحر فأمنه يا نبى الله فقد أمنت الأحمر والأسود فتناسى صاحب الخلق كل ما كان من صفوان وقال يا عمير أدرك صفوان وهو آمن فقال عمير يا نبى الله أعطنى علامة فأعطاه صلى الله عليه وسلم عمامته ..
فركب عمير فرسه حتى أدرك صفوان قبيل البحر فقال أيا صفوان فداك أبى وأمى جئتك من عند أفضل الناس وأبر الناس وأحلم الناس وخير الناس وهو ابن عمك وعزه عزك وشرفه شرفك وملكه ملكك فأجابه صفوان وقال أخاف على نفسى يا عمير أن يقتلنى محمداَ على عداوتى له فقال هو أحلم من ذلك وأكرم وهذه علامة الأمان وأراه عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع صفوان حتى دخل على النبى صلى الله عليه وسلم فقال :
يا محمد إن هذا يزعم أنك أمنتنى فقال النبى صدق قد أمنتك فهل لك إلى خير من سبيل ؟ هل لك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ؟ قال أمهلنى يا محمد حتى أنظر فى أمرى شهرين فقال صاحب الخلق الكريم أمهلتك يا صفوان بدل الشهرين أربعة أشهر ..
ورد فى الصحيح :
أن رسول الله سمع أن هوازن قد أجمعت أمرها على حربه عقب فتح مكة مباشرة .. فجهز رسول الله نفسه وقال أغزهم قبل أن يغزوني ولأن هوازن خرجت لقتال المسلمين بأعداد غفيرة كان المسلمون بحاجة إلى بعض الدروع والسيوف فلم يجد الرسول بغيته إلا عند صفوان وهو يومئذ على الشرك فطلب النبى منه أن يعيره مائة درع ، وما يُصلحها من عدتها وعتادها، فقال صفوان أغصباً يا محمد ؟
فقال صلى الله عليه وسلم لابل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك، فأعار صفوانُ النبيَّ الدروعَ وأمره النبي أن يحملها إلى حنين فحملها صفوان ، ولما عاد النبي صلى الله عليه وسلم غانماً من حنين ، وقد هلكت بعض دروع صفوان في الحرب،
قال النبى لـ صفوان إن شئت غرمتها لك يا صفوان فقال صفوان لا .. وجعل صفوان ينظر إلى وادٍ مليء بالغنم ، ويديم النظر إلى ذلك الوادى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه، ثم قال صلى الله عليه وسلم:
أبا وهب أيعجبك هذا؟ قال نعم فقال النبى فهو لك فعلها رسول الله تحبيباً وترغيباً وتأليفاً لقلبه فقال صفوان مه !! والله ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله ..
لا أجد تعليقاًَ على هذا الموقف أيها المؤمنون إلا أن أقول هذه بركة حسن الخلق التى تعامل بها الرسول مع الناس أخلاق حولت بفضل الله تعالى العدو الدود إلى ولىٍ حميم أسلم صفوان بن أمية وحسن إسلامه ووقف يدافع عن الإسلام فى وقت عصيب حاول فيه ضعاف الإيمان أن يرتدوا عن الإسلام وصدق ربى
{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }
الخطبة الثانية
ورد عند أصحاب السنن أنّ مُعَاذاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِى قَالَ «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ قَالَ زِدْنِى قَالَ أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا قَالَ زِدْنِى قَالَ خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ »
إن من عظمة الإسلام أيها المؤمنون:
أنه حين يدعو إلى التحلى بمكارم الأخلاق يوسع الدائرة فيأمر بحسن الخلق مع كل الناس مع الصغير والكبير مع الغنى والفقير مع القريب منهم ومع البعيد مع المسلم منهم ومع غير المسلم يدعونا الإسلام إلى أن نخالق الناس كل الناس بخلق حسن ..
على الرغم من أن كل من قال لا إله إلا الله سيدخل الجنة إلا أن أهل الجنة ليسوا سواءَ فبعضهم أفضل من بعض وبعضهم يُنعم أكثر من بعض وبعضهم يعطى ما لا يعطاه غيره وإن كانوا فى النهاية جميعاَ فى الجنة يؤذن لأصحاب الأخلاق الكريمة والصدور السليمة أن يتبوءوا من الجنة الدرجات العلى مع النبيين الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاَ ..
قال عَبْد اللهِ بْن عَمرو جلس رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم بيننا مجلساََ فقال : «أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم أَحْسَنُكُمْ أَخْلاَقًا» ..
الذين يصلحون ولا يفسدون , يجمعون ولا يفرقون , الذين يألفون ويُؤلفون , الذين يحبون الخير للناس ولا يحقدون ولا يحسدون , هؤلاء ولا أحد غيرهم أحب الناس وأقرب الناس من رسول الله فى الجنة يوم القيامة . نسأل الله أن يجعل نصيبنا من محاسن الأخلاق النصيب الأوفر