من أسرار النفس في القرآن الكريم

منذ 2021-03-03

تتجلَّى آيات الله في آفاق الكون وفي أعماق النفس، وقد عَلِم الإنسانُ من آيات الكون أكثرَ مما عرَف من آيات النفس، فقد علم من أسرار الكون بعضًا عن بدايته..

من أسرار النفس في القرآن الكريم

يا عالِمَ السرِّ والنجوى، يا كاشف الضُّرِّ والبلوى، يا من تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، نسألك علمًا نافعًا، وقلبًا خاشعًا، وشفاء من كل داء، ودعاء مستجابًا.. اللهم آمين.

 

تتجلَّى آيات الله في آفاق الكون وفي أعماق النفس، وقد عَلِم الإنسانُ من آيات الكون أكثرَ مما عرَف من آيات النفس، فقد علم من أسرار الكون بعضًا عن بدايته، ونظر شيئًا في نهايته، كشف المجرَّات، وأسوار السماء الأعظمية، ومسح صفحة السماء ورسم خرائطها، واكتشف الثقوب السوداء، والنجم النيتروني، والقزم الأبيض، وسبَرَ أشباه المجرات في أطراف الكون.

 

ولكن العلم اليوم يَحْبو على أطراف النفْس البشرية، وبذلك نتبيَّن عظَمةَ نَظمِ القرآن وهو يعطف آيات الأنفس على آفاق الكون، حيث يقول سبحانه وتعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].

 

في منظومة: القول - السر - الأخفى - نتدبَّر قوله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه: 7]، ما حقيقة القول والسرِّ والأخفى؟

نقول: أن يكون واحدًا من ثلاثة:

1- العَلَنُ: قولٌ أَعرِفُه، والناس تعرفه، والله يعرفه.

 

2- السِّرُّ: حديث أعرفه، والناس لا تعرفه، والله يعرفه.

 

3- الأَخْفى: لا يعرفه الناس، ولا أعرفه أنا وأنا صاحبه، ولكن الله يعرفه.

 

القول في القرآن الكريم:

يظهر رسم كلمة "قال" في القرآن الكريم وجهًا جديدًا من وجوه إعجاز القرآن الكريم، وهو الإعجاز في رسم المصحف، وقد ورد الفعل "قال" في القرآن الكريم 529 مرة بصورتين متمايزتين: مرة "قاف - ألف - لام" 526 مرة، تُكتَب كما نَعرِف الإملاء العادي: "قال"، والصورة المغايرة وردت 3 مرات فقط "قال" بطريقة الرسم العثماني "قل" بدون ألف في المواضع الآتية:

{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون: 112، 113].

 

 {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 114].

 

{قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 112].


هنا يعظ القرآن العبادَ الأحياء، فينقُل لهم مشهدًا من مشاهد الآخرة، يقول فيه: كم لبثتم في الأرض من السنين؟ فيُجيبون وهم في عالم الآخرة، وقد عايَنوا الحقيقة، بأنهم لَبِثوا يومًا أو بعضَ يوم، فيُخبرهم الحقُّ تبارك وتعالى بأن ما لبثوه أقلُّ مما قدَّروا، فجاء رسم كلمة "قال" هنا بالرسم العثماني مغايرًا للرسم الإملائيِّ العادي؛ ليُعبِّر عن صورة المشهد الأخروي.

 

والقول مسجَّل على الإنسان؛ يقول تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

 

والقول نوعان: الأول يضمُّ القول المعروف، والقول الطيب، والقول الحق، والقول الفصل، والقول الحسن... إلخ.

 

والثاني يشمل قول السُّوء، وقول الزُّور، ومنكَر القول، ولَحْن القول... إلخ.

 

وكلُّ قول يخرُج من الإنسان يُحفَظ في سجلٍّ كامل يُعرَض أمام محكمة الآخرة؛ ليتم الحساب، وحذارِ من سقطات اللسان؛ فهي تكُبُّ الناسَ على وجوههم في النار، كما قال صلى الله عليه وسلم: «وهل يكُبُّ الناسَ على وجوههم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم»؟!.

 

والكلمة الطيِّبة تعلو بصاحبها في أعلى عليِّين، والكلمة الخبيثة من سخَطِ الله تَهوي بصاحبها سبعين خريفًا في النار.

 

والقول ينتقل على هيئة موجات صوتية بعد حدوثها، ومن الممكن سماعها مرة أخرى، ولكنَّ عِلم البشر قاصر وعاجز حتى الآن عن إعادة هذه الأصوات، ونظريًّا يتحدث العلماء من الناحية النظرية عن إمكانية إيجاد آلة لالتقاط أصوات الزمن الغابر، ولو تَمكَّن العلماء من اختراع تلك الآلة، فلسوف تكون مشكلة المشاكل آنذاك هو عدم القدرة على فصل كل صوت على حدة، ومن رحمة الله ألا تُخترَع مثل هذه التقنيات، وإلا انكشَفَ المستور.

 

إن صفة اسم الله "الستار" قد تجلَّت في صفحة الكون والنفس، وبسط ستره تعالى على عباده في الدنيا، ويوم القيامة يستُر على عباده المؤمنين التائبين العابدين المُنيبين، ويفضح سرائر الكافرين الجاحدين الظالمين، مصداقًا لقوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9].

 

وإسرار القول ما حدَّث به المرءُ نفسَه، والجهرُ ما حدَّث به غيرَه، يقول الحق تبارك وتعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10]، والسر والعلن وجهانِ متضادان: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل: 19].

 

نحن لا نعرف السرَّ في نوع الطعام والشراب الذي تناولناه اليوم، ولا نعلم لماذا لبسنا ما لبسنا اليوم؟ ولماذا ركبنا ما ركبنا؟ وما السرُّ في ارتداء حلة بعينها اليوم؟ ولماذا؟ ولماذا؟ ولماذا؟ أسئلة كثيرة، قد نبحث عن إجابة لها حينما نُسأل عنها، أما قبل السؤال فلا نَعرِف الإجابة (الأخفى)؛ لأن هناك شيئًا في الإنسان يُسمَّى القابع في أعماق النفس البشرية، لا يُلِمُّ به إلا اللهُ.

 

ونحن نعرف أسرار النفس البشرية من نصوص القرآن، ومن عِلمِ النفس بحيث لا تتعارض ركائزُ علم النفس مع إشارات القرآن، ويرى علماء النفس أن حوالي 60% من سلوكنا اليوميِّ يصدر عنا دون أن نعرف الدوافع الحقيقية لذلك السلوك، وعلمُ حقائق سلوكنا عند خالقنا، يقول تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3]، ويقول أيضًا: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80].

____________________________________
د. حسني حمدان الدسوقي حمامة

  • 3
  • 0
  • 3,028

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً