التثبت من الأخبار وعدم تصديق الشائعات
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
قال الإمام النووي رحمه الله: فيه الزجر عن التحديث بكل ما سمع الإنسان, فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب, فإذا حدث بكل ما سمع فقد كذب لأخباره بما لم يكن
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فقد طُبِعَ الإنسان على العجلة, قال سبحانه وتعالى: { وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11] والعجلة إن كانت فيما يقرب إلى الله عز وجل من الطاعات فهي محمودة, وإن كانت في غير ذلك فهي مذمومة, لأنها من الشيطان عدو الإنسان الذي يريد أن يوقعه في المهالك, فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «التأني من الله والعجلة من الشيطان» [أخرجه أبو يعلى]قال المناوي رحمه الله: " التأني : التثبت في الأمور, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: العجلة من الشيطان, فإنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم وتوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها, وتجلب له أنواعاً من الشرور, وتمنعه أنواعاً من الخير, وهي قرين الندامة.
ومن الأمور التي ينبغي التثبت منها: الأخبار والمعلومات التي يسمعها المسلم ,فقد أمر الله عز وجل عباده بالتثبت من أخبار الفساق قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [سورة الحجرات: 6] قال العلامة السعدي رحمه الله: من الآداب التي على أولي الألباب التأدب بها واستعمالها, أنه إذا أخبرهم فاسق بنبأ, أي: خبر, أن يتثبتوا في خبره, ولا يأخذوه مجرداً, فإن في ذلك خطراً كبيراً, ووقوعاً في الإثم,...فالواجب عند سماع خبر الفاسق, التثبت والتبين, فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه عُمِل به وصُدّق, وإن دلت على كذبه كُذّب ولم يعمل به, ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول, وخبر الكاذب مردود, وخبر الفاسق متوقف فيه.
والكذوب قد يَصدقُ أحياناً فلا يُصدقُ دائماً, فعن أبي هريرة رضي الله عنه, قال : «وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان, فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام, فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم...فقال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي لم يزل معك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح, فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال له علية الصلاة والسلام: ( صدقك وهو كذوب ذاك شيطان )» [أخرجه البخاري] قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث من الفوائد: أن الكذاب قد يصدق.
فإذا صدق الكذوب في خبرٍ واحدٍ, فلا ينبغي أن يُصدق في كل ما يقول, فعن أبي هريرة رضي الله عنه, قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسة على الصفوان فإذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا : ما ذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال: ( الحق وهو العلي الكبير) فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا واحد فوق آخر...فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه وربما لم يدركه حتى يرمي بها إلى الذي يليه حتى يلقوها إلى الأرض فتُلقى على فم الساحر فيكذب معها مائة كذبة فيُصدق فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ؟ فوجدناه حقاً للكلمة التي سمعت من السماء) » [أخرجه البخاري]
قال الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: فيه: قبول الناس للباطل! كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمئةٍ ؟
فمن صدق مرة, فقد يكذب مائة كذبة, فينبغي التنبه لذلك, ومن ثبت صدق خبره فلا ينبغي التعجل بنشره وإذاعته, قال الله عز وجل{إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}[سورة النساء:83]
قال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: هذا تأديب من الله لعباده...وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة...أن يتثبتوا, ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر, بل يردونه إلى الرسول, وإلى أولى الأمر منهم, أهل الرأي, والعلم والنصح, والعقل, والرزانة, الذين يعرفون الأمور, ويعرفون المصالح وضدها, فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين, وسروراً, وتحرزاً من أعدائهم, فعلوا ذلك, وإن رأوا ما فيه مصلحة, أو فيه مصلحة, ولكن مضرته تزيد على مصلحته, لم يذيعوه.
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : هذه الآية تنطبق تماماً على ما نحن فيه الآن, حيث إن كثيراً من الناس يعلنون الأخبار على عواهنها, ولا يبالون بما ترتب عليها من خير أو شر, ولا يزنون بين المصالح بعضها مع بعض, ولا بين المفاسد بعضها مع بعض, ولا بين المصالح وبين المفاسد, وإنما يذيعون الشيء وينشرونه بدون تحقيق ولا تمحيص:
فلا تستعجل بنشر أي خبر, حتى ولو كان صحيحاً, حتى تتأكد أن في نشره خير ومصلحة, وأنه لا يوجد فيه مفسدة تزيد على مصلحته, وإذا ألتبس عليك الأمر, فلا تنشره, وتوقف, فالسلامة لا يعدلها شيء.
فمن صدَّق كلَّ ما سمع, ونشر كلّ ما علم, أوقعه ذلك في محاذير وأخطاء, قد تعود عليه أو غيره, بالضرر في الدنيا والآخرة لأن تلك الأخبار فيها ما لا حقيقية له, بل هو كذب وإشاعات, والشائعات يجب عدم تصديقها وإن كثر ناقلوها إن لم يكون مرجعها إلى أمر حسي صحيح, ففي حادثة اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه, قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «كنتُ أنا وجار لي...نتناوب النزول على النبي...فنزل صاحبي يوماً, فرجع إلينا عشاءً, فضرب بابي ضرباً شديداً, ففزعت فخرجت إليه, فقال: قد حدث اليوم أمر عظيم...طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه...فجمعت علي ثيابي فصليت صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم, فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مشربة ً فاعتزل فيها, فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي...فقلت: أطلقكن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري ها هو ذا معتزل في المشربة, فجئت المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم بعضاً,...فجئت المشربة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم, فقلت لغلام: استأذن لعمر...فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم...فقلت وأنا قائم: يا رسول أطلقت نساءك ؟ فرفع إلي بصره فقال : لا فقلت : الله أكبر» [أخرجه البخاري]
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: كان النبي صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه في مغاضبة كانت بينه وبينهن, فقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه, فجاء عمر رضي الله عنه, يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك, فلما قال: لا, كبَّر فرحاً بأنه صلى الله عليه وسلم لم يُطلِّق نساءه, وتعجُّباً أيضاً مما أشاع الناس, لأن الناس يشيعون أشياءَ لا حقيقة لها. وقال الشيخ الدكتور: إبراهيم بن عبدالله اللاحم: الأخبار التي تُشاع ولو كثر ناقلوها إن لم يكن مرجعها إلى أمر حسي من مشاهدة أو سماع لا تستلزم الصدق, فإن جزم الأنصاري في رواية بوقوع التطليق, وكذا جزم الناس الذين رآهم عمر عند المنبر بذلك محمول على أنهم شاع بينهم ذلك, من شخص بناء على التوهم الذي توهمه من اعتزال النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم نساءه, فظنَّ لكونه لم تجر عادته بذلك أنه طلقهن فأشاع أنه طبقهن, فشاع ذلك فتحدث الناس به, وأخلق بهذا الذي ابتدأ بإشاعة ذلك أن يكون من المنافقين.
فالأخبار التي لا حقيقة لها, والتي يتناقلها الناس وهي ما يسمى بالشائعات, ينبغي الحذر من تصديقها وإن كثر ناقلوها, فالكثرة لا تعني الصحة., فهنيئاً لمن كان بعيداً عن القيل والقال, فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله...كره لكم: قيل وقال» [متفق عليه] فكثرة القيل والقال والتحديث بكل ما يسمع الإنسان تجعله يقع في الكذب, فعن أبي هريرة رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع » [ أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه] قال الإمام النووي رحمه الله: فيه الزجر عن التحديث بكل ما سمع الإنسان, فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب, فإذا حدث بكل ما سمع فقد كذب لأخباره بما لم يكن.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ