فضل التواضع
قال المُبَرِّدُ: (النِّعْمَةُ الَّتِي لَا يُحْسَدُ صَاحِبُهَا عَلَيْهَا التَّوَاضُعُ، وَالْبَلَاءُ الَّذِي لَا يُرْحَمُ صَاحِبُهُ مِنْهُ الْعُجْبُ).
- التصنيفات: تزكية النفس -
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد: التواضع مَزِيَّة تدل على النُّبل والكَرَم، ونقاءِ السَّريرة، وصفاءِ الطَّوِيَّة؛ فقد أودَعَها الله تعالى في نفوس عِباده، فتمثَّلها الأنبياءُ والرسلُ والصالحون، والنُّبلاءُ من البشر، الذين عَرَفوا قُدْرَةَ الخالق، وضَعْفَ المخلوق.
والتواضع: هو الاستسلام للحق، وتركُ الاعتراض في الحُكم، وهو أعم من الخشوع؛ لأنه يُستعمل فيما بين العِباد، وفيما بينهم وبين الربِّ سبحانه، والخشوعُ لا يُستعمل إلاَّ في الثاني، فلا يُقال: خشَعَ العبدُ لِمِثْلِه، ولكن يقال: تواضَعَ له.
قال ابن عطاء: (التواضع: قَبُولُ الحقِّ من كلِّ مَنْ قاله). وقيل لأبي يزيدٍ البسطامي: (متى يكون الرجلُ متواضعًا؟ قال: إذا لم يرَ لنفسه مَقامًا، ولا حالًا، ولا يرى أن في الخَلْقِ مَنْ هو شرٌّ منه). وأخرج ابن أبي الدنيا بسنده؛ قال: (خَرَجَ الْحَسَنُ، وَيُونُسُ، وَأَيُّوبُ يَتَذَاكَرُونَ التَّوَاضُعَ؛ فَقَالَ لَهُمُ الْحَسَنُ: وَهَلْ تَدْرُونَ مَا التَّوَاضُعُ؟ التَّوَاضُعُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِكَ فَلَا تَلْقَ مُسْلِمًا؛ إِلَّا رَأَيْتَ لَهُ عَلَيْكَ فَضْلًا).
فالواجب على المسلم أنْ يتواضَعَ لعباد الله، ويُلِينَ لهم جانبَه، ويُحِبَ لهم الخير والنُّصح في كلِّ حالة من أحوالهم؛ يحترم كبيرهم، ويحنو على صغيرهم، ويُوَقِّر عالمهم، ويَحْفَظ لكلِّ ذي مكانةٍ منزلتَه.
وقد تكاثرتْ نصوصُ الكتاب والسُّنة في الأمر بالتواضع للحق والخَلْق، والثناءِ على المتواضعين، وذِكْرِ ثوابهم في العاجل والآجل. وأعظمُ الحقوق على العباد حَقُّ الله تعالى عليهم، بأن يعبدوه لا يُشركون به شيئًا، فمَنْ خضَعَ لهذا الحق فهو المتواضع الخاضع لله عز وجل، ومن أعرض عنه، وعارَضَه فهو المُتكبِّر؛ {وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172]. قال المُبَرِّدُ: (النِّعْمَةُ الَّتِي لَا يُحْسَدُ صَاحِبُهَا عَلَيْهَا التَّوَاضُعُ، وَالْبَلَاءُ الَّذِي لَا يُرْحَمُ صَاحِبُهُ مِنْهُ الْعُجْبُ). وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه؛ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلاَ يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» (رواه مسلم). وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ» (رواه مسلم).
تَواضَعْ تَكُنْ كالبَدرِ لاَحَ لِنَاظِرٍ *** عَلا طَبَـقـاتِ الـجَــوِّ وهــوَ رَفـــيـــعُ
ولا تَـكُ كـالـدُّخــان يـعْـلُـــــو *** بِنفسِه إلى طَبَقاتِ الجوِّ وهو وَضِيعُ
وللتواضع دور مهم في تجديد الإيمان، وجلاءِ القلب من صدأ الكِبْر؛ لأن التواضع في الكلام والمَظْهَرِ دالٌّ على تواضُعِ القلب لله تعالى، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْبَذَاذَةُ مِنَ الإِيمَانِ» صحيح - رواه أحمد وابن ماجه. ومعناه: التواضع في الهيئة واللِّباس.
والتواضع خُلُقُ الأنبياء والصالحين؛ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ رحمه الله: (مَا رَأَيْتُ مِثْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، صَحِبْنَاهُ خَمْسِينَ سَنَةً فَمَا افْتَخَرَ عَلَيْنَا بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ). وكان رحمه الله يقول: (نحن قومٌ مساكين).
تَواضَعْ إذا مانِلْتَ في الناسِ رِفعةً ♦♦♦ فإنَّ رَفِيعَ القَومِ مَنْ يَتَواضَعُ
أخي المسلم.. إنَّ التواضع لله تعالى هو أعظم التواضع؛ بأنْ تستيقنَ وتستحضِرَ عظيمَ نِعَمِ الله عليك، وعظيمَ فضله وآلائه وإحسانه إليك، فهو الذي غَمَرَك بِنِعَمِه ظاهرةً وباطنة، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل: 53].
وإنَّ أعظمَ الحقوقِ عليكَ بعدَ حقِّ الله حقُّ الوالدين، فقد أمَرَكَ الله تعالى بالتواضع لهما، والذلِّ لهما في الطاعة: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 23، 24]. أي: تواضَعْ لهما تواضُعًا مقرونًا برحمة، ومقرونًا بِعَطف، بكلماتٍ طيِّبة، وخِطابٍ لَطِيف، وتذَكُّرٍ للجميل السابق، والمعروفِ الماضي، فهكذا يكون المسلم متواضعًا مع والديه.
ومن التواضع أنْ تتواضَعَ لإخوانك المؤمنين؛ قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]. وهذا التواضع يدعوكَ إلى نصيحتهم ومحبَّتهم والبُعدِ عن غِشِّهم وخيانتهم، وفي الحديث: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» (رواه البخاري ومسلم).
أيها الشاب المسلم.. تواضَعْ لِمَنْ هو أكبر مِنكَ سِنًّا، تواضُعًا يقتضي إكرامَه وإجلالَه، فلا تُؤذِيه، ولا ترفَعْ صوتَك عليه، وتذكَّرْ أنه سبَقَكَ إلى الإسلام، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ» حسن - رواه أبو داود. فهذا دليلُ تواضعك، وطِيبِ نفسِك، وأصالتِكَ في الخير، وإياك أنْ يخدعَك شبابُك؛ فلا تُبالي بالأكبر سِنًّا، ولا تنظر له إلاَّ نظرَ احتقارٍ وازدراء، فهذا كلُّه نقصٌ في الإيمان.
عباد الله.. إنَّ التواضع لا يُنافي أن تكون للمؤمن هيبة يحفظ بها قَدْرَه، ويصون بها عِرضَه، والسَّعِيدُ مَنْ جَمَعَ بين التواضع والهيبة، فلم يتكبَّر على الناس، ولم يُفقِد نفسَه هيبَتَها، وهكذا كان سلفنا الصالح؛ فقد بلغ من تواضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ أنه كان يتناوب مع خادمه على الركوب على دابةٍ واحدةٍ في السفر، ومع ذلك كان ذا هيبة ووقار، حتى قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: «مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ؛ هَيْبَةً لَهُ» رواه البخاري.
الخطبة الثانية
الحمد لله... أيها المسلمون.. في سِيرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم دروسٌ وعِبَرٌ في التواضع؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يمر على الصبيان فيُسلِّم عليهم، وكانت الأمَةُ تأخذ بيده صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت، وكان إذا أكلَ لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلاَثَ، وكان صلى الله عليه وسلم يخدم أهله في البيت، ولم يكن ينتقم لنفسه قط.
وكان صلى الله عليه وسلم يَخْصِفُ نَعْلَهُ، ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة لأهله، ويعلف البعير، ويأكل مع الخادم، ويُجالس المساكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويبدأ مَنْ لَقِيَهُ بالسلام، ويُجِيبُ دعوةَ مَنْ دعاه، ولو إلى أيسر شيء.
وكان صلى الله عليه وسلم هَيِّنَ المؤنة، لَيِّنَ الخُلُق، كريمَ الطَّبع، جميلَ المعاشرة، طَلْقَ الوجه بسَّامًا، متواضعًا من غير ذِلَّة، جوادًا من غير سَرَفٍ، رقيقَ القلب رحيمًا بكل مسلم، خافِضَ الجناحِ للمؤمنين، لَيِّنَ الجانب لهم.
وكان صلى الله عليه وسلم يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، ويُجيب دعوة العبد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان رسولُ اللهِ يُدْعَى إِلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ وَالْإِهَالَةِ السَّنِخَةِ فَيُجِيبُ، وَلَقَدْ كَانَ لَهُ دِرْعٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ فَمَا وَجَدَ مَا يَفُكُّهَا حَتَّى مَاتَ» صحيح - رواه الترمذي. وعنه رضي الله عنه قال: «أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرٍ عَتِيقٍ؛ فَجَعَلَ يُفَتِّشُهُ يُخْرِجُ السُّوسَ مِنْهُ» صحيح - رواه أبو داود.
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» حسن - رواه الترمذي. قال ابن الأثير رحمه الله: (أرادَ به التَّواضُعَ والإِخباتَ، وأن لا يكون من الجَبَّارين المُتَكَبِّرين). ولهذا قالت عائشةُ رضي الله عنها: (إِنَّكُمْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ: التَّوَاضُعُ) رواه البيهقي في "الكبرى".
____________________________________________________
الكاتب: د. محمود بن أحمد الدوسري