لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
لا تستسلم للأوهام, قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: هناك ما يسمى بالوهم وليس بخوف, مثل أن يرى ظل شجرة تهتز, فيظن أن هذا عدو يتهدده.
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فعندما يقال للمسلم : { لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ} [العنكبوت:33] وعندما يقال للمسلمة: {لَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} [القصص:7] فليس المقصود أن الإنسان لا يحزن ولا يخاف مطلقاً فالدنيا فيها أشياء تُحزن الإنسان وتُخفيه وقد حدث ذلك لأفضل الخلق الأنبياء والرسل قال عز وجل: {وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ } [العنكبوت:33] قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: الأنبياء كغيرهم من البشر يلحقهم المساءةُ والأحزان والسرور, لقوله عز وجل:{سِيءَ بِهِمْ}
وقال عز وجل:{إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ} [ص:22] قال العلامة العثيمين رحمه الله: من فوائدها: أن الأنبياء يلحقهم من الطبائع البشرية ما يلحق غيرهم, لقوله: {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} حيث لحقه الفزع كما يلحق سائر الناس.
فالمقصود بعدم الخوف والحزن, أن لا تكون أحزان المسلم ومخاوفه دائمة مستمرة, لأن ذلك يضعف قلبه ويمنعه من السير والتشمير في طاعة ربه, كما أن استمرار الأحزان, ودوام القلق, وكثرت المخاوف تؤدي إلى الإصابة بالأمراض النفسية, فالحزن الدائم (الاكتئاب), والخوف المبالغ فيه (القلق), من أكثر الأمراض النفسية انتشاراً في العالم, يقول الدكتور أحمد عكاشة أستاذ الطب النفسي: (القلق) من أكثر الأمراض شيوعاً في العالم بأجمعه, ويقول الدكتور محمد الصغير استشاري الطب النفسي: يعد (الاكتئاب) من أكثر الأمراض شيوعاً في العالم., ويقول الدكتور محمد عثمان نجاتي: تتفق جميع مدارس العلاج النفسي على أن القلق هو السبب الرئيسي في نشوء أعراض الأمراض النفسية.
فينبغي للمسلم أن يبتعد عن الإحزان والمخاوف الدائمة يعينه على ذلك أمور, منها:
- إفراد الله عز وجل بالعبادة وحده لا شريك له:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إذا جرد العبدُ التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه, وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله تعالى, بل يفرد الله بالمخافة...فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين, قال بعض السلف: من خاف الله خافه كل شيء, ومن لم يخف الله أخاف من كل شيء.
- قوة الإيمان:
قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [ آل عمران:175] قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: كلما قوي الإيمان بالله قوي الخوف منه, وضعف الخوف من أولياء الشيطان, لقوله: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
- الخوف من الله جل جلاله:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: من خافه واتقاه آمنه من كل ما يخافُ ويحذرُ,...ومن لم يخفهُ أخافه من كل شيء, وما خاف أحد غير الله إلا لنقص خوفه من الله, قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُون} [النحل:98-100] وقال: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران:175] أي: يخوفكم بأوليائه, ويعظمهم في صدوركم, في تخافوهم, وأفردوني بالمخافة أكفِكُم إياهم.
الإيمان بالقضاء والقدر:
قال ابن القيم: الإيمان بالقضاء والرضا به يُذهب عن العبد الهمَّ والغمَّ والحزن.
قال العلامة السعدي رحمه الله: ومتى اعتمد القلب على الله, وتوكل عليه, ولم يستسلم للأوهام, ولا ملكته الخيالات السيئة, ووثق بالله وطمع في فضله, اندفعت عنه بذلك الهموم والغموم, وزالت عنه كثير من الأسقام البدنية والقلبية, وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور ما لا يمكن التعبير عنه.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: الله تعالى...حسب من توكل عليه, وكافي من لجأ إليه, وهو الذي يؤمِّنُ الخائف, ويجير المستجير, وهو نعم المولى, ونعم النصير, فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه تولاه وحفه وحرسه وصانه, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: الله تعالى...حسب من توكل عليه, وكافي من لجأ إليه, وهو الذي يؤمِّنُ الخائف, ويجير المستجير, وهو نعم المولى, ونعم النصير, فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه تولاه وحفه وحرسه وصانه,
- التفاؤل:
الأمراض وإن كثرت فالصحة أكثر منها, والآلام وإن وجدت فالعافية أكثر منها, والبلايا وإن وجدت فالسلامة أكثر منها, فالخير غالب كثير, يحتاج إلى قلب سليم يبصره, فليكن التفاؤل ملازماً لك, تذهب عنك الأحزان, وتبتعد عن المخاوف, والقلق, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: فاللذة والسرور والخير والنعم والعافية والصحة والرحمة في هذه الدار المملوءة بالمحن والبلاء أكثر من أضدادها بأضعافٍ مضاعفة.
عدم الاستسلام للأوهام والخيالات:
لا تستسلم للأوهام, قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: هناك ما يسمى بالوهم وليس بخوف, مثل أن يرى ظل شجرة تهتز, فيظن أن هذا عدو يتهدده.
احذر توهم وجود أمراض فيك, وليست فيك, يقول الدكتور محمد بن عبدالله الصغير استشاري الطب النفسي: توهم المرض, هو اضطراب نفسي, يتعلق بمحتوى التفكير, حيث يظل ذهن الشخص مشغولاً بوظائف جسمه, وصحة بدنه, ويتصور أن لديه مرضاً خطيراً خفياً يدب في أعضائه, أو بعضها, ويهدده بالموت, فتراه يفسر أي عرض بسيط ( كالخفقان أو بثور في الجلد...) على أنه دلالة على مرض خطير, فيبادر بالذهاب إلى الأطباء...باحثاً عن نتيجة تقنعه بأنه مريض فعلاً, وقد لا يقتنع بكثير من آراء الأطباء, ولا نتائج الفحوصات.
وهذا الخوف خوف مذموم, قال العلامة السعدي رحمه الله: الخوف...إن كان خوفاً وهمياً, كالخوف الذي ليس له سبب أصلاً, أو له سبب ضعيف, فهذا مذموم, يدخل صاحبه في وصف الجبناء, وقد تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من الجبن.
ولذا ينبغي مقاومة هذا الخوف, يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ينبغي للمؤمن أن...يطارد هذه الأوهام لأنه لا حقيقية لها وإذا لم يطاردها فإنها تهلكه, وقال: يجب على المؤمن أن يطادره ما أمكن, لأن المؤمن...قوي.
فإن لم يقاوم المسلم هذا الخوف جلب له الأمراض والأزمات النفسية, يقول العلامة السعدي رحمه الله:" فكم ملئت المستشفيات من مرضى الأوهام والخيالات الفاسدة,...وكم أدت إلى الحمق والجنون, والمعافى من عافه الله ووفقه لجهاد نفسه لتحصيل الأسباب النافعة المقوية للقلب, الدافعة لقلقه."
عدم الاسترسال في الأحزان, فذلك لا يرد ما فات:
الإنسان العاقل إذا فقد شيئاً عزيزاً عليه, فإنه يحزن عليه الحزن الطبيعي, بحيث لا يكون حزنه دائماً مستمراً معه, فذلك لا يجلب له نفعاً, فالأحزان الدائمة على ما مضى لا ترد ما فائت, قال الله سبحانه وتعالى:{ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران:139] قال العلامة محمد العثيمين رحمه الله: ينهى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين عن...الحزن على ما مضى, لأن هذا في الحقيقة كما أنه خلاف الشرع فهو خلاف العقل, لأن الحزن على ما فات لا يرد الفائت, لو تحزن ليلاً ونهاراً على ما مضى لن تغير شيئاً, الذي مضى وقع كما هو لن يتغير, ولهذا كان من الحزم أن لا يحزن الإنسان على شيءٍ مضى, بل يقول: قدر الله, وما شاء فعل.
- التأسي بالأخرين فالكل يعاني:
من نظر إلى أحوال الناس فسيجد أن الكلَّ يعاني, فهذا من فقر, وهذا من مرض, وهذا من دين, وهذا من فقد عزيز, وهذا من كساد تجارة, وهذا من عقوق أولاد, ونحو ذلك, فلست الوحيد في معاناتك, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وليعلم أنه في كل وادٍ بنو سعدٍ, ولينظر يمنةً فهل يرى إلا محنةً ؟ ثم ليعطف يسرةً فهل يرى إلا حسرةٍ ؟ وأنه لو فتش العالم لم يرَ فيهم إلا مبتلىً, إما بفوات محبوبٍ, أو حصول مكروهٍ, وأن شرور الدنيا أحلامُ نوم, أو كظلِّ زائلٍ, إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً, وإن سرت يوماً ساءت دهراً, وإن متعت قليلاً منعت طويلاً, وما ملأت داراً خيرةً إلا ملأتها عبرة, ولا سرته بيوم سرورٍ إلا خبأت له يوم شرورٍ, قال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: لكل فرحةٍ ترحة, وما مُلئ بيت فرحاً, إلا مُلئ ترحاً.
قراءة سورة يوسف ليرى المسلم كيف أن المحنة قد تتحول إلى منحة:
المحنة قد تتحول إلى منحة, ومن قرأ سورة يوسف بتدبر ظهر له ذلك جلياً, قال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: هذه القصة العظيمة التي قال الله في أولها: {نَحنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحسَنَ القَصَصِ} [يوسف: 3].وقال في آخرها: ( َقَد كانَ في قَصَصِهِم عِبرَةٌ لِأُولِي الأَلبابِ) [يوسف:111]...هذه القصة من أحسن القصص, وأوضحها, وأبينها, لما فيها من أنواع التنقلات, من حال إلى حال, ومن محنة إلى محنة, ومن محنة إلى منحة ومنةٍ, ومن ذل إلى عز, ومن رقٍّ إلى ملك, ومن فرقة وشتات, إلى اجتماع وائتلاف, ومن حزن إلى سرور...ومن ضيق إلى سعة...فتبارك من قصها فأحسنها ووضحها وبينها...وقال رحمه الله: ومن فوائد قصة يوسف: أن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً, فإنه لما طال الحزن على يعقوب, واشتد به إلى أنهى ما يكون, ثم حصل الاضطرار لآل يعقوب, ومسهم الضر, أذن الله حينئذ بالفرج, فحصل التلاقي في أشد الأوقات إليه حاجة, واضطراراً, فتم بذلك الأجر, وحصل السرور.
- عدم التفكر كثيراً في المستقبل:
التفكير الكثير المبالغ فيه في المستقبل, يؤدي بالبعض إلى الخوف من المستقبل, وهو شعور بخوف من احتمال وقوع شيء غامض مكروه في المستقبل, من مرض, أو فقر, أو فقدان وظيفة, أو حدوث مصائب أو كوارث, ونحو ذلك, يقول الدكتور فالح بن محمد الصغير: التفكير المستمر في كيفية حمل أثقال المستقبل, ومسئولياته,...داء نفسي يدخل إلى النفس من خلال وساس الشيطان للإنسان المسلم بعظم الأمور التي تحدث حوله وإن كانت صغيرة.
ويعالج ذلك بقوة الإيمان, يقول الطبيب النفسي محمد عبدالفتاح المهدي: إن المؤمن بالله إيماناً صادقاً لا يخاف من شيء في هذه الحياة الدنيا, فهو يعلم أنه لا يمكن أن يصيبه شر أو أذى إلا بمشيئة الله تعالى...والمؤمن الصادق الإيمان لا يخاف من مصائب الدهر, وغوائل الأيام, إنه لا يخاف أن تصيبه الأمراض, أو تقع له الحوادث, أو تحل به الكوارث, فهو يؤمن بالقضاء والقدر, ويعلم حق العلم أن ما يحل بالناس من سراء, أو ضراء, إنما هو ابتلاء من الله تعالى ليعلم من سيحمده على ما يناله من سراء, ومن سيصبر على ما يناله من ضراء, ولذلك فهو لا يجزع إذا أصابه شر, بل يتحمل ويصبر, ويحمد الله تعالى, ويدعوه أن يرفع عنه الشر والبلاء.
اللهم فرج كروب المحزونين من المسلمين, ونفس همومهم, وأذهب أحزانهم, واجعل ما أصابهم كفارةً لذنوبهم, ورفعةً لدرجاتهم, واجعلنا ممن لا خوف عليهم, ولا هم يحزنون, في الدنيا والآخرة.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ