شهر الانتصارات، واستقبال العشر الفاضلات
رمضان شهر الجهاد والمجاهدة، والصبر والمصابرة، والفتوحات والانتصارات، رمضان مولدا للإسلام ومبتدأ نصر للمسلمين، ومشرق فتح مبين، ومفتاح مجد كريم.
أما بعد:
رمضان شهر الجهاد والمجاهدة، والصبر والمصابرة، والفتوحات والانتصارات.
رَمَضَانُ مَولِدًا لِلإِسلامِ ومُبتَدَأَ نَصرٍ لِلمُسلِمِينَ، وَمَشرِقَ فَتحٍ مُبِينٍ، وَمِفتَاحَ مَجدٍ كَرِيمٍ.
• في رمضان كانت غزوة بدر الكبرى التي فرق الله بها بين الحق والباطل؛ وهو أول مشهد شهده رسول الله، {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123].
• في رمضان كان الفتح الأعظم مكة الذي بشر الله به محمدًا فقال -ممتنًا عليه -: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: 1] ففتح الله لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم القلوب بنزول القرآن في رمضان، وفتح له مكة التوحيد بالجهاد في رمضان.
• في رمضان هُدِمَ هُبَلُ وَمَعَهُ أَكثَرُ مِن ثَلاثِ مِئَةٍ وَسِتِّينَ صَنَمًا حَولَ الكَعبَةِ المُشَرَّفَةِ.
• في رمضان بَعثَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ لِيَهدِمَ العُزَّى فَهَدَمَهَا.
• وَفِيهِ بَعثَ عَمرَو بنَ العَاصِ لِيَهدِم سُوَاعًا فَهَدَمَهُ.
• وَفِيهِ بَعَثَ سَعدَ بنَ زَيدٍ لِيَهدِمَ مَنَافًا فَهَدَمَهُ.
• في رمضان عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك واستغرقت هذه الغزوة خمسين يومًا.
• في رمضان.. فٌتحت قلاع المجوس بقيادة الصحابي البطل المثنى بن حارثة رضي الله عنه. قال ابن إسحاق: وحمل عليهم المسلمون واحتز جرير بن عبدالله البجلي رأس قائد الفرس وقطعه، وهربت المجوس وركب المسلمون أكتافهم، وسبق المثنى بن حارثه إلى الجسر فوقف عليه ليمنع الفرس من الجواز عليه، فقتل منهم يومئذ وغرق قريب من مائة ألف، وغنم المسلمون مالًا جزيلًا وطعامًا كثيرًا، وبعثوا بالبشارة والأخماس إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلت في هذه الموقعة رقاب الفرس، وتمكن الصحابة من الغارات في بلادهم فيما بين الفرات ودجلة.
قال ابن كثير: (وكانت هذه الوقعة بالعراق نظير اليرموك بالشام).
• في رمضان سير الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه حملة بقيادة عبدالله بن أبي السرح لفتح جنوب إفريقيا ونشر الإسلام في البلاد النصرانية.
• في رمضان أول أسطول بحري يغزو البحر، نام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا في بيت عبادة بن الصامت فاستيقظ وهو يضحك فقالت أم حرام بنت ملحان زوجة عبادة ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «عُرض عليّ ناس من أمتي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكًا على الأسرة». قالت: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: «أنت منهم»؛ أخرجه البخاري.
وتحققت هذه البشارة حين ولي عثمان الخلافة حين كتب إليه معاوية يستأذنه في غزو البحر، فخرج معه جماعة من الصحابة فيهم أبو ذر وأبو الدرداء وشدِّاد بن أوس وعبادة بن الصامت وزوجه أم حرام بنت ملحان، وكان أول أسطول بحري في الإسلام، ففتحت قبرص. وعقب الغَزاة سقطت أم حرام الأنصارية من بغلتها فاندقت عنقها فماتت شهيدةً ببشارة النبي لها.
• في رمضان انطلق قائد المسلمين طارق بن زياد بجيش لا يتجاوز اثنا عشر ألف فوجد ملك أسبانيا قد جمع له مائة ألف واتصلت الحرب بينهم فهزم الله المشركين، فقتل منهم خلق كثير، ونصر الله المسلمين نصرًا لا كفاء له.
• في طلائع شهر رمضان سنة أربع ومائة للهجرة، زحف عبدالرحمن الغافقي بجيشه وهناك التقى مع جيوش أوربّا الجرارة، ووقعت بين الفريقين إحدى المعارك الفاصلة لا في تاريخ المسلمين فحسب بل في تاريخ البشرية كلها؛ المسماة بـ "بلاط الشهداء" لكثرة من استشهد فيها من المسلمين وذلك لما انشغل المسلمون بالغنائم التف عليهم العدو فخر القائد صريعًا وتبعه الشهداء، وتكررت فيه مأساة يوم (أحد) سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا... لكن أعقبها الله بمعركة الزلاقة بقيادة يوسف بن تشفين فقُتل فيها من النصارى ما طبق وجه الأرض دمًا وانتهت بنصر عظيم وسحق للنصرانية في شمال الأندلس.
• في رمضان صرخت امرأة في الأسر "وامعتصماه" فهب الخليفة المعتصم في صبيحة الجمعة من رمضان وصاح في قصره "النفير النفير" واستدعى الشهود فأشهدهم أن ثلث ما يملكه صدقة للمسلمين، فسار في جحافل أمثال الجبال يقودها بنفسه.
أتوك يجرون الحديد كأنما = أتو بجياد ما لهن قوائم
فحاصر عمورية حتى انهدت حصونها ودخلوا المدينة قهرًا وتفرقت الروم وأخذ المسلمون أموالًا لا تحد ولا توصف، ولما رأى شاعر الإسلام أبو تمام حصون الروم تتهاوى بأيدي المسلمين صاح بأعلى صوته:
السيـف أصـدقُ أنبـاء من الكتب *** في حدِّه الحد بين الجـد واللـعـب
بيض الصفائح لاسود الصحائف *** في متونههنَّ جلاء الشك والريـب
رمى بـك الله جنبيهـا فحطمهــا *** ولـو رمـى بك غيـر الله لـم يصـبِ
• في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان التقى قائد المسلمين المظفر قطز بجحافل التتار في عين جالوت، ولما رأى قطز عصائب التتار قال لمن معه: لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس وتفيء الظلال وتهب الرياح، ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم.. والتقى الصفان وتبارز الشجعان واقتتل الفريقان قتالًا عظيمًا، فعقر جواد السلطان قطز، فترجل وبقي واقفًا على الأرض ثابتًا، وظهرت بوادر النصر وأعز الله المسلمين، وأخزى التتر الملحدين، وكسر شوكتهم، ولم تقم لهم بعدها قائمة.
ملَكنا فعَدلْنَا، وبنينا فأعلينا، وفتحنا فأوغلنا، وكنا الأقوياء المنصفين.
• في هذا الشهر المبارك سحق قائد المسلمين صلاح الدين النصارى في معركة حطين المدوية، واسترد بعدها بيت المقدس وضرب الجزية عليهم.
أما رمضان سنة سبعمائة واثنين من الهجرة فقد كان له نبأ في قطع جماجم التتار الملاحدة في موقعة "شقحب"، التي شارك فيها شيخ الإسلام ابن تيمية، وكانت الغلبة فيها للمسلمين.. قال ابن كثير -رحمه الله-: (وحرّض ابن تيمية السلطان على القتال وبشّره بالنصر، وجعل يحلف له بالله إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا. وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم، وأفطر هو أيضًا، وكان يدور على الجنود والأمراء، فيأكل من شيء معه في يده، يتأول فيه حديث أبي سعيد «إنكم ملاقوا عدوكم والفطر أقوى لكم».
لنا نحن المسلمين كل أرض يتلى فيها القرآن، وتصدح مناراتها بالأذان. لنا المستقبل.. والمستقبل لنا؛ {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
الإسلام منيعٌ لا يقبل الذلة والخنوع، والمسلم عزيز بدينه، قوي بربه، وإلا فإن بقينا على ذنوبنا وخطايانا وإسرافنا مع ربنا؛ وأتينا بعقائد هشة، وولاءٍ منقوص، وحجاب لنسائنا هش رقيق، وأصبحت مصادر التلقي والفتيا من مجهولي العلم والخٌلق.. فأنى لنا {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
واستغفروا ربكم ثم توبو إليه إن ربي رحيم ودود..
إذا كان الأوائل في رمضان فتحوا القلوب بالقرآن، والبلدان بنشر الإسلام.. فما ذا عن من لا يقوى أن يوقظ نفسه لفريضة الصلاة، أو يختم القرآن كل ثلاث، أو يخرس لسانه عن دعوة ونصيحة للمسلمين.. هذه شرائط العزة والنصر والتمكين، قال جرير بن عبدالله: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم)؛ متفق عليه.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، فمن اتقى ربه فاز وسعد، ونال يوم الجزاء جميل ما وُعد، فأخلصوا لربكم في العبادة والطاعة، والزموا الجمعة والجماعة، وبادروا بالأعمار صالح الأعمال، فقد أظلتنا خير ليال العام، العشر الليالي، البيض العوالي، فيها ليلة خير من ألف شهر، من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، فالرابح من استقبلها بنية خالصة، وعزيمة صادقة، وأقبل فيها على ربه، فقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر شد مأزره، وأحيا ليله وأيقظ أهله.. فشمروا وارجوا ربكم فإن ربكم رحيم ودود، لطيف مجيد.. وأكثروا من الدعاء لأنفسكم وأهليكم وأمتكم..
ثم صلوا وسلموا على عبدالله ورسوله محمد.
عبد العزيز بن حمود التويجري
دكتوراه في الفقه المقارن من المعهد العالي للقضاء ١٤١٢هـ. عضو هيئة التدريس بقسم العلوم الإسلامية بكلية الملك عبدالعزيز الحربية.
- التصنيف:
- المصدر: