من عادات الصالحين وعباداتهم في رمضان
لم يزل رمضان ذلكم الضيف الكريم الذي يُنتظر على مدى العام تستشرف النفوس للقائه، وتعم الأكوان مظاهر البهجة والفرح بقدومه، وتتنوع مظاهر هذا الاحتفاء وهاتيكم البهجة إلى ما شاء الله لها أن تبلغ من التعداد والتنوع
لم يزل رمضان ذلكم الضيف الكريم الذي يُنتظر على مدى العام تستشرف النفوس للقائه، وتعم الأكوان مظاهر البهجة والفرح بقدومه، وتتنوع مظاهر هذا الاحتفاء وهاتيكم البهجة إلى ما شاء الله لها أن تبلغ من التعداد والتنوع؛ مما يعبر عن الانفعال النفسي الجياش في الذائقة الإسلامية بقدوم هذا الشهر الميمون، ولا غرو فهو من مواسم الخير التي يفتح الله فيها أبواب رحماته لتتنزل خيراته تترى على عباده، وليغمرهم بفضائل جوده وسبائك إنعامه، ومن خلال هذه السياحة السريعة سنقف عند محطات بارزة من خط سير الصالحين، ودأبهم في هذا الشهر الكريم، مما اتخذوه عادة من خصال الخير وأفعال البر يداومون على فعله كلما أعاد الله عليهم أيام هذا الشهر وأوقاته، نستقري تلك المواقف من مصادر تاريخنا المعتمدة لنتأسى ببعض ما كانوا عليه من استثمار لحظات هذا الشهر الكريم وأوقاته في التصدي لنفحات الله والتعرض لمواسم جوده .
من صور تلك المواقف التي حفظ لنا التاريخ اللقطات التالية:
• كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد جعل لكل نفس من المسلمين في كل ليلة من رمضان درهما من بيت المال يفطر عليه، ولأمهات المؤمنين درهمين درهمين، فلما ولي عثمان رضي الله عنه أقر ذلك وزاده، واتخذ سماطا في المسجد أيضا للمتعبدين، والمعتكفين، وأبناء السبيل، والفقراء، والمساكين.
• كان الأسود النخعي صواما قواما حجاجا وكان يختم القرآن في كل ست ليال فإذا كان رمضان ختَمَهُ ختمةً في كل ليلتين.
• كان ثابت البنانى يختم القرآن فى كل يوم وليلة من شهر رمضان.
• تواتر عن الإمام الشافعي أنه كان يخْتم القرآن فِي كل يَوْم ختمة فَإِذا كَانَ رَمَضَان قَرَأَ بِالنَّهَارِ ختمة وبالليل أُخْرَى.
• روي عن أبي بكر بن الحداد المعروف بالفضل والدين والاجتهاد في العبادة أنه قال: أخذت نفسي بما رواه الربيع، عن الشافعي، أنه كان يختم في رمضان ستين ختمة، سوى ما يقرأ في الصلاة، فأكثر ما قدرت عليه تسعا وخمسين ختمة.
• كان حماد بن أبي سليمان يُفطِّر في كل ليلة من شهر رمضان خمسين إنسانا، فإذا كانت ليلة الفطر كساهم ثوبا ثوبا.
• كان السلطان ألْب أرسلان فِي أواخر أيام دولته من أعدل الناس، وأحسنهم سيرة، وأرغبهم فِي الجهاد وَفِي نصرة الدين، وكان يتصدَّق فِي كل رمضان بأربعة آلاف دينار ببلْخ، ومرْو، وهَراة، ونَيْسابور، ويتصدق بحضرته بعشرة آلاف دينار .
• الشَّيْخ المفتي الفقيه، الإِمَام كمال الدّين المَغَربيّ، الشّافعيّ، أحد كبار فُقهاء الشام كان فِي كلّ رمضان ينسخ ختْمة كاملة من القرآن ثم يُوقِفُها احتسابا وطلبا للأجر.
• كان الصاحب بن عباد جوادا كريما لا يدخل عليه في شهر رمضان بعد العصر أحد كائنا من كان فيخرج من داره إلا بعد الإفطار عنده، وكانت داره لا تخلو في كل ليلة من ليالي شهر رمضان من ألف نفس مفطرة فيها وكانت هداياه وصدقاته وقرباته في هذا الشهر تبلغ مبلغ ما يطلق منها في جميع شهور السنة.
• كان العلامة المفسر قاضي حلب والقسطنطينية عصام الدين أبو الخير المعروف بطاشكبرى زاده ذا خط مليح وضبط صحيح، وكان مدرسا بمدارس الدولة العثمانية، فكان من عادته أن يدعو طلبته للإفطار عنده في كل ليلة من ليالي شهر رمضان، وكان يقول: إني منذ توليت التدريس جعلت لنفسي عادة وهي أن أكتب في كل سنة نسخة من تفسير البيضاوي (أنوار التنزيل وأسرار التأويل) وأبيعها بثلاثة آلاف درهم وأنفق ذلك المبلغ على طعام الطلبة في ليالي رمضان.
• القائد سرور الزبيدي وزير دولة آل نجاح باليمن كانت نفقاته وصدقاته تتسع في رمضان اتساعا يجاوز الحد والوصف؛ بحيث كانت وظيفة مطبخه في كل يوم من رمضان تبلغ ألف دينار؛ بمعنى أنه ينفق في كل رمضان أكثر من 30000 دينار على إطعام الصائمين، علما بأن مجموع رواتب موظفي قصره وعماله وأعيان دولته في كل سنة لم يكن يتخطى 20000 دينار.
هذه بعض الأمثلة لما كان عليه أسلافنا من اهتمام بهذا الشهر الفضيل واغتنام لساعاته ولحظاته، وتتبع هذا النوع من الأمثلة والنماذج يطول، لكن لعل القاريء يلحظ أن جميع ما تقدم – من زيادة بذل الخير في هذا الشهر المعظم أو الاجتهاد في زيادة الحصة اليومية من قراءة القرآن فيه - قدوتهم فيه النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حيث يلقاه جبريل عليه السلام في كل ليلة من رمضان حتى ينسلخ، فيعرض عليه القرآن فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، [رواه البخاري ومسلم].
قال ابن الجوزي: وإنما كثر جوده عليه السلام في رمضان لخمسة أشياء: أحدها: أنه شهر فاضل، وثواب الصدقة يتضاعف فيه، وكذلك العبادات، قال الزهري: تسبيحة في رمضان خير من سبعين في غيره. والثاني: أنه شهر الصوم، فإعطاء الناس إعانة لهم على الفطر والسحور، والثالث: أن إنعام الحق يكثر فيه، فقد جاء في الحديث: أنه يزاد فيه رزق المؤمن، وأنه يعتق فيه كل يوم ألف عتيق من النار، فأحب الرسول أن يوافق ربه عز وجل في الكرم، والرابع: أن كثرة الجود كالشكر لترداد جبريل إليه في كل ليلة. والخامس: أنه لما كان يدارسه القرآن في كل ليلة من رمضان زادت معاينته الآخرة، فأخرج ما في يديه من الدنيا.
وإذا ما ختمنا بنظرة تحليلية عن الأمثلة التي ذكرنا فسنجد أن فيها نقطتين هامتين:
الأولى: أن المسلمين على اختلاف طبقاتهم ووظائفهم وأشغالهم يستثمرون أوقات الشهر المبارك ويستفيدون من لحظاته؛ فالعلماء ينصرفون لقراءة القرآن وتدبر معانيه ولاجتهاد في زيادة الحصة اليومية من قراءته، وأهل المال والإمارة يوظفون إمكاناتهم لخدمة الصائمين وإفطارهم والرعاية بهم.
الثانية: أن أصفياء هذه الأمة وصالحيها كانوا يعدون لهذا الموسم عدته، فلم يكونوا يقبلوا بأن تكون نوافلهم وطاعاتهم في رمضان مساوية لما تكون عليه في سائر الشهور، بل إننا لنلحظ في أعمالهم أن هممهم تطمح لأن تكون عباداتهم في هذا الشهر مساوية أو تزيد على الأحد عشر شهرا الباقية من العام.
وهكذا كان دأب الصالحين من أمتنا وديدن الأخيار من عباد شريعتنا، فلنقتد بهم حين عزت القدوة الصالحة، ولنسلك طريقهم علنا نرد الحوض على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم غير مغيرين ولا مبدلين ... اللهم آمين.
- التصنيف:
- المصدر: