وقفات مع عيد الفطر المبارك 1442هـ
العيد يعني أن تصل من قطعك، العيد أن تعطي من منعك، العيد أن تعفو عمن ظلمك، العيـد أن تخـرج البغضاء من قلبـك، العيــد أن تدخــل الطمأنينة في قلوب المسلمين، العيد أن تترك الخلافات وتعمل على توحيد الكلمة.
- التصنيفات: خطب العيدين -
الله أكبر (تسعا) لا إله إلا لله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الله أكبر كلما هـلَّ هلال وأبدر... الله أكبر كلما صام صائم وأفطـر... الله أكبر كلما لاح صباح عيد وأسفر... الله أكبر كلما لاح برق وأنور... الله أكبر كلما أرعد سحاب وأمطر... الله أكبـر كلما نبت نبات وأزهر... الله أكبر ما توافد المسلمون إلى بيوت الله في صباح هذا اليوم الأنور... الله أكبر ما اجتمعوا على ذكر ربهم المليك الأكبر...الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.
أما بعـد: تقبل الله طاعتكم، وكل عام وأنتم بخير، الله أسأل أن يهلَّ هلال هذا العيد علينا وعلى المسلمين بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحب ويرضى، وأن يجعل هذا العيد بشير خير وبركة على الأمة الإسلامية، وأن يجعله نذيرًا وبالًا وحسرةً على أعداء الاسلام، اللّهُـمَّ إِنِّـا نسْـأَلُـكَ خَـيْرَ هـذا الـيَوْم، فَـتْحَهُ، وَنَصْرَهُ، وَنورَهُ وَبَـرَكَتَهُ، وَهُـداهُ، ونعـوذُ بِـكَ مِـنْ شَـرِّ ما فـيهِ وَشَـرِّ ما بَعْـدَه، ونسألك أن ترفع عنا وعن جميع بلاد العالمين هذا الغلاء، والوباء، وسائر أنواع البلاء، عاجلًا غير آجل آمين يا رب العالمين.
أيها المسلم: ونحن نعيش في صباح عيد الفطر المبارك، لي معكم أربع وقفات:
الوقفة الأولى: هذا العيد يخاطبكم:
إن هذا العيد هو ذكرى لمن أراد أن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا، إن هذا العيد هو ذكرى لمن كان له في الذكرى عقل وموعظة، إن هذا العيد لسان حاله ينادي على العراقيين بصورة خاصة، وعلى المسلمين بصورة عامة فيقول لكم: لن يتحقق لكم عيدكم إلا يوم أن تكون عقولكم واعية، وأذهانكم صافية، وقلوبكم نقية، وصفوفكم متوحدة، وشعوبكم عزيزة، وبلادكم محررة، ومقدساتكم عزيزة، وتعيشوا كالمجتمع الذي عاشه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكيف كان ذلك المجتمع؟! وما هي أخلاقه؟ وكيف كان تعاملهم مع بعضهم؟
اسمع معي إلى أخلاق ذلك المجتمع العظيم على لسان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه[1]:
في خلافة سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان سيدنا عمر بن الخطاب قاضيًا على المدينة المنورة (على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم)، فلبث سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قاضيا لمدة لم يختصم إليه فيها أحد، فطلب من سيدنا أبي بكر رضي الله عنه أن يعفيه من هذه المهمة، فقال له أبو بكر رضي الله عنه أمِنْ مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟ فقال: لا يا خليفة رسول الله، ولكن ليس لي حاجة عند قوم مؤمنين: عرف كل منهم ماله من حق فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب واسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيم يختصمون؟!!
أرأيتم أخلاق ذلك المجتمع العظيم! فيوم أن نصل بأخلاقنا إلى هذه القمم فهذا هو عيدنا الأعظم، ويوم أن يشعَّ بيننا هذا النور فهذا هو يوم الفرح والسرور، ويوم أن نترجم ما قاله نبينا صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ - أَوْ قَالَ: لِجَارِهِ - مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» [2]، فهذا هو العيد يا أبناء الإسلام.
الوقفة الثانية: ماذا حققنا من غايات العيد؟
إن من أعظم غايات العيد هو أن نحفظ امانة الإسلام، أمانة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فيا ترى ماذا حققنا من غايات العيد؟ أنا أطلب من كل مسلم أن يسأل نفسه: هل أدينا للنبي صلى الله عليه وسلم أمانته؟ هل كنّا أوفياء عليها؟
ألا إني أعتقد وأجزم أن كل عربي أصيل شريف كريم مسلم إذا أتمن على شيء بسيط لا يستسيغ لنفسه أن يخونه، ولو أتمن على نعجة لما خانها، ولو أتمن على دينار لما خانه.
فكيف بنا والأمانة التي في أعناقنا هي أمانة الاسلام، أمانة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ما أديناها حق أدائها! ما أعطيناها ما تستحق! جعلناها على الهامش!، أصبح الإسلام على السنتنا كلامًا يُقال، وما هو بقلوبنا عقيدةً تُقْتَدى وتُتَّبع، أصبح الاسلام في صفوفنا صلاةً نُؤديها ولا نفهم معناها، وصيامًا نصومه ولا نستفيد منه، وحجًا نتعب به إلى بيت الله الحرام، ولكننا لا نفرق بين الحلال والحرام...فلماذا يا مسلمون؟!
هل منكم من يعتقد أن الاسلام هو بضاعتُه الغالية الجميلة؟ أنا أريد من كل واحد منكم أن يعرض دينه كما يعرض بضاعته، أنا عندما أمشي في السوق أرى صاحبَ الحلويات يُزَيّنُها، وصاحبَ القماش يرتبه، وصاحب الخضراوات يرتبها، وكلَ صاحبِ بضاعته يرتبها ويزينها ويجملها من أجل أن تجتذب الناس، ومن أجل أن تظهر جميلة أمام الناس.
فأنتم يا مسلمون: بضاعتكم هي الاسلام، أخلاقه وتعاليمه، فكيف عرضتموها، وقدمتموها للناس؟ كيف قلتم للناس أن هذه البضاعة المحمدية هي التي أخرجت الناس من الظلمات الى النور! وهي التي جعلتهم اعزاء! وبها عاشوا كالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى!
فلماذا لم تُخْرِج أصحابها الآن؟ لماذا أصحابها يرجعون الى الوراء؟ لماذا مقدساتهم ضائعة؟ لماذا دينهم مثلوم؟ لماذا عزتهم ضائعة؟ لماذا دائما المصائب والهموم والفتن تصب عليهم صبا؟
والله أنا على يقين أن كل مسلم غيور، وحريص على هذا الدين، إذا جاء العيد يتألم!! لأن أيامًا تمر، وسنواتٍ تمضي، ونحن ماذا قدمنا على مستوى التقديم؟ ماذا انتجنا على مستوى الانتاج؟ وماذا صححنا على مستوى التصحيح؟ فصلاتنا هي صلاتنا، وصيامنا هو صيامنا، ومشاكلنا هي مشاكلنا، فمن منا تقدم إلى الإمام؟ من منا تغير نحو الأحسن والأفضل كي يفرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؟
الوقفة الثالثة: المفهوم الحقيقي للعيد:
يامن تجلسون في يوم العيد، العيد يعني أن تصل من قطعك، العيد أن تعطي من منعك، العيد أن تعفو عمن ظلمك، العيـد أن تخـرج البغضاء من قلبـك، العيــد أن تدخــل الطمأنينة في قلوب المسلمين، العيد أن تترك الخلافات وتعمل على توحيد الكلمة.
يقول الدكتور مصطفى السِّبَاعي في كتابه (هكذا علمتني الحياة): (والله لو كبرت قلوب المسلمين كما كبرت ألسنتهم لغيروا وجه التاريخ.. ولو اجتمعوا دائما كما يجتمعون لصلاة العيد لهزموا جحافل الأعداء.. ولو تصافحت قلوبهم كما تتصافح أيديهم لقضوا على عوامل الفرقة.. ولو تبسمت أرواحهم كما تبسمت شفاههم لكانوا مع أهل السماء.. ولو لبسوا اكمل الأخلاق كما يلبسون افخر الثياب لكانوا اجمل أمة على الأرض ) [3].
هذا هو العيد الذي يريده منا الاسلام، فالمفهوم الحقيقي للعيد، ليس لمن لبس الجديد، انما العيد لمن ترجم أخلاق الاسلام في واقع حياته، إنما العيد لمن طاعته تزيد.
هذا سيدنا عمر بن عبدِ العزيزِ رضي الله عنه، كان له ولدٌ صغيرٌ، فرآهُ في يومِ العيدِ، وعليهِ ثوبٌ خَلِقٌ قديمٌ مُتَمَزقٌ؛ فَدَمَعَتْ عَينَاهُ، لأنه لا يستطيعُ أن يكسوَ ابنَهُ ثوبًا جديدًا للعيدِ، فلمَّا دمعتْ عيناهُ رآهُ ولدُهُ، فقالَ: ما يُبكِيكَ يَا أميرَ المؤمنينَ؟ يَسألُ الوَلَدُ أباهُ! قالَ: يا بُني، أَخشَى أن يَنكَسِرَ قلبُكَ إذا رآكَ الصبيانُ، بهذا الثوبِ الخلقِ؟ قالَ: يا أميرَ المؤمنينَ: إنَّما يَنكَسِرُ قلبُ مَن أَعدَمَهُ اللهُ رضَاهُ، أو عَقَّ أمَّهُ وأباهُ، وإني لأرجو أن يكونَ اللهُ راضيًا عني برضاكَ.
لنسأل أنفسنا جميعا كيف سيكون لقاؤنا مع الله تعالى؟ هل هو لقاء سعادة وفرحة أما سيكون لقاء خيبة وندامة؟ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
أنا واثق لو أن أحدنا كان ذا جيب مفلس وليس لديه نقود في يوم العيد، أنا على يقين أنه سيخجل أمام ابنه؛ لأنه لا يملك عيدته.
فيا من تخجل من ابنك الصغير: ألا تخجل من ربك الكبير؟! وأنت لست مفلسًا من العيدية ولكنّك مفلسًا من الكرامة المحمدية، ومفلسًا من شفاعة نبيك صلى الله عليه وسلم، ومفلسًا من الحسنات والأعمال الصالحات، مفلسًا؛ لأنك شتمت هذا، وظلمت هذا، وأكلت حق هذا، وسفكت دم هذا، وقذفت هذا، وطعنت بعرض هذا!
ألا يخجل هذا من ربه؟! يخجل من ولده الصغير ولا يخجل من ربه العالي الكبير؟! ستقف أمام ربك يوم العرض عليه فماذا ستقول له؟!
فالمفهوم الحقيقي للعيد: ليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن طاعته تزيد.. ليس العيد لمن تجمّل باللباس والمركوب، إنما العيد لمن غفرت له الذنوب.
أسال الله تعالى أن يجعل هذا العيد عيد خير وبركة وعلينا وعلى جميع أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.
الخطبة الثانية
الله أكبر (سبعا) لا إله إلا لله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
الوقفة الرابعة: ما هو واجبي كمسلم تجاه ما يجري في الأقصى؟
أيها المسلم: إن انتهاك الصهاينة للمقدسات الإسلامية لن ينقطع، واستفزازهم للمسلمين لن ينتهى إلى قيام الساعة، وهذه هي طبيعة الصراع بين الحق والباطل، وهذا الباطل لا يعلو صوته ولا يؤثِّر، إلا بضعف المسلمين وتشتتهم، وتفرقهم، وذنوبهم.
وإن ما يجري اليوم في الأقصى من اعتداء اليهود على المسلمين محاولة منهم لاقتحام المسجد الأقصى، حيث اطلقوا الرصاص المعدني والمئات من قنابل الغاز والصوت تجاه المرابطين داخل المسجد المبارك، وأوقعت إصابات في صفوف المرابطين داخل المسجد الأقصى، بينما المرابطون تصدوا لقوات الاحتلال بالحجارة والمفرقعات.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هو واجبي كمسلم تجاه ما يجري في الأقصى؟ كيف انصر الأقصى؟
والجواب: نصرنا لهم هو برجوعنا الى الله تعالى رجوعًا حقيقيًا، والاستقامة على طاعة الله تعالى، وابتعادنا عن الذنوب، فالذنوب هي سبب البلاء، ولن يرفع البلاء إلا بتوبة.
فالذي يترك الطاعات بعد رمضان هو الذي يؤخر النصر على المسلمين... الذي يتعامل بالربا والغش والحلف الكاذب هو الذي يؤخر النصر على المسلمين... الذي يأكل حق الناس ويظلمهم ويفتري عليهم هو الذي يؤخر النصر على المسلمين... الذي يقاطع إخوانه وأقرباءه وجيرانه ولا يتكلم معهم ولا يسلم عليهم هو الذي يؤخر النصر على المسلمين...
في ذات يوم كان سيدنا صلاح الدين الأيوبي (رحمه الله) يتفقَّد أحوال الجند ليلًا قبل خوض المعركة، فوجد خيمة بِها عددٌ من الجند يقرَؤون كتاب الله، ويَقُومون الليل، ويسبحون الله تعالى، فقال مقولته التي سجَّلها له التاريخ: (من هنا يأتي النصر) جيش هذا حاله لن يهزم بإذن الله، ومرَّ على أُخْرى، فوجدها نائمة، فقال: "من هنا تأتي الهزيمة".
فنصرنا للأقصى هو باستقامتنا على الطاعة، وثباتنا على هذا الدين، وابتعادنا عن الذنوب والمعاصي، هو اعظم شيء ننصر به المسلمين في الأقصى، وكذلك بدعائنا لهم، فالدعاء هو سلاح يغفل عنه الكثير ويستقلّه البعض، فيجب تحري أوقات الإجابة والدعاء للمسجد الأقصى المبارك بالنصرة، فالدعاء سلاح لا يخيب حامله.
فأسأل الله العظيم ونحن في هذا اليوم المبارك أن ينصر المسجد الأقصى، اللهم انصر مسجد رسولك الحبيب، اللهم ثبت اخواننا المرابطين في القدس والمسجد الأقصى، اللهم أرنا في اليهود يومًا أسودًا فإنهم لا يعجزونك، اللهم يا رب زلزل الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، وانصر مسرى حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم، وأعده إلى رحاب المسلمين، وطهره من اليهود الغاصبين، آمين يا رب العالمين.
[1] ينظر: آل البيت الأطهار والصحابة الأخيار في الميزان، محمود المعاضيدي: (ص:201).
[2] صحيح مسلم، كتاب الايمان- بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ: (1/ 67)، برقم (45).
[3] مصطفى السباعي هكذا علمتني الحياة: (ص: 119).
__________________________________________________
الكاتب: د. محمد جمعة الحلبوسي