الدرة من حديث لقيط بن صبرة (3)
والمبالغة في المضمضة: أن يدير الماء في فمه، فيحرك الماء تحريكا كثيرا في فمه حتى يزيل ما يعلق بأسنانه.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
«وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ»
التخليل: إدخال الشيء في خلال الشيء، ويتناول تخليل أصابع اليدين والرجلين. وفيه: مشروعية التخليل بين الأصابع؛ لأنه قد ينبو عنه الماء.
والأمر بالتخليل هنا هل يقتضي الوجوب أم يقتضي الاستحباب؟
الجواب عن هذا: أنه يقتضي الاستحباب.
وما الذي صرف هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب؟
الذي صرفه: أن الماء سيَّال بطبعه فيصل إلى هذه المواطن الخفية، فكان التخليل من باب الاستيثاق والاطمئنان.
لو قال قائل: هو أمر بتخليل الأصابع، أي أصابع؟ هي أصابع اليدين وأصابع الرجلين، لما جاء في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في مسند الإمام أحمد، وحسنه البخاري رحمه الله، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك).
لو قال قائل: بأي يدٍّ يكون هذا التخليل باليسرى أم باليمنى؟
قيل باليسرى قياساً على الاستنجاء، لأن هذا إزالة أذى، وهذا من باب القياس، وإلا فلا دليل ينص على تحديد اليسار .
فإذا قال قائل: خللت الأصابع بيدي اليسرى فبأي أصبع يكون التخليل؟
يكون بالخنصر، والخنصر هو: الأصبع الصغير في أول اليد. لما ورد في حديث المستورد في سنن أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل أصابع قدمه بخنصره.
«وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا»
والمبالغة فيه: أن يجذب الماء بنَفَسِه إلى أقصى أنفه، وذلك لزيل ما يعلق في أنفه من الأذى، وقيل: أن يتمخط في كل مرة، وقيل: يدخل إصبعه في أنفه، وإنما استثنى حالة الصوم؛ لأنه يخاف عليه دخول الماء من خيشومه إلى حلقه، فيفسد صومه.
وفيه دليل على مشروعية الاستنشاق، وأن الصائم لا يبالغ في الاستنشاق.
فهل هذا الأمر بالاستنشاق للوجوب أم للاستحباب؟
ظاهر قوله (وبالغ) أنه للوجوب. ولكن هذا الظاهر معدول عنه، فتكون المبالغة في الاستنشاق مستحبة.
ما الذي صرفها عن هذا الوجوب؟
الذي صرفها: أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى الصائم، ولو كانت المبالغة واجبة لأمر الصائم بها، وقيل له تحرز من أن يدخل جوفك شيء من الماء، فلما نهي الصائم عنها، دل على أن المبالغة في الاستنشاق ليست واجبة.
والمبالغة في الاستنشاق من باب المبالغة في التطهر، فيكون المسلم حال لقائه بربه عز وجل في هذه الصلاة، يكون على أحسن حال .
وهذا يدل على عظم هذه الشريعة وأنها أمرت المسلم بأن يكون على أحسن حال في ظاهره وفي باطنه، كما أنه مأمور من قِبل الشرع أن يكون نظيف الباطن، كذلك هو مأمور بأن يكون نظيف الظاهر، والنصوص في الحث على الاعتناء بالمظهر كثيرة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- يكره أن توجد منه الريح الخبيثة. وكان يعرف بطيب العود إذا أقبل.
لو قال قائل: المبالغة في المضمضة مستحبة أم لا؟
الجواب عن هذا: أن كثيرا من العلماء يرون أنها مستحبة، قياسا على الاستنشاق، وهذا القياس في محله، وفي حديث ذكره ابن حجر رحمه الله في تلخيص الحبير وقال: "صححه ابن القطان" قال: (وبالغ في الاستنشاق والمضمضة) فجاء ذكر المضمضة.
والمبالغة في المضمضة: أن يدير الماء في فمه، فيحرك الماء تحريكا كثيرا في فمه حتى يزيل ما يعلق بأسنانه.
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا توضأت فمضمض) فيه دليل لمن قال بوجوب المضمضة في الوضوء، لأن المسألة فيها خلاف، لكن الأمر هنا: (إذا توضأت فمضمض) يدل على أن المضمضة واجبة في الوضوء، بخلاف ما ذهب إليه بعض العلماء من أنها مستحبة، لم؟
لأن الأعرابي لما أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وسأله عن الوضوء؟ قال: (توضأ كما أمرك الله). والذي أمر الله عز وجل به في سورة المائدة ما ذكر فيه المضمضة والاستنشاق .
فيقال: إن المضمضة والاستنشاق داخلتان ضمن الوجه، لأن الفم والأنف من الوجه.
ومما يدل على أنهما من الوجه الظاهر: أنه لو استنشق أو تمضمض ما فسد صومه، فلا يمكن أن نخرج الفم والأنف، فماذا نقول في الأنف والفم أهما من الداخل أم من الظاهر؟
إن قلنا من الداخل يرد هذا أن الصائم لا يفسد صومه بالمضمضة ولا بالاستنشاق.
إذاً لزمنا أن نقول: هي من الظاهر فيجب في مثل هذا الأمر المضمضة والاستنشاق، ودليل الوجوب هذا الحديث في المضمضة.
ودليل الوجوب في الاستنشاق: قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً). ويؤكد هذا: أنه عليه الصلاة والسلام ما ترك المضمضة والاستنشاق مطلقا.
ومن الفوائد: أنه عليه الصلاة والسلام أمر بالمضمضة، فدل على أن هذا الواجب يصدق بأقل ما يكون من وصف المضمضة.
والواجب في المضمضة: أن يدير الماء في فمه أدنى إدارة، لو حرك الماء في فمه حركة يسيرة اكتفي بذلك، هذا إذا كان الماء قليلا.
إما إذا كان الماء كثيرا: فإن الإدارة لا معنى لها، لأن الفم إذا امتلأ بالماء كأنه أدار الماء في فمه.
"وفي الحديث دليل على أن الأنف منفذ بخلاف العين والأذن، فإذا قطر الصائم في العين أو الأذن فلا يفطر على الصحيح كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، ولو وجد طعماً في حلقه؛ لأن العين والأذن ليستا منفذين، لكن إذا قضى من باب الاحتياط وخروجاً من الخلاف فحسن، وأما الأنف فإنه منفذ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)، فدل على أن الأنف منفذ مثل الفم، فإذا استعط -أي: جعل السعوط في أنفه- ووصل إلى حلقه فإنه يفطر؛ لأن الأنف منفذ".
من المصادر
- شرح كتاب (بلوغ المرام)، (باب الوضوء) فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
- شرح سنن أبي داود للراجحي
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: