الحياء
من عمل في السر عملاً يستحيى منه في العلانية فليس لنفسه عنده قدر. والحياء من النفس من آثار مراقبة الله جل وعلا.
- التصنيفات: تربية النفس - تزكية النفس -
إن ما يقع من أخطاء وذنوب عند الكثير من الناس، صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، له أسباب عدة، من أبرز هذه الأسباب: قلة الحياء، فمن قلَّ حياؤه قلَّ ورعُهُ، وصدر منه من الأعمال والأقوال أمام الآخرين ما لا يليق دون أن يحسب لذلك حساباً.
عن أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ماشئت» (رواه البخاري).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (الحياء والإيمان في قرن فإذا نزع الحياء تبعه الآخر)، وفي (الصحيحين) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجلٍ وهو يعِظُ أخاه في الحياء: «دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير»، وفي رواية لمسلم: «الحياء خير كله»، وفيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحياءُ شعبةٌ من الإيمان».
عباد الله:
اعلموا أن للخير والشر معان كامنة تعرف بسمات دالة عليها، فسمة الخير الدعة والحياء، وسمة الشر الوقاحة والبذاء، وكفى بالحياء خيراً أن يكون على الخير دليلاً، وكفى بالوقاحة والبذاء قبحاً أن يكونا إلى الشر سبيلاً.
قال بعض الحكماء: من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه. وقال آخر: حياة الوجه بحيائه، كما أن حياة الغرس بمائه.
إذا قل ماء الوجه قل حيــاؤه *** ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياؤك فاحفظه عليك وإنـمـا *** يدل على فعل الكريم حيــاؤه
عباد الله:
ليس لمن سلب الحياء صاد عن قبيح، ولا زاجر عن محضور، فهو يقدم على ما شاء، ويأتي ما يهوى من الأعمال القبيحة، ويطلق لسانه بما شاء من الكلام المستنكر. قال الشاعر:
إذا لـم تخـش عاقبـة الليالـــي *** ولم تستح فاصنع ما تشـــاء
فلا والله مافي العيش خيــــر *** ولا الدنيا إذا ذهب الحيــــاء
يعيش المرء ما استحيا بخيـر *** ويبقى العود ما بقي اللحــاء
عبادالله:
إن الحياء في الإنسان يكون على ثلاثة أوجه: أحدها: حياؤه من الله، والثاني: حياؤه من الناس، والثالث: حياؤه من نفسه.
فأما حياؤه من الله، فيكون بامتثال أوامره والكف عن زواجره، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استحيوا من الله حق الحياء»، قالوا: إنا نستحيِي من الله يا رسول الله والحمد لله، قال: «ليس ذاك، ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيَى من الله حق الحياء» (رواه البيهقي).
عباد الله:
ما حقيقة ذلك في أنفسنا؟ وماحقيقة حيائنا من ربنا؟ هل حفظنا الرأس وما وعى؟ فالرأس فيه العينان، هل حفظناهما من النظر إلى ما حرم الله؟ والرأس فيه الأذنان، هل حفظناهما من الاستماع إلى ما حرم الله سبحانه تعالى علينا؟
والرأس فيه اللسان، هل حفظناه من الكلام فيما حرم الله علينا؟ وهل حفظنا البطن وما حوى؟ وهل نتذكَّر الموت والبلى؟
وأما الحياء من الناس فيكون بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح، فتجد من قل حياؤه يكثر إيذاؤه للناس بالقول والفعل، بالهمز واللمز، بالسخرية والاستهزاء.
فذلك الذي يؤذي الناس بسيارته ما فعل ذلك إلا حين قل حياؤه، وأولئك الذين يؤذون العمال في الطرقات ما فعلوا ذلك إلا وقد قل حياؤهم، وذلك الشاب الذي يتجول في الأسواق يؤذي بنات المسلمين هل عنده حياء؟ وتلك الفتاة التي خرجت متبرجة أين حياؤها من الله ومن الناس؟ وذلك الولد أو البنت الذي يرد القول على والديه أو من هو أكبر منه هل لديه حياء؟
إن الحياء من الناس من كمال المروءة، ومن صفات الكرماء. قال بعض الشعراء:
ورب قبيحة ما حال بينــي *** وبيـن ركوبهـا إلا الـحيـــــاء
إذا رزق الفتى وجهاً وقاحاً *** تقلب في الأمور كيف يشاء
وأما حياؤك من نفسك، فيكون بالعفة وصيانة الخلوات، يكون إذا أغلقت عليك باب غرفتك، يكون إذا كنت وحيداً على الإنترنت، يكون إذا كنت خالياً في مكالمة هاتفية من جوالك.
قال بعض الحكماء: ليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من غيرك. وقال بعض الأدباء: من عمل في السر عملاً يستحيى منه في العلانية فليس لنفسه عنده قدر. والحياء من النفس من آثار مراقبة الله جل وعلا.
قال الشاعر:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبـن الله يـغفـل سـاعــة *** ولا أن ما تخفي عليـه يغيب
وهذا النوع من الحياء هو من فضيلة النفس وحسن السريرة، فمتى كمل حياء الإنسان من وجوهه الثلاثة فقد كملت فيه أسباب الخير، فلا بد أن نحاسب أنفسنا، ونُقوِّم عيوبنا قبل أن يفوت الفوات ويأتي الممات حينئذ نندم ونتحسر ولا تنفع الحسرات.
قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
ما هو مصدر الحياء، وكيف يكتسب؟
الحياء إما أن يكون خُلُقاً وجبلة غير مكتسبة، وهو من أجل الأخلاق التي يمنحها الله سبحانه وتعالى لعبده لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحياء لا يأتي إلا بخير»، فإنه يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق، ويحث على مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو بهذا الاعتبار من خصال الإيمان.
وإذا لم يكن الحياء جبلة فهل يمكن اكتسابه؟ نعم، وكيف ذلك؟
إن الحياء يمكن اكتسابه بمعرفة الله سبحانه وتعالى وعظمته، وأن يستحضر الإنسان أن الله قريب من عباده، مطلع عليهم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، قال تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 29].
ويتولد الحياء من التفكير بنعم الله سبحانه على الإنسان الذي أعطاه كل شيء، كما أن الحياء من الناس يتولد معرفة الإنسان لقدر نفسه، وعدم النظر لها بمنظار التعالي على الغير وحتقار الآخرين.
أخي في الله؛ لا تنس قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحياء لا يأتي إلا بخير» فلا يمكن لمن عنده حياء أن يؤذي الناس بسيارته بتفحيط أو غيره، ولا يمكن لمن عنده حياء أن يتلفظ على غيره بألفاظ قبيحة، ولا يمكن لمن عنده حياء أن يحتقر الآخرين، ولا يمكن لمن عنده حياء أن يضايق بنات المسلمين، ولا يمكن لمن عنده حياء أن يخرج بين الناس بشكل لا يليق سواء في شعره أو ملبسه أو حركاته.
عباد الله:
إن أكمل الناس في الحياء هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام أشد حياءً من العذراء في خدرها.
__________________________________
أ. د. سليمان بن قاسم بن محمد العيد