التحذير من المكاسب الخبيثة

منذ 2021-06-15

أيها المسلم، إنّ الواجبَ عليك احترامُ أموال الغير، ولتعلمْ أنَّ أكلَها بغير حقٍّ مِن أكلِ الحرام، وأكلُ الحرام أمرٌ محرَّم على المسلم؛ لأنَّ الله أمرنا أن نأكلَ من طيّبات ما رزَقنا

أيها المسلم، إنّ الواجبَ عليك احترامُ أموال الغير، ولتعلمْ أنَّ أكلَها بغير حقٍّ مِن أكلِ الحرام، وأكلُ الحرام أمرٌ محرَّم على المسلم؛ لأنَّ الله أمرنا أن نأكلَ من طيّبات ما رزَقنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]. والطيِّبُ هو الحلالُ المباح، حلالٌ أحلَّه الله، مباحٌ تناولُه، فالمال الحرام حرامٌ عليك؛ لأنه محرَّمٌ شرعًا، وإذا كان هذا مالَ الغير، فحرامٌ عليك أيضًا لكونِه مالَ أخيك، فلا يجوز التعدِّي عليه وظلمُه. 

 

أيها المسلم، إنَّ نبيَّنا محمّدًا صلى الله عليه وسلم حذَّرنا من المكاسب الخبيثة، حذّرنا من أكلِ الحرام، وتوعَّد آكلَ الحرام بوعيد شديد، من أعظمِها أنَّ أكلَه للحَرام عائقٌ من إجابةِ الدعاء وسببٌ لردِّ الدعاء، فأكلُ الحرام يمنَع إجابةَ الدعاء، مع ما يترتَّب على أكلِ الحرام من ظلمٍ وعدوان، وإنَّك بأكلِ المال الحرام تُغدِّي نفسَك بهذا المال الخبيث وتُطعِمه أولادَك، فتتحمَّل الأوزارَ والآثام. 
 

 

أيها المسلم، أكلُ مالِ الغير بالباطلِ، بالظلم والعدوان، يكونُ في أمور:

 

فمنها اغتصابُ أموالِ الغير، فاغتصابُك لمال غيرك وأخذُك مالَه قهرًا وعدوانًا تُعتبر بهذا آكلاً للحرام؛ لأنك تعدَّيتَ على مالٍ لا يحقّ لك، فأخذتَه ظلمًا وعدوانًا، فأنتَ بهذا آكلٌ للحرام.

سرقتُك لمال الغير خفيةً تعتَبر بهذا آكلاً للمال الحرام.

 

 

جَحدُك الحقَّ الواجبَ عليك، والمتعيِّن عليك أداؤُه تعتَبر بهذا آكلاً للحرام؛ لأنَّ هذا الحقَّ الذي يجب عليك أن تؤدِّيه لصاحبه؛ لكونه عِوَضًا عن قِيَم المبيعات أو أجره أو نحو ذلك، فإذا جحدتَه كنتَ بذلك آكلاً للحرام. 
 

 

معاملتُك الربويَّة بالفوائدِ تُعتبَر ظلمًا وحرامًا عليك، {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فالفوائدُ الربويّة أكْلُها حرام؛ لأنّ الله حرَّمَ ذلك في كتابه، وحرَّمه رسولُه صلى الله عليه وسلم.

 

 

عدمُ إعطاءِ الأجير حقَّه والمماطلةُ بذلك تعتبَر آكلاً للحرام؛ لأن الأجيرَ يجبُ أن يُعطَى حقَّه كاملاً، فالمراوغةُ والمماطلةُ، والمحاولةُ للاستنقاصِ وجَحد البعض تعتبَر بهذا آكلاً للحرام. 
 

 

خيانتُك لما اؤتُمنتَ عليه من مال، عندما تخون الأمانةَ التي اؤتمنتَ على حفظِها وإيصالها لمستحقيها تعتبر بتلك الخيانةِ - مع عِظم الخيانة وقبحِها -آكلاً للمال الحرام.

 

 

أكلُ مالِ اليتيم وعدمُ إعطائه حقَّه تعتبَر بهذا آكلاً للحرام.

 

 

أيّها المسلم، غِشُّك في البيوع، وكذبُك وتدليسُك يعتبر أكلاً للحرام؛ لأنّ الواجبَ على البائع الصدقُ في بيعه، وأن لا يخدَع ولا يغشَّ ولا يخون؛ بل يكون إخبارُه صحيحًا صِدقًا، فإن دلَّس وغشَّ وخان كان آكلاً للمال الحرام. 
 

 

يبيعُ بيعًا يعلَم أنَّ هذا البيعَ فيه عيوبٌ قد لا يطلع المشتري عليها إلاّ بعد حين؛ يُعتبر بهذا آكلاً للحرام؛ لأن الواجب عليه أن ينصَحَ لإخوانه، وأن يحبَّ لهم ما يحبُّه لنفسه.

 

 

قبولُ الرِّشوة، أو طلبُ الرِّشوة والسعيُ لأجلها، والتوقُّف عن تنفيذ الحُقوقِ والمعاملات للأفراد إلى أن يُعطى رشوةً على قدرِه، تُعتبَر بتلك الرِّشوة آكلاً للمال الحرام؛ لأنك أخذتَ مالاً بغير حقِّه. 
 

 

أيّها المسلم، تدبَّر في وضعك، واعلم أنَّ كلَّ مالٍ أخذتَه بغير طريقٍ مشروع فإنّه حرامٌ عليك، والمؤمنٌ يتَّقي الله في نفسِه، ويراقبُ الله قبلَ كلّ شيء.

 

 

أيّها المسلم، شفاعتُك للغير، وجعْلُ تلك الشفاعةِ متوقِّفةً على مالٍ يُدفَع إليك، لولا هذا المالُ ما شفعتَ لمحتاج، ولا نفعتَ محتاجًا، هذا المالُ حرام عليك؛ إذ المطلوبُ منك السعيُ في الخير، «من شفَع لأخيه شفاعةً، فأهدى له هديَّة فقَبِلَها؛ فقدْ أتى بابًا من أبواب الربا» [1]. 

 

أيّها المسلم، كم أناسٍ عُهد إليهم بحقوقٍ للغير؛ لكنّهم يماطلون، ويظلِمون، ويكذِبون، ويساومون الناسَ على حقوقهم، إن أعطُوا نفَّذوا المهمَّة، وإن لم يُعطَوا حاولوا تمليل ذلك الإنسان وإقلاقَ راحته، وربَّما تَرَك حقَّه لأنه لا يستطيع أن يدفعَ لهم ما يريدون، وكلُّ هذا من أكل الحرام.

 

 

العاملُ والموظَّف يؤدِّي عملَه، يؤدِّي وظيفتَه على الوجهِ المرضِيّ، فإن طَلَب مالاً لأجلِ تنفيذ عمَلٍ، كان ذلك المالُ الذي يأخذه حرامًا عليه.

 

 

فمن اتَّقى الله في مكاسبِه بجميعِ أنواعها، وراقب اللهَ، وخافَ الله؛ فذاك السعيدُ الذي نفع نفسَه وأنقذها من عذاب الله. 
 

 

أيّها المسلم، ليس المهمُّ وصولَ المال إليك، المهمُّ أن تعلمَ أنَّ هذا المالَ الذي وصَل إليك: بأيِّ طريق وصل؟ بأيّ سببٍ نِلتَ المال؟ أبطُرق شرعية، وأسباب مأذونٍ فيها شرعًا؟ فذاك المكسَب الطيب، أم طرق ملتوية، وأسبابٌ محرَّمة، ومحاولات بكلِّ أنواع المحاولاتِ للحصول على هذا المال؟ فإنك بذلك قد ظلمتَ نفسَك، وتحمَّلت الأوزارَ والآثام، وستَندم ولا ينفعُك الندم. 
 

 

أيها المسلم، اسمَع نبيَّكصلى الله عليه وسلم وهو يحذِّرك من هذه المكاسِب الخبيثة، يقول صلى الله عليه وسلم: (( «إنَّ الله طيبٌ لا يقبل إلا طيّبًا، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين»، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51]، وقال:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثم ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم الرجلَ الذي يطيل السفرَ أشعثَ أغبر، يمدُّ يديه إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ، يا ربِّ، مطعَمه حرَام، وملبَسه حَرام، وغُذِّي بالحرام: «فأنَّى يُستجاب لذلك» [2]. 

 

يا أخي، أكلُ الحرام سببٌ لقسوةِ القلب، أكلُ الحرام سَببٌ لضَعف الأعمال، أكلُ الحرام سببٌ للبلايا، أكلُ الحرام سببٌ لمَحقِ البركة، أكل الحرامِ سببٌ لحُلولِ العقوبات والمثُلات، أكلُ الحرام يُقلِق راحتَك، وتشقَى بأمراضٍ متعدِّدة وهموم وغموم، وعندما يحين انتقالُك من الدنيا إلى الآخرة وتشاهد تلكَ الأمور، تتذكَّر تلك الأموالَ التي طالما جمعتها من الحرام، وتعلمُ أنك تفارقُ الدنيا وقد تحمّلتَ الأوزارَ والآثام، وخلّفتَه إلى مَن قد يُحسِن فيه لنفسِه أو يفسِد والعياذ بالله، ففسادُهم إن فسَدوا أو صلاحهم عليهم، وأنت تحمَّلت الآثام والأوزارَ، وتلقَى اللهَ بالتَّبعات يومَ القيامة
 

 

أخي، خلِّص نفسَك، واتَّق الله، ولتكُن القناعةُ خلُقًا لك في الحلال، واعمد إلى المكاسبِ الطيّبة، ففيها الخير والبركةُ في الدنيا والآخرة، أما المكاسبُ الخبيثة فممحوقةٌ بركتُها، ولا توفَّق فيها لعمل صالح؛ لأن الله يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276].

 

 

أيّها المسلم، اعلَم أنَّ اللهَ سائلُك عن هذه الأموال في يومِ وقوفِك بين يديه حافِيًا عاريًا، سيسألك عن كل دِرهَم وصَل إليك، يسألك: مِن أين أتاك؟ وفيمَ أنفقته؟ مِن أين أتاك هذا المال؟ من أيِّ الطرُق أتى؟ وما طرقُ الإنفاق؟ هل أتاك المال من طريقٍ مشروع حلالٍ طيِّب، أو من طريق خبيث سيِّئ؟ ثم في ماذا أنفقته؟ هل أنفقتَه في الواجبات؟ هل أنفقته في الأمور الطيبة، أم أنفقتَه في باطلٍ وتبذير وأمور محرَّمة؟ 
 

 

فاتَّق الله في مالِك، فهو فتنةٌ وبلاء، لا ينجو من فتنته إلاّ مَن ملأ الله قلبَه يقينًا، وقنَّعه الله بالحلال.

 

نسأل الله أن يكفيَنا وإياكم بحلاله عن حرامِه، وبطاعتِه عن معصيتِه، وبفضلِه عمّن سواه.

 

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم. 

 

عبادَ الله، المؤمنُ حقًّا في قلبِه إيمانٌ يحجزه عن الحرام، فطرتُه السليمة ترفُض الحرامَ وتكرهه، إيمانُه الصادقُ يرفض المكاسبَ الخبيثة ولا يرضى بها ولا يطمئنّ إليها، كلَّما عَرَض له مكسبٌ خبيث تذكَّر الله والدارَ الآخرة، فعفَّ عن الحرام، وترفَّعت نفسُه عن الحرام.

 

 

إنَّ المالَ فتنةٌ وبلاء إلاَّ من عصَم الله، فما أكثَرَ المفرّطين، وما أكثرَ المتساهلين، وما أكثَر المتأوِّلين لاستحلال أموال الغير ظُلمًا وعدوانًا، يستغلُّون ضعفَ الإنسان أحيانًا، ويستغلّون قوَّتهم ونفوذَهم، ويستغِلُّون قدرتَهم على التأثير، فحقوقُ الناس يساوم عليها، إن أُعطُوا نفَّذوا، وإن لم يُعطَوا جحَدوا وأنكَروا، فهم لصوصٌ والعياذ بالله، ولا يعلَمون أنّ هذا المالَ الذي حَازُوه هو حرامٌ عليهم، سيكونُ حَطَبًا يتأجَّج عليهم في نارِ جهنَّم. 
 

 

جاء صحابيٌّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم (وابصةُ بن معبَد) فقال له النبيّ: (( «جئتَ تسأل عن البرِّ والإثم» ؟))، قال: "نعم" أعلَمَ الله نبيَّه بذلك قال: «البرّ ما اطمأنَّت إليه النفسُ واطمأنّ إليه القلب، والإثمُ ما حاك في النفسِ وتردَّد في الصدر، وإن أفتَاك الناسُ وأفتَوك»  [3]. 

 

يا أخي، كم من أناسٍ يسهِّلون الحرامَ، ويتعدَّون الحدودَ، ويقول قائلهم: هذا مالٌ نِلتَه، ومالٌ لم تُجبِر عليه أحدًا، ولم تغصِبه من أحدٍ، ولم تسرِقه؛ إنما مالٌ أخذتَه في سبيل تنفيذِ مهمَّةٍ، أو في سبيل إعطاءِ أمانة، أنت في هذا المركَز لا بدّ أن تأخُذَ، ولا تفُتِ الفرَص عليك.. إلى آخر ذلك، فيستحلّون أموالَ المسلمين، ويأخذونها ظلمًا وعدوانًا.

 

 

فيا إخواني، هذه أمورٌ خطِيرة، يجحَدُ الإنسانُ حقوقَ الغير، عُمّالٌ لهم حقوقٌ لا يُعطَون إيّاها، لماذا؟ لأنهم ضعفاءُ وفقَراء ولا يستطيعون، فيذهَبون وأموالهم عند ذلك الجائرِ الظالم، ثم يندَمُ بعد ذلك ولا ينفعه ندَمه. 
 

 

يا إخواني، أماناتٌ ومواريثُ عند آخرين يجحَدون وينكِرون ويماطِلون، ويلفُّون ويدورون، ويأتون بطرق ملتويةٍ، والله يعلم خائنَةَ الأعين وما تخفى الصدور.

 

 

مهما فعلتَ من حِيَل واتَّخذتَ من أساليبَ، اللهُ يعلَم سرَّك وعلانيتك، {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 29]. فلا مهربَ لك، الله محيطٌ علمُه بك، أنقِذ نفسَك، وخلِّص مكسَبك، واتقِ الله فيما بقي من عمُرك، فعسى أن تلقَى ربَّك ومكاسبُك طاهرةٌ نظيفَة، تسعَد بها في آخرتك، ويسعَد بها مَن بعدَك مِن ورثتك. 

 

أيّها المسلمون، كان سلفُكم الصالحُ يتحرَّون المكاسبَ الطيّبة بكلِّ جُهدِهم، ويتوقَّون الحرامَ بكلِّ مُمكن، ولذا نالُوا السعادةَ في الدّنيا والآخرة بتوفيقٍ من الله.

 

 

نبيُّهم صلى الله عليه وسلم كان يتَّقي الحرامَ بكلِّ وسيلة، رأى تمرةً في الطريق فقال: «لولا أني أخشى أن تكونَ مِن الصدقةِ لأكلتها» [4]؛ لأنَّ الصدقةَ محرّمةٌ عليه، ويقول لنا: «دَع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك» [5]. 

 

صِدِّيق هذه الأمّة أبو بكر رضي الله عنه خيرُ الخلقِ بعد الأنبياء، كان له غلامٌ في الجاهلية، وقد باعه نفسَه وأصبحَ قيمتُه خراجًا يعطيه أبا بكر كلَّ يوم، فجاءه يومًا بطعام، وكان الصدِّيق لا يأكل شيئًا حتى يسألَ عنه، فجاءه يومًا وهو صائمٌ بطعامٍ فأكلَه بعد ما أفطَر، فقال: ألا تسألني عن هذا؟! قال: نعم، ما شأنه؟ قال: كنتُ تكهَّنتُ لأناسٍ في الجاهليّة، وأنا لا أحسِنُ الكهانة؛ غيرَ أنِّي كذبتُ عليهم، فهذا جُعلٌ أعطَونيه عن تلكِ الكهانة التي ادَّعيتُها وأنا لا أحسنُ الكهانة، فأدخَل أبو بكر يدَه في جوفِه، وتقيَّأ كلَّ ما دخل، فقيل له: يرحمك الله يا خليفة رسول الله، أهذا من لقمةٍ واحدة؟! قال: والله، لو لم تخرُج إلا بخروجِ نفسي لحاولت، إنِّي سمعتُ رسولَ الله يقول: «كلّ لحمٍ نبتَ من سُحتٍ فالنار أولى به» [6]. ولذا قال بعضُ السّلف: "والله، ما سبَقهم أبو بكرٍ بكثرةِ صلاةٍ ولا صيام، ولكن بإيمان وقَر في قلبه" [7]. 

 

قالوا: إنَّ الإمامَ أبا حنيفة النعمانَ بن ثابت رحمه الله أحد الأئمة الأربعةِ المتبوعين، كان يشتغِل في تجارة البزّ، وكان عنده نوعٌ من البزِّ فيه خروقٌ وشيء من النَّقص، باعَه وكِيلُه من غير أن يُشعِر المشتريَ بما فيه من العَيب، وكان أبو حنيفةَ يعلَم ذلك، لكنه ما ظنَّ أنه سيشتريه إلاَّ بالسؤال عنه، فجاء إلى عامِله فقال: ما فعَل هذا البزّ؟ قال: بِعتُه، قال: هل أعلمتَ المشتريَ بالنّقص الذي هو فيه مِن بعض الخروقِ في ذلك؟ قال: لا، قال: لماذا؟ قال: ما سألني؛ فبعتُه وقبضتُ ثمنَه، قال: وكم ثمنُه؟ قال: عشرةُ آلاف، قال: يا هذا، تصدَّق بها، فإني لا أحبُّ أن يدخلَ مكسبي شيءٌ من حرام.

 

 

هكذا النفوسُ العالية، والنفوسُ التي تراقب الله، والنفوسُ التي امتلأت قلوبُهم إيمانًا وتقوى. فلنتَّق الله جميعًا في مكاسبنا، ولنتواصَ بالحقِّ والصِّدق والأمانةِ، ولنؤدِّ الحقوقَ كاملة. 
 

 

يا إخواني، كم يسأَل السائلون، يقول هذا السائل: سألتُ من شخصٍ أن يشفَع لي لعملٍ مَا؛ فطلب مني مبلغَ كذا وكذا؛ لكي يعطيَني ذلك العملَ، ويجعلني في تلك الوظيفة.

 

 

فيا إخواني، كيفَ يستحلُّ المسلمُ مالَ مسلِم بغير حقّ؟! إذا كان مَن طَلب منك الشفاعةَ مستحقًّا لها، وأنت قادرٌ على أن تنفَع هذا المسلم؛ فانفعه إيمانًا وطاعةً لله، وأما أن تستغلَّ حاجتَه، فتأخذ منه مبلَغًا ما، تقول: إنها تعقيبٌ وإنها وإنها، والله يعلمُ أنك كاذبٌ في ذلك، فإنَّ هذا حَرامٌ عليك، سواء كان كلُّه لك، أو سواء لك جزءٌ ولغيرك جزء، المهمُّ أنك سعَيتَ في اقتطاعِ مالٍ من مسلِم بلا حقّ، وإن طابت به نفسُه؛ لكنها لم تطِب به نفسُه عن قناعة، لكنَّ الحاجةَ ألجأته إلى ذلك، فخَفِ الله وراقبِ الله، واعلم أنَّ ما أخذتَه من مالِ هذا المسلم ظلمٌ وعدوانٌ، وأنك تأكلُ بذلك حرامًا. 
 

 

فاتقوا الله في مكاسبكم يا عبادَ الله، وخلِّصوا أنفسَكم قبلَ لقاءِ الله، أسأل اللهَ أن يجعلَنا وإياكم من الصادِقين في القولِ والعمل.

 

 

واعلموا رحمكم الله أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
 

 

وصلّوا رحمكم الله على عبد الله ورسوله محمّد صلى الله عليه وسلم كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

 

 

اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين.
 


 

[1] أخرجه أحمد (5/ 261)، وأبو داود في البيوع (3541)، والروياني (1228)، والطبراني في "الكبير" (8/ 238) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (3025).

 

[2] أخرجه مسلم في الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب (1686) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

 

[3] أخرجه أحمد (4/ 227، 228)، وأبو يعلى (1586، 1587)، والطبراني في "الكبير" (22/ 147، 148)، وحسَّن إسناده المنذري في "الترغيب" (2/ 351)، وقال الألباني في "صحيح الترغيب" (1734): "حسن لغيره". ويشهد له حديث مسلم في البر (2553) عن النواس بن سمعان رضي الله عنه بنحوه.

 

[4] أخرجه البخاري في اللقطة (2431)، ومسلم في الزكاة (1071) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

 

[5] أخرجه أحمد (1/ 200)، والترمذي في صفة القيامة (2518)، والنسائي في الأشربة (5711)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (722)، والحاكم (2/ 13)، ووافقه الذهبي، وهو مخرج في "الإرواء" (2074).

 

[6] أخرجه ابن قانع في "معجم الصحابة" (2/ 61)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 297) بدون القصة عندهما، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 31)، والبيهقي في "الشعب" (5760، 5761) من طريق زيد بن أرقم عن أبي بكر، وفي سنده عبدالواحد بن زيد متروك، ولذا ضعفه المناوي في "الفيض" (5/ 17)، وقد أخرج البخاري نحو هذه القصة في المناقب (3842) عن عائشة - رضي الله عنها - من غير اللفظ المرفوع، وقد ورد الجزء المرفوع عن عدد من الصحابة منهم: عمر وجابر وابن عباس وابن عمر وعبدالرحمن بن سمرة وكعب بن عجرة رضي الله عنهم.

 

[7] هذا من كلام أبي بكر بن عياش، انظر: "المنار المنيف" (ص92).

________________________________________________

 

عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ

المفتي العام للمملكة العربية السعودية

  • 6
  • 0
  • 2,580

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً