رؤية شرعية: أرض فلسطين بين الهجرة والرباط
لم يكن أهلنا في فلسطين ليمتلكوا زمام أمرهم إبان التهجير القسري الذي تعرضوا له خلال حرب عام 1948، وبعدها في عام 1967، بل كانوا على خلاف ما أشاع العدو الصهيوني عنهم من تركهم لأرضهم بمحض إرادتهم،
منذ اللحظات الأولى لانطلاق الدعوة الإسلامية، أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه -رضوان الله عليهم- وعياً مفارقاً لذلك الذي كان يسودُ المجتمعَ الجاهلي في مكة، وحرَص أيَّما حرصٍ على إبراز أوجه التباين الفكري والنفسي والديني، وحتى السلوكي والعملي، في جميع تجلياته ومظاهره، وحتى بعد أن هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، وواجه قضية مخالطة المسلمين لأهل الكتاب من اليهود الذين كانوا يمارسون نوعاً من التمايز العنصري على أهل المدينة قبل الإسلام وبعده، استناداً إلى حصيلة التراكم المعرفي الذي تجمع لديهم والمستمد من نصوص ((التوراة)) وفهومها، فقد كان نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم حريصاً على تسجيل انتمائه لتراث النبوات والرسالات السابقة، في الوقت الذي يسجل فيه ((هيمنته)) على ذلك التراث الثري، وتمايزه عن جملة الممارسات والسلوكيات الموهمة تحقيق الاندماج التام مع أهل الكتاب (اليهود) في سلوكياتهم وتصرفاتهم وممارساتهم، وحتى فهومهم للأوامر الإلهية التي شابها التحريف والتبديل.
لذلك، فإن أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابتَه الكرام بالهجرة إلى الحبشة مرتين، وإلى المدينة بعدها، في ظل الظروف الخانقة التي كانت تمر بها الدعوةُ آنذاك، إذ يعبرُ عن عدم تحقق الظروف الملائمة لممارسة المسلمين لشعائرهم وعباداتهم، وتعرضهم للاضطهاد والتعذيب في سبيل ذلك، فإنه بالاتساق مع ذلك، يجسدُ رغبةً نبوية في تحقيق نوع من التمايز الوقائي الذي يحفظ لتلك الثلة المؤمنة نقاء تعاليمها وشعائرها، ومن ثم وجودها الذي كان مهدداً في الوقت ذاته، ومن ثم، فإن الأمر بالهجرة إلى الحبشة -والمدينة بعد ذلك- الذي انقطع بفتح مكة، دون أن ينقطع أمر الوجوب بالهجرة من أماكن الاضطهاد الديني في الأرض، إذ يهدف إلى رفع ذاك الاضطهاد عن كاهل المؤمنين، فإنه يؤمن لهم تمايزاً روحياً وشعائرياً لا يجوز بحال من الأحوال التقليل من أهميته، في الوقت الذي لا يجوز أيضاً أن يؤدي فهمنا له إلى الخلط بين وجوب تحقيقه ووجوب دعوة أولئك المتمايَز عنهم إلى الإسلام، إذ إن للدعوة شروطاً ومقومات، لا مجال لاستعراضها الآن، ووصول المسلمين إلى الحد الذي لا يأمنون فيه على ممارسة شعائرهم وإقامة عباداتهم، قمين -من باب أولى- بالتعبير عن انتفاء الظروف الموضوعية لممارسة الدعوة وتجسيدها.
إن تفهمنا العميق لتلك الغايات التي حرصت عليها الدعوة الإسلامية من خلال أمر أتباعها بالهجرة عند تحقق الاضطهاد الديني، يمكننا من تعقل سر الإلحاح على وجوبه، فالقرآن الكريم يخاطب المسلمين ويطالبهم بالهجرة من أي بقعة يضطهدون فيها، ويستثني منهم المستضعفين في الأرض من النساء والعجائز والأطفال، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97 - 99]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثلُه». (أخرجه أبو داود في سننه برقم (2878).
ومع استواء جميع البلاد في نظر الإسلام من حيث جواز الإقامة فيها، فإن هناك من البلاد ما له خصوصية روحية وتاريخية ولذا حرَص المسلمون على الإقامة بها، لاعتبارات دينية وتاريخية ووجدانية، كالأرض الحرام مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وأرض فلسطين والشام بوجه عام.
ويمكننا اختصار المكانة المتميزة التي حظيت بها أرض فلسطين بالحديث الشريف الذي حث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على شد الرحال إلى المساجد الثلاثة: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى». فضلاً عن التراث الديني والروحي الذي لهذه الأرض المباركة، حسب وصف القرآن لها في غير موضع، وكونها أرض الرسالات والنبوات عبر التاريخ، وأولى قبلتي المسلمين، وثالث الحرمين الشريفين بالنسبة لهم، ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم. ومن ثم فإن أي حديث عن هذه الأرض المباركة (أرض فلسطين) يجب أن يلحظ المكانة التاريخية والروحية لها عند أتباع الشرائع السماوية خاصة، والمكانة الدينية الخاصة لها عند المسلمين، فهي بنظرهم أرض مباركة ذات قدسية كمكة المكرمة والمدينة المنورة.
ولهذا، فإن الدعوات التي شاعت بين المسلمين، في ظل ظروف القهر والاضطهاد العنصري الذي مارسه الصهاينة على أهلنا في فلسطين، بوجوب الهجرة من فلسطين فراراً بالدين إلى حيث يمكن لشعبنا ممارسته وإقامة شعائره، ووصولاً إلى اعتبار (فلسطين) أرض حرب تجب الهجرة منها شرعاً، إن كل تلك الدعوات لا يخفى ضررها على قضية هذا الشعب، وعدالة مطالبه بتحرير أرضه واستعادة سيادته عليها، في الوقت الذي تترك فيه الرؤية الشرعية في هذا الموضوع.
فالأصل في ذلك أن أفضل أماكن الإقامة بالنسبة للمسلم هو حيث أمكنه إقامة دينه وممارسة شعائره، فإذا ضيق عليه في ذلك وعدمت مقاومته لتلك الضغوط، فقد قرر العلماء وجوب هجرته إلى أي بلد يتمكن فيها من إظهار دينه وممارسة عباداته، وإذا حاولنا إسقاط ذلك على الوضع في فلسطين، فإن حكم أرضها -وَفق ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، على اختلاف شروطهم وضوابطهم- هو أنها أرض إسلامية، وإن كانت واقعة تحت نِير الاحتلال، ووجوب الجهاد لتحريرها واستعادتها قائم على كل مسلم، دون أن يغض من ذلك حالة الضعف التي تعتري الأمة حالياً، فإن تعلل (البعض) بوقوع الاضطهاد على أهلنا وعدم قدرتهم على إظهار دينهم وممارسته ممارسة طبيعية، فإن ذلك يسقط أمام ما هو معروف من ثبات أهلنا على حقوقهم ومقاومتهم في مختلف الظروف، وتمكنهم من ذلك على الرغم مما يتعرضون إليه في سبيل ذلك من مضايقات وصعوبات.
ثم إن (فلسطين) الآن أرض للرباط بالنسبة لجميع المسلمين، وفي مقدمتهم أهلها، وإن تقرر في الفقه الإسلامي وجوب الإقامة بالنسبة للأفراد في دار الإسلام المعتدى عليها وعدم جواز الهجرة، إن كان في ذلك مصلحة ظاهرة للإسلام والمسلمين، فإن من المخاطر التي تنتظر أرض فلسطين حال الهجرة منها من تهويد معالمها وطمس هويتها الإسلامية والعربية، ما لم يعد خافياً على أحد، فإذا انضم إلى ذلك المنافع المتوخاة من رباط أهلنا وثباتهم في أرضهم برغم كل ما يتعرضون له، ظهر الأمر أكثر.
وما اندحار العدو الصهيوني من (غزة هاشم) مؤخراً إلا نتيجة طبيعية لذلك الثبات والرباط وباعتراف الصهاينة أنفسهم، أنه جاء تحت ضغط ممارسة شعبنا لرباطه في أرضه من خلال عناصر مقاومته، وتحت وطأة الخوف من العامل الديمغرافي (السكاني) المتفجر في وجوههم، فهم (الصهاينة) يعلمون يقيناً أن ثبات أهلنا في فلسطين ورباطهم هناك، وتزايد أعدادهم، في ظل الهجرة المعاكسة التي يتعرض لها الكيان الصهيوني، وهو الدافع المباشر والأساسي لقيامهم بالاندحار من غزة، لا يعبؤون بمن وراءهم.
فـ «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها»، وفي السنة النبوية أن ابن حوالة رضي الله عنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنوداً مجندة، جند بالشام وجند باليمن وجند بالعراق»، قال ابن حوالة: خِر لي يا رسول الله إن أدركت ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: «عليك بالشام، فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عبادة، فأما إن أبيتم فعليكم بيمنكم، واسقوا من غدركم، فإن الله توكل لي بالشام وأهله». أخرجه أبو داود في سننه برقم (2483).
فكيف إذا علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن وجود هجرة كبرى في المستقبل نحو أرض الرباط (فلسطين) لا العكس: «ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزَمُهم مُهاجَرَ إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الله وتحشرهم النار مع القردة والخنازير». (أخرجه أبو داود في سننه برقم (2482).
لم يكن أهلنا في فلسطين ليمتلكوا زمام أمرهم إبان التهجير القسري الذي تعرضوا له خلال حرب عام 1948، وبعدها في عام 1967، بل كانوا على خلاف ما أشاع العدو الصهيوني عنهم من تركهم لأرضهم بمحض إرادتهم، أشد ثباتاً واستمساكاً بأرضهم في وجه عدوان عتاة المجرمين من الصهاينة، ولقد سجل التاريخ لنا من المجازر والمذابح التي قام بها الصهاينة واعترفوا بها لاحقًا، ما يؤكد شدة تماسكهم بأرضهم وثباتهم عليها، من دير ياسين إلى كفر قاسم إلى مجزرة قبية إلى خان يونس، حتى مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف منذ سنوات خلت، ولولا رباط شعبنا وثباته، وفهمه لجوهر دينه وحقيقة الأوامر الشرعية الموجهة تجاهه بخصوص مواجهته مع العدو الصهيوني، بوصفه طليعة الأمة وحصنها الأول - بخلاف ما قام به ثلة من الفقهاء وما أشاعوه من فهم خاطئ- لكنا الآن ندرس في كتب التاريخ عن شعب سكن أرض فلسطين في حقبة من التاريخ، والله وحده يعلم إن كانت مناهجنا سوف تسمح لنا بالتلفظ باسمه بعد موافقة ((السيد)) الأمريكي المطاع.
________________________________________
الكاتب: هشام منور
- التصنيف: