جهد المُقل في تبرئة يوسف عليه السلام من الهمّ المُخل (2)
ثاني القطرات : مُتناولين من خلالها لوازم السياق بين قولها "هيت لك" وقوله عليه السلام "معاذ الله..."
محمد بوقنطار
ولنبدأ هذا الغيث بأول قطراته...(يتبع)
القطرة الأولى : مناقشين ابتداء مُعطى البشرية، وازنين حظ هذا المُعطى بميزان النقل والعقل، حتى يتسنى لنا ترشيد مفهوم "الهمِّ" كي لا يكون هذا المعطى على يوسف عليه السلام يكرس التهمة ويثبت الإدانة، وإنّما المراد المحمود شرعا وكونا أن يكون هذا المعطى له ولصالحه يُعضد رصيده الأخلاقي بما يتواءم ويطرد كلازمة في مقتضى العصمة، كما لا يقدح في حكمة الاصطفاء الرباني لموضع ومحل رسالته.
ذلك أن السياق التراتبي "الكرونولوجي" لأحداث أحسن القصص يحكي بالمتواتر قطعا غير المكرر في القرآن أن يوسف عليه السلام أسرّوه بضاعة لينتهي به المطاف منتقلا في سياق التمكين المستشرف له وعدا من ربّه ومولاه سبحانه، حيث رحلة الابتلاء في مقدماته، يبدأ من غيابات الجب، منتهيا به المطاف في قصر العزيز وزير مالية حكومة الملك الفرعون، وقد كان هذا بعدما اشتراه من السيّارة، ليحلّ ضيفا تغمر حياته ومقدمات هذا التمكين وصية هذا العزيز لامرأته : أن أكرمي مثواه رجاء وعسى أن ينفعنا، أو نتخذه ولدا، وقد كان يومها طفلا صغير السن، تواطأت روايات الكثير من المفسرين على كونه إبانها لم تتجاوز سنه الخامسة، وقد جاء في ثنايا بعض كتب التفسير وعلى حكاية بعض العلماء ما يعضد حقيقة حداثة سِنِّه، وهم يشرحون في تسويغ عقلي منطقي ذوقي إشكالية سبقه بمعرفته لإخوته لما دخلوا عليه وهم لمعرفته منكرون، ذلك أن عقل الصغر ومعه ذاكرة الطفولة هما أوثق في تخزين الصور والمعلومات، سيما وأنّهم إي إخوته كانوا أكبر منه سِنّا فلم يكن قد طرأ عليهم كبير تغيير، طيلة غربته عنهم، وبعده عنهم وعن أبيه يعقوب، في مقابل خصوصه هذا نجد أنه كصغير قد تعرض لتغييرات قد تكون استوعبت كلَّه شكلا وحجما وصورة، الأمر الذي يجعل مسألة التعرف عليه صعبة أو شبه مستحيلة.
ولك أن تتخيّل على نحو متجرد حياة طفل صغير حباه الله بصورة ملائكية يكشف عنها السياق القرآني في إطار الانبهار الأخاذ الذي وقع لنسوة المدينة أول ما رأينه، إذ قال الله تعالى على لسانهن "وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم"، يعيش بين مكامن عطف سيدة اجتمعت فيها القرائن الثلاث "المنصب والمال والجمال"، إن معطى البشرية في ظل وضع يفيض حنانا وعطفا وجميل تعلق من سيدة تجاه طفل مكفول، ليمشي (معطى البشرية) في اتجاه أن هذا الصغير ما فتئ يتربى بين جوانح وجدانه، وينمو ويكبر في فؤاده إحساس الأمومة تجاهها، فلطالما شبّ معها في خلوات تحكمها ضوابط الأمومة والبنوة، قد استمرأ في معاملتها بما لا يفرق قيد أنملة عن تعامل ومعاشرة أم لابن من أبناء بطنها.
ولعلها إن كانت هي بعد طول أمد وقد اشتد عوده، قد نسيت أو تناست هذا الإلف المستمرأ تحت قهر وسطوة ما حباه الله به من جمال أخاذ، فحصل ما حصل منها من فعل المراودة ، فما كان له هو أن يبادلها نفس الشعور ولا أن يقايضها عين السلوك المشين، ومتى ذلك؟ بعد أن يكون في استحالة مستحيلة قد انسلخ عن، وتحلّل من، مشاعر الأمومة التي استوطنت دواخله، وعمّر إحساسها العميق الوثيق فؤاده لسنين عددا، لتتحرك فيه بغثة نوازع الشهوة وتضطرم نيران النزوة فيتعلق قلبه، وتميل نفسه إلى امرأة لا تحل له شرعا ولا عرفا ولا يقبل على فعلها ذو مروءة، فحاشاه ثم حاشاه، وهو الذي لمّا بلغ أشدّه أتاه ربه حكما وعلما وجعله من المحسنين، قال تعالى "ولمّا بلغ أشدّه آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين".
ويا للعجب كيف تُحشر هذه النقيصة في سجل سيرة نبي من المخلصين فيُساق شخصه الكريم في مثل هذا الاحتمال المرجوح توهمه أو توقعه أو وقوعه من مكفول تربّى في كنف كافلته تُنظف جسده وترجل شعره، وتُقبّل جسده الصغير في براءة، وربما تكشف عن مواضع قُبُله ودُبره في ضرورة، فهل يا ترى سمعنا يوما أن مكفولا ابنا تحركت فيه نوازع الشهوة وقد ضمته أمه الكافلة إلى صدرها، أو قد تربص بما لا يحل بينما رأى من كافلته سفورا أو صادفها يوما في زينتها، أو وهي خائضة في وضع ملابسها، إنها احتمالات لا يُعمّر طيفها المقبوح طويلا في مخيلة من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
ولذلك فمتى ما استقر بياض هذه الصور في وجدان الأنقياء الأتقياء من أيها الناس، وكان هذا البياض وجاءت تلك البراءة في المكفول وفينا كأيّها الأبناء مع أيّها الأمهات راجحة ـ ولا نبرئ النفس البشرية مطلقا، وإنّما لا تزال القواعد تؤسس في مقام الأخلاق على الجُلّ الغالب ـ إذا كان هذا مستبعدا معدومَ الاحتمال لا عين له ولا أثر، فهو في عبد من عباد الله المخلصين، ونبي من الأنبياء المحسنين وأخ كريم لسيّد الثقلين آكد ومقرر، وضده مرجوح، مستبعد، ممجوج بالفطرة، مذموم بالطبع، مستصغر الشأن، مأنوف الوزن، معارض لمقتضيات مقام النبوة، مخالف لحكمة الله في حيث يجعل رسالته اصطفاء واجتباء سبحانه وتعالى.
إن معطى البشرية إذاً والذي قدّمه بعض المفسرين، بين أيديهم مستسيغين أو مسوّغين ـ ببراءة وحسن نية طبعا ـ رجحان احتمال وقوع الهمّ المخل وميل نفس هذا النبي الكريم لمقارفة المحظور المنافي لملة وسيرة آبائه من المصطفين الأخيار، هو مُعطى يمكن استثماره في تزكيته، والاستبراء لمقام النبوة، وهاهنا وجب التنبيه على خصيصة هذا الأمر إذا ما فزعنا إلى إسقاط واقعة مراودة امرأة العزيز، على نظيرها مِمّا وصلنا من قصص سندرجها في محلّها وأوانها المناسب من هذه السلسلة، والتي ضَارَعَتْ فيها أحداث وتفاصيل قصة يوسف وامرأة العزيز، ما وقع لبعض الأعيان من أمة سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وسطّر لهم التاريخ الإنساني مواقف ضاربة في عمق العفة والخشية وجب أن تكتب بماء العيون، مع أن الطرف أو النسوة المراودات كن غريبات عن المراودين عن أنفسهم من شباب أمة الوسط، ومن تدبر هذا الإسقاط في دائرة المقارنة، تبيّن له أن يوسف عليه السلام كان له امتياز لم يكن متسنى لغيره ممن وقع في شراك المراودة والابتزاز الغرائزي، ذلك هو امتياز الإلف المستمرئ، وخصيصة الإحساس بمشاعر الأمومة تجاه من حصل منها فعل المراودة، وقد تمنت بمعيّة زوجها العزيز يوما وهي تستقبله يافعا صغيرا في قصرها أن ينفعها أو تتخذه ولدا...
يُتْبع مع :
ثاني القطرات : مُتناولين من خلالها لوازم السياق بين قولها "هيت لك" وقوله عليه السلام "معاذ الله..."
ثالث القطرات : مُستقرئين عبارات السياق وإشارته المتعلقة بإحكامها لإقفال الأبواب واستباقهما الباب في لحاق محموم، وملاقاة سيدها بترتيب وتعقيب له إحالاته...
ثم يُتبع بباقي القطرات بإذن الله تعالى، سائلين الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه إنه ولي ذلك والقادر عليه آمين.
محمد بوقنطار
محمد بوقنطار من مواليد مدينة سلا سنة 1971 خريج كلية الحقوق للموسم الدراسي 96 ـ97 الآن مشرف على قسم اللغة العربية بمجموعة مدارس خصوصية تسمى الأقصى.
- التصنيف: