الحداثة في مقابل الدين
إنَّ المرء حين يفتح الحِوَار مع غير المُسلِمينَ، في إطار تَبَادُل وتَدَاوُل المعرفة والخِبْرات، إنَّما يسعى إلى إدراكِ المَنَاهِج العِلْميَّة لا التَّربويَّة، واستيعابها بِشَكْل حَذِر وفَطِن، لا الابتلاع التَّام دون التَّمييز بين الصَّالح والطَّالِح،
إنَّ المرء حين يفتح الحِوَار مع غير المُسلِمينَ، في إطار تَبَادُل وتَدَاوُل المعرفة والخِبْرات، إنَّما يسعى إلى إدراكِ المَنَاهِج العِلْميَّة لا التَّربويَّة، واستيعابها بِشَكْل حَذِر وفَطِن، لا الابتلاع التَّام دون التَّمييز بين الصَّالح والطَّالِح، التي ارْتَكَزتْ عليها البُلدان المُتَقَدِّمة في بِناء حَضَارتها ومَجْدِها، أمَّا التَّربية والثَّقافة فيستمدها مِن دينِه، وتُرَاثِه، والعُرْفِ السَّائد، الذي لا يَصْطدمُ بِالْقِيَم الحضاريَّة الإسلاميَّة لِمُجْتَمعِه، وبذلكَ يصبح الهدفُ مِنَ التلاقح الفكري هو: إدراكُ الحَضَاراتِ الإنسانيَّة فِي عُمْقِها المَعْرفِي، وليس الوُلُوغ في فِكْرها التَّربوي، وفَلْسفتها الحياتيَّة.
يقول المَثَل الإيطالي: "لِكُلِّ شخصٍ حقيقته الخاصَّة به"؛ لكن ما يُلاحَظُ بالنِّسبة لهؤلاءِ الحَدَاثِيينَ الرَّاديكاليينَ، أنَّهم يَسْعَوْنَ إلى الانْسِلاخ مِن هُوِيَّتهم، وابتلاعِ كلِّ ما هو قادِم منَ الضفَّة النَّصرانيَّة، ويعجبني قول جُبران خليل جُبْران - رغم أنَّه نَصْراني - لكنَّه شَخَّصَ أزمة هؤلاءِ في عِبارات جميلة رَقْرَاقَة بِقَوله: "قَلَّد الغربُ الشَّرقَ، بحيثُ مضغ، وحَوَّلَ الصَّالِح مما اقتبسه إلى كيانه، أمَّا الشرقُ فإنَّه اليوم يُقَلِّد الغربَ، فيتناول ما يطبخه الغَرْبيونَ ويَبْتلعه، دون أن يُحَوِّلَه إلى كيانه؛ بل إنَّه على العَكْس يُحَوِّل كيانه إلى كِيانٍ غربي، فيبدو أشْبه بِشَيْخ هَرَمٍ، فَقَدَ أَضْرَاسه، بِطِفْل لا أضراس له".
والتَّجربة اليابانيَّة مثال صارِخ وساطِع لأُنْموذجٍ، استطاع في ظَرْفٍ وَجيزٍ أن يخرجَ مِن رِبْقة التَّخَلُّف إلى بريقِ إشعاع التَّقَدُّم، دون مَحْو ثقافته، وإرثه العتيق الوَثَنِي البُوذِي؛ بل أعجب مِنَ الحَدَاثيينَ العلْمانيينَ في بُلداننا العربيَّة والإسلاميَّة، الذين لَمْ يستفِيدوا مِن هذا العِمْلاق الآسيوي، بِسَعْيهم إلى تقليدِ الغَرْب الأَسْود، بِتَاريخه المُتَسَلِّط على المسلمينَ، حَذْو القُذَّة بِالقُذَّة، بِطَمْس هُويته الدِّينيَّة، ها هنا نترك المجال للفيلسوف الفرنسي "برترانرد راسل"، الذي استفادَ مِن هذا النّموذج الذي باتَ يُؤَرِّق الرَّأي العام الغربي، يقول: "كانتِ اليابان دولة مُتَخَلِّفة اقتِصاديًّا، ولم تكنْ تشعر أبدًا أنها مُتَخَلِّفة ثقافيًّا".
ومما يحز في النَّفس إقبال بني علمان على الاصطيادِ في الماء العَكِر، من استيرادِ ثقافة الآخر المَمْسُوخة، من إعلامٍ ماجِنٍ، ولباسٍ عارٍ فاضِحٍ، وفوضَى أخلاقيَّة، وتَشَتُّت أُسَري، ومناهج منحلة، زعموا أنَّ التَّقَدُّم في العُرْي، فراحوا ينزعون الثياب، ومجانبة العِلْم وآلياته التي هي أساس نَهْضة البُلدان، ما لم تَتَعارض مع المبادئ الأساسيَّة السَّامية للإسلام.
يقول الشاعر العربي:
قَلَّدُوا الغَرْبِيَّ لَكِنْ بِالفُجُور ♦♦♦ وعَنِ اللُّبِّ اسْتَعَاضُوا بِالقُشُور
لهذا؛ كان منَ الأََََوْلى كَما قال أحد دعاة هذا العصر: "فالواجِب أن نأخذَ الحقَّ مِن كلِّ شخص، وأن نَتَجَنَّبَ الباطل مهما كان قائلُه"، وقبله ابن رشد رحمه الله الذي قال: "إنا ألفينا لمن تَقَدَّمَنا منَ الأمم السَّالفة نَظَرًا في المَوْجُودات، واعتبارًا لها بِحسب ما اقْتَضَتْه شرائط البُرهان، أن نَنْظُرَ في الذي قالُوه من ذلك، وما أثبتوه في كُتُبهم، فما كان منها مُوافِقًا للحَقِّ قبلناه منهم، وسُررنا به، وشَكْرناهم عليه، وما كان غير مُوافقٍ للحَقِّ نَبَّهْنا عليه".
وخُلاصة القول: فالفِكْر الحَدَاثي يُرَكِّز على النُّقَط التَّالية:
• إعلان القَطِيعة التَّامَّة مع الدِّين: ومِن ثَمَّ القرآن الكريم، وتَجَاوُز ما يسمونه "سُلطة النَّص، أو التَّاريخانيَّة"، والتَّأكيد على النَّص بأنَّه يجب أن يُقْرَأ في سِيَاقِه التاريخي - أي النَّص الشَّرعي بِطَبِيعة الحال - وظُهُور مذاهب غربيَّة في البيئة الإسلاميَّة، التَّفكِيكيَّة، الهيرمونيطيقا، التَّوفيقيَّة، الدوغمائية، البراغماتية، التَّاريخانية.
• التَّمَرُّد الصَّارخ على القِيَم، والثَّوَابِت الفِكْريَّة، والأَخْلاقيَّة: والتَّضْييق الشَّديد، والمَكْر، والتَّمْوِيه المديد بِكُل ما له صِلة بالدِّين، تارةً بِحَمْل شِعار القُرآنيَّة بالتَّشكيك في السُّنَّة، كما نجد عند "محمد عابد الجابري"، و"محمد صبحي منصور"، أو في كليهما معًا: "القرآن، السنة"، مع زَعِيم التَّشكيك "طه حسين"، ثم بعده "نصر حامد أبو زيد"، و"حسن حنفي"، القائِمة مفتوحة ما لم تُرَدَّ على أعقابها من قِبَل ورثة الأنبياء بِحَقائق دامِغة، وأدِلَّة مُفْحِمَة وقاطِعة، تبطل مَزَاعمهم، وتَنْفِي تأويلاتهم وتَحْريفاتهم.
• الدَّعوة إلى الاقْتِداء بالأَسْياد البيض - الغرب -: بِكُل ما فيه مِن إنجازاتٍ مَعْرفيَّةٍ، وظواهر إِلْحَادِيَّة، وتَمَزُّقات اجتماعيَّة: الأسرة المُفَكَّكَة، انتشار اللواط والسُّحاق، والعلاقات المُحَرَّمَة.
• الدَّعوة إلى فَسْح مجال الاجتهاد الشَّرعي للجميع: ومِن ثَمَّ إقْصَاء دور العُلماء - سبحان الله - هل يُريدُون أن تكونَ أمَّتُنَا ثُلَّةً منَ الغلمان بلا رُؤوس؟ ويرحم اللهُ أبا حنيفة؛ إِذْ مَرَّ على جماعةٍ يَتَفَقَّهُونَ، فقال: أَلَهُم رأسٌ؟ قالوا: لا، قال: إذًا لا يُفلحون أبدًا؛ أخرجه الخطيب في "الفَقِيه والمُتَفقه" (790).
ولله دَرُّ القاضي عبدالوهاب بن علي المالِكي رحمه الله إذ يقول:
مَتَى يَصِلُ العِطَاشُ إِلَى ارْتِوَاءٍ *** إِذَا اسْتَقَتِ البِحَارُ مِنَ الرَّكَايَـا
ومَنْ يَثْنِي الأَصَاغِرَ عَنْ مُـــرَادٍ *** إِذَا جَلَسَ الأَكَابِرُ فِي الزَّوَايَـــا
وإِنْ يَتَرَفَّعُ الوُضَعَاءُ يَوْمًــــــــا *** عَلَى الرُّفَعَاءِ مِنْ إِحْدَى الرَّزَايَا
إِذَا اسْتَوَتِ الأَسَافِلُ وَالأَعَالِــي *** فَقَدْ طَابَتْ مُنَادمَةُ المَنَــايَــــا
وخُلاصة القول:
إنَّ مَن يُنْعِم النَّظَر في زماننا هذا، يرى أنَّ الحَدَاثيينَ المادِّيينَ العلْمانيينَ يسلكون اتِّجاهينِ، لا ثالِثَ لهما:
الأَوَّل: إمَّا أن يسيروا سَيْر البلهاء المُتْرفين، الذين ينتهي بهم قَصْدهم على مَزَابل الحَضَارة الغربيَّة، وما أنْتَجَه مِن إباحيَّة وفَسَادٍ.
وإمَّا أن تدفع بهم دراستهم الغربيَّة، والبحث فيها دون تمحيص ومرجعيَّة إلى قراءة التَّاريخ العَقَدي قراءةً خاطِئة، فيلبسون قبعات مُزَرْكَشة بألوانِ العلْمانيَّة الإِلْحاديَّة؛ لِلطَّعْن في ديننا، وبِسَبِّ نَبِينا صلى الله عليه وسلم.
لكن للأسف، أصبحوا مثل الغُرَاب الذي أراد تقليد الحَمَامة، لا هو أتقن مِشْيَتَها، ولا هو حافظ على مِشْيته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
- التصنيف: